لقد خلقَ الله الإنسان وكرَّمه، وجعلَه مُتميِّزًا مُتفرِّدًا في تركيبه وتكوينه وتكليفِه، روحٌ وعقلٌ وجسمٌ، قبضةٌ من طين الأرض، ونفخةٌ من روح الله، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [الحجر: 28، 29].

خلقَه في أحسن تقويم، وجعلَ في أعماقِه أخلاقًا ومشاعِر وأذواقًا، والذين يستشعِرون مقامَ الروح والقلب والعاطِفة أكثرُ تحقيقًا لمعاني الإنسانية التي تستمِدُّ منهجَها وقِيَمها من الإسلام.
حمَى الإسلامُ الإنسانيَّة بإقامة الحُدود الشرعيَّة التي من أهم مقاصِدها: المُحافظةُ على حقوق الأفراد، وهذَّبها وعلا بها، في إطار منهج القرآن. وكلما اقتربَ الإنسانُ من ربِّه صلاةً وتعبُّدًا ودعاءً سمَت إنسانيَّتُه، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) [البقرة: 45]، وقال: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]، وقال – سبحانه -:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) [التوبة: 103].

فهذه عباداتٌ مُؤثِّرةٌ في نفس الإنسان، تُربِّي على الصبر والإخلاص، وتُكسِبُ الإنسانَ الأخلاقَ الحميدة، وتُخلِّصُه من ذميم الصفات.
الإسلامُ ينشُدُ كمالَ الإنسانية، وذلك بإحياء مُراقبة الله، قال الله تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 14، 15].
وإذا ساسَ الإنسانُ نفسَه وجاهدَها انقادَت له، وأشرقَت إنسانيَّتُه، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا)[العنكبوت: 69].
الإنسانيَةُ التي زكَّاها الإسلام تضمُّ جميعَ الأجناس والألوان، ليتعارفَ الناس ويتآلَفوا، ويعيشُوا إخوانًا، وليقوموا بواجب الخِلافة في الأرض، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].

ومن مُقتضيات الإنسانيَّة في الإسلام: التعاوُن والتكافُل، وبناءُ معاني الحب والرحمة والتسامُح، وهجرُ الحقد والكِبر والانتِقام، ومنعُ الظلم، ومُسانَدة المُحتاج، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «وكونوا عبادَ الله إخوانًا».

يُحيِي القرآنُ الكريمُ معاني الإنسانيَّة الفاضِلة، ويُرسِّخُ كرامةَ الإنسان، كما يحمِي العواطِف الإنسانيَّةَ من الانحِراف عن أهدافها، ويُحصِّنُها من الصراع البغيض الذي يتنافَى مع آصِرة الإنسانية النقيَّة، ويجعلُها تُبصِرُ الحقَّ، وتعرّفُ الرُّشد، وتُحكِّمُ العقل، وتنشُدُ العدل، قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «وأسألُك كلمةَ الحقِّ في الرضا والغضب».
يُهذِّبُ القرآنُ الإنسانيَّةَ كي لا تهبِطَ بها نزَواتُ الجسد، ودواعي الغريزة إلى الحدِّ الذي يُصبِحُ الناسُ فيه عبيدًا لشهواتهم وملذَّاتهم، ويرتقِي بالحياة حتى لا تتحوَّل إلى صراعٍ بغيضٍ، وحروبٍ مُدمّّرة تُمتَهَنُ فيها الإنسانيَّة.

بلغَت الإنسانيَّةُ في الإسلام شأوًا عظيمًا، ومرتبةً سامِقةً في أهدافها ووسائلها، ومن ذلك: الإحسانُ إلى الوالدَين، بالتكريم والنفقة وخفض الجَناح، وفي رعاية المرأة وأداء حقوقها أمًّا، وزوجًا، وبنتًا، وأختًا، قال الله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء: 23].
وقال – صلى الله عليه وسلم -: «من ابتُلِيَ من البنات بشيءٍ فأحسنَ إليهنَّ، كُنَّ له سِترًا من النار».
وقال: «من عالَ جاريتين حتى تبلُغَا جاء يوم القيامة أنا وهو – وضمَّ أصابِعَه -».
وقال: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي».

