إقرار المشركين للربوبية
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونشهد أن لا إلــــــــه إلا هو وأن محمداً عبده ورسوله
وبعد فهذا بحث عقدي مهم عن مسألة إقرار المشركين للربوية اختصرتها من رسالتي في المسألة للفائدة.
فنقول إن إقرار مشركي العرب للربوبية ذكره جمع من أهل العلم من علماء السلف والخلف ([1]) وهو المنصوص في القرآن والسنة، وإذا عرف الإنسان ما كان المشركون يقرون به يعلم علم اليقن ما أنكروه، ومن ثمّ تأتي هذه المسألة وفائدتها، فنذكر من القرآن والسنة وأقوال السلف والخلف ما ينسف مما ذكره أهل الأهواء بإذن الله تعالى، ونبدأ بما جاء في القرآن من إقرارهم للربوبية، ثم ما جاء في السنة النبوية، ثم ما جاء في أشعار الجاهلية، ثم أقوال العلماء من السلف والخلف ولكثرة النصوص القرآنية والنبوية لهذه المسألة أردنا أن نجعلها في مباحث أربعة:
المبحث الأول: إثبات إقرار المشركين للربوبية وذكر ما قرره القرآن من صور ذلك.
الصورة الأولى من إقرارهم بالله
الصورة الأولى : جاء في القرآن الكريم أنهم إذا سئلوا مَن خلق السموات والأرض وغيرهما من المظاهر الكونية؟ أنهم يقولون:الله، وهذا كثير في القرآن نقتصر طرفاً منه.
1- قال تعالى: {{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}} [المؤمنون:84-89].
قال أبو جعفر ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بالآخرة من قومك: لمن ملك الأرض ومن فيها من الخلق، إن كنتم تعلمون من مالكها؟ ثم أعلمه أنهم سيقرون بأنها لله ملكا، دون سائر الأشياء غيره..اهـ
قال: (فأنى تسحرون) يقولون: فمن أي وجه تصرفون عن التصديق بآيات الله، والإقرار بأخباره وأخبار رسوله، والإيمان بأن الله القادر على كل ما يشاء، وعلى بعثكم أحياء بعد مماتكم، مع علمكم بما تقولون من عظيم سلطانه وقدرته؟!.اهــ([2]).
وقال ابن كثير: يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا، ولا يملكون شيئا، ولا يستبدون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] .اهــ .([3]).
وقال الرازي فخر الدين: اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات الرد على منكري الإعادة وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، وذلك لأن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى..اهـ.([4]).
2- وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون. الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون }[العنكبوت:61-63].
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله، من خلق السموات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر لعباده، يجريان دائبين لمصالح خلق الله، ليقولن: الذي خلق ذلك وفعله الله. (فأنى يؤفكون) يقول جل ثناؤه: فأنى يصرفون عمن صنع ذلك، فيعدلون عن إخلاص العبادة له. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فأنى يؤفكون) : أي يعدلون.اهـ.([5]).
وقال القرطبي: قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء) أي من السحاب مطرا. (فأحيا به الأرض من بعد موتها) أي جدبها وقحط أهلها. (ليقولن الله) أي فإذا أقررتم بذلك فلم تشركون به وتنكرون الإعادة.اهـ.([6]).
وقال الحافظ ابن كثير: يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو؛ لأن المشركين -الذين يعبدون معه غيره -معترفون أنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، ...فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك".اهـ([7]).
3- وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} [لقمان:25].
قال القرطبي: قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي هم يعترفون بأن الله خالقهن فلم يعبدون غيره.اهـ.([8]).
[1] يقول شيخ الإسلام :..لم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم.اهـ. درء تعارض (9/378).
[2] تفسير الطبري (19/ 63- 65).
[3] تفسير ابن كثير (5/ 488- 489 ط طيبة).
[4] تفسير الكبير المسمى" مفاتيح الغيب"(23/ 290ط إحياء التراث العربي – بيروت).
[5] تفسير الطبري (20/ 58- 59).
[6] تفسير القرطبي (13/ 361 ط دار الكتب المصرية – القاهرة).
[7] التفسير (6/ 294).
[8] التفسير (14/ 75).