معنى الوقوف بعرفة











محمد أكرم الندوي




قالوا: ما معنى الوقوف بعرفة؟

قلت: هذا سؤال ذو شأن، وله جوابان: أحدهما مجمل، والثاني فيه تفصيل بيان.


قالوا: ما هذا؟ تقسيم وحد وحجة وقياس! هل أفسد ذوقك إلا معايشتك لمنطق أهل السفسطة والتخليط، وذوي التنقير والتشقيق، سألناك سؤالا بسيطا، فعقدته تعقيدا.

قلت: ارفقوا بي، فما كل تصنيف متأثرا بالمنطق اليوناني أو مستعارا منه، وما كل تقسيم وتنويع تكلفا في التنقير والتشقيق، فحرف "أما" بالعربية للتفصيل، ومعناه التقسيم والتنويع، وورد في القرآن الكريم، ولدى العرب في جاهليتها، وإجمال الكلام أولا ثم تفصيله صورة من البلاغة، ويشتمل عليه كل لسان، وليس مختصا بأهل اليونان.

قالوا: أعذرناك، فأفدنا بجوابك المجمل.

قلت: الوقوف صلاة كما أن الطواف صلاة، والحج جامع لأنواع الصلاة كلها.

قالوا: ما أرويت غلتنا فأتنا بجوابك المفصل، لعل فيه شفاء لما في الصدور،

قلت: الصلاة إقبال على الله تعالى، والإنسان إذا أقبل على الملك وهو بين يديه كان خاشعا، وإذا غاب عنه قل خشوعه أو انعدم، فكذلك إذا كان العبد في الطواف يتخايل الله، أو في عرفة على باب حرم الله كان قانتا خاشعا، وكان إقباله على الله إقبالا فيه خضوع وخفض جناح، والطواف والوقوف لا يحصلان إلا في موضعهما المختص بهما، والصلاة لا تختص بحرم الله، بل تصح وتجب في كل بقعة من بقاع الأرض، فلا يتحقق فيها الشهود والحضور إلا بتكلف ومجاهدة، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يكره العبد عليه بكثرة القيود من القيام والركوع والسجود والقراءة والتسبيح والامتناع عن الأكل والشرب والكلام، وهذه القيود والشروط تذكره بقيامه بين يدي الله تعالى وتحمله عليه خاشعا قانتا.

قالوا: لم نفهم معنى الصلاة في الوقوف،

قلت: الوقوف جامع لمعان شتى من الإقبال على الله تعالى والتوجه إليه في إنابة وخشوع.

قالوا: اشرحها لنا شرحا وافيا،

قلت:

1- إنه وقوف بباب الله تعالى، فمنه يدخل الحاج إلى الحرم، فلا يزال واقفا منتظرا معظم النهار حتى يؤذن له بعد الغروب في الدخول في أقرب جزء من أرض الحرم ذاكرا لله ومكبرا، فيدخل في المزدلفة، وهو مثل الوقوف بالمدخل من ديوان الملوك حيث يتأدب الانسان ويبقى خاشعا خاضعا وقانتا خافض الجناح.

2- إنه ذكر للحبيب، وأي حبيب أحب من رب العالمين الرحمن الرحيم، وقد أكثر الشعراء العرب في الجاهلية والإسلامية الوقوف بديار الحبيب يذكرهم به تذكيرا، يقول امرؤ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل=بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها=لما نسجتها من جنوب وشمأل

3- إنه استمتاع بآثار الحبيب، فقد جعل الله عرفات من شعائره، ويتحول العبد من الشعائر معتليا إلى الله تعالى، وقد مضى من ذلك في شعر امرئ القيس، ويقول عنترة بن شداد:

هل غادر الشعراء من متردم=أم هل عرفت الدار بعد توهم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي=وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي

فوقفت بها ناقتي وكأنها=فدن لأقضي حاجة المتلوم

وتحل عبلة بالجواء وأهلنا=بالحزن فالصمان فالمتثلم

حييت من طلل تقادم عهده=أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

ويقول لبيد بن أبي ربيعة:

فوقفت أسألها وكيف سؤالنا=صُمًّا خوالد ما يبين كلامها

4- قد يمضي على الإنسان فترة طويلة منقطعا عن حبيبه فيحتاج إلى ما يهز شعوره ووجدانه هزا ويبعث فيه كامن الحب، والوقوف في عرفات يوم عرفة سبب قوي لإثارة معاني حب الله في الإنسان وتهييج شوقه، وقد أشار إلى مثل هذا المعنى بعض الشعراء، قال زهير بن أبي سلمى:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم=بحومانة الدراج فالمتثلم

ودار لها بالرقمتين كأنها=مراجيع وشم في نواشر معصم

بها العِين والأرآم يمشين خلفة=وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقفت بها من بعد عشرين حجة=فلأيًا عرفت الدار بعد توهم

أثافيّ سُفعًا في معرَّس مرجل=ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم

فلما عرفت الدار قلت لربعها=ألا أنعم صباحًا أيها الربع واسلم

5- يقف الحاج بعرفة ويزيده الوقوف إلحاحا في ذكر ربه فيبكي ويتضرع إلى ربه، وأشار امرؤ القيس إلى هذا المعنى في الوقوف حيث قال:

كأني غداة البين حين تحملوا=لدى سمرات الحي ناقف حنظل

وقوفا بها صحبي علي مطيهم=يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وإن شفائي عبرة مهراقة=فهل عند رسم دارس من معول

وقال طرفة بن العبد:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد=تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

وقوفًا بها صحبي علي مطيهم=يقولون لا تهلك أسًى وتجلد

6- ويدمن الحاج في الإلحاح، فلا يرغب أن يغادره حتى يتحقق له قصده ومراده، وما أحسن ما قال المتنبي في هذا المعنى من المبالغة في الإلحاح، وهو من نوادر التمثيل:

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها=وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

قالوا: لقد كشفت لنا الغطاء عن معنى الصلاة في الوقوف، وكون الوقوف باعثا قويا على جمع الهمة للعبادة والإنابة، وبيَّنت لنا وجه القيود والشروط في الصلاة، وانطلاق الطواف والوقوف منها، فأوصنا بشيء يقرب الحقيقة إلينا تقريبا.

قلت: عليكم بالصلاة، حافظوا على فرائضكم في المساجد جماعة، وأكثروا من التطوع في بيوتكم، واقصدوا بيت الله الذي رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل حاجين أو معتمرين متى تيسر لكم، فإن الحج والعمرة ينفيان عنكم ذنوبكم، ويزيدانكم خشوعا، ويعينانكم على إحسان صلاتكم، وإحسان الأعمال من أعظم مقاصد العباد، فإن الله يحب المحسنين.