وتنعدِمُ الإنسانيَّةُ وتُطمسُ معالِمُها بالاعتِداء على الخالِق في خلقِه، وفي التحليل والتحريم، قال تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل: 4]، وقال – سبحانه -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة: 87].
وقد تبطُر الإنسانيَّةُ وتطغَى، وتتجبَّرُ وتستبِدُّ عندما تصِلُ إلى الرَّفاه، وتُغدَقُ عليها النعمُ والخيرات، قال الله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].
يُفضِي هذا الانحِراف الطُّغيانُ والاستِبداد إلى العقوبة والبلايا، وفي حصول النقص ونزع بركة الخير والرزق، الذي يبسُطُه الله لعباده، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96].

ولا تصحُّ إنسانيَّةُ إنسان، ويكونُ لإنسانيَّته قيمة حتى يتحرَّر العقلُ من الضلال، والفِكرُ من الخُرافة والدجَل، ومن ذلك: ما يقعُ من سحرٍ، وتنجيمٍ، ومُخاطبَة أرواحٍ، وقراءة كفٍّ، وتنويمٍ. فهذه السلوكيَّات تُدمِّرُ إنسانيَّة الإنسان، وتُفسِدُ على المُسلم عقيدتَه وخُلُقَه، وتُلغِي العقلَ والمنطِق.
والذين يُمارّسون الحرقَ والتفجيرَ، وقتلَ المُصلِين في المساجِد، قد طُمِسَت إنسانيَّتُهم وأظلمَت بصائرُهم، والذين يقتحِمون ويُدنِّسون بأجسادهم وأحذيتهم مسرَى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ويقتُلون في ساحاته النساءَ والأطفالَ والرجالَ العُزَّل، قد ماتَت ضمائِرُهم وانسلَخوا من الإنسانيَّة بكل معانيها وصُورها.
قال الله تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].

هذا هو الإيمانُ الذي إذا فقدَته الإنسانيَّة، وفقدَت الاستِبصار بنور القرآن هبطَت إلى الحَضيض، وأهدرَت قيمةَ الإنسان وردَّته إلى مقامٍ دون مقامه الذي وضعَه الله فيه.
لذا فإن المُسلمين يحمِلون رسالةً عظيمةً في العالَم، للارتِقاء بقِيَم الإنسانية، ومُواجهةِ تحديَّاتها، ومع انتِشار المجاعة وتفاقُم الأمراض، وتشرُّد الملايين عن أوطانهم وديارهم، واندِلاع الصراعات.

ذلك أن المُسلم يحمِلُ ضميرًا إنسانيًّا حيًّا يدفعُه لنشر الهُدى، ونجدة المظلُومين، وبثِّ الأمل في شرايين الحياة للمُعوِزين، وإيصال المُساعَدات للمُتضرِّرين، حاملاً معه رسالة السلام والرحمة.
وحين نتأمَّلُ سيرةَ صحابة رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – نرَى أنهم قد سطَّروا أروعَ مُثُل الإنسانيَّة في ضُروب الإنفاق والإحسان، وبانتِشارهم في أرض الله الواسِعة يجُوبون الآفاق، ويقطَعون الفيافِي للتعريف بالإسلام، رحمةً بالخلق، وإرشادًا لهم إلى طريق الحق، وارتِقاءً بالإنسانيَّة ابتِغاءَ وجه الله.

والدُّعاةُ إلى الله في كل زمانٍ ومكان، والباذِلون أنفسَهم في سبيل الله، وأموالَهم في البرِّ، والقائِمون على العمل الخيريِّ، وعلى تحفيظِ القرآن وتعليمه، والذين كرَّسُوا أنفسَهم لنفع الآخرين. كلُّ أولئك متَّعهم الله بإنسانيَّةٍ صادقة، ومشاعِر فيَّاضةٍ ربَّاهم عليها القرآن، فهنيئًا لهم سعادةَ الدنيا، والنعيمَ المُقيم.
قال الله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 11- 16].




رابط الموضوع : http://www.assakina.com/news/news1/7...#ixzz3qtL1A3rE