كيف علم المسلمون العالم تكريم الأدباء؟
أحمد مولود أكّاه
أُعلِن فوز الأديب التنزاني اليمني الأصل عبد الرزاق قُرنح بـ”جائزة نوبل” للآداب لسنة 2021؛ فكان خبر فوزه حديثَ العالم لما تمثله جائزة نوبل من قمة في التتويج الأدبي لأي روائي في العالم. وهو ما يتيح فرصة مناسبة لفتح ملف تكريم الأدباء في تراثنا العربي الإسلامي؛ حيث نجد أن التقدير الأدبي لكبار الأدباء والشعراء كان حاضرا فيه حضورا لا يقل صداه وأثره المادي والمعنوي عن “نوبل” وغيرها من الجوائز العالمية!
ويبرهن ذلك على أن تقليد الجوائز الأدبية لم يكن بدعة محدَثة بالأروقة الثقافية في القرن العشرين، بل إننا نستطيع القول إنه منذ عرف العرب الشعر عرفوا الجوائز، وكلما ارتقت الحواضر الإسلامية ترسخت فيها تقاليد هذه الجوائز وضُبِطت أعرافها وقواعد التنافسية، حتى وصل الأمر بأن جُعل الفقهاء والقضاة الشرعيون حكّاما مرجِّحين لتميز أديب عن أديب!
فقبل نمط جوائز الأدب المعروفة عالميا مثل نوبل وغونكور والبوليتز، ومرورا بمختلف الجوائز العربية للرواية و”إمارة الشعر”؛ كانت فكرة المنافسات الأدبية (شعرا ونثرا خطابيا) وجوائزها أسلوبا تزخر به أسواق العرب الكبرى في الجاهلية -التي كانت تضاهي المهرجانات الأدبية في زماننا- مثل أسواق عُكاظ ومَجَنَّة وذي المَجاز، ومع شروق شمس الإسلام ازدادت تلك الظاهرة قوةً واستحكاما.
وبذلك اتسعت رقعة الآداب وازدحم السوق بأهل القلم وصنّاع الكلمة؛ فلا نندهش لما يثبته إمام مؤرخ نبيهٌ وثقةٌ من أن أحد عظماء الوزراء “مُدّاحه كانوا خمسة آلاف شاعر وزيادة، ومُدِح بثلاثمئة ألف قصيدة”!! ويكاد ينعدم وجود رقعة جغرافية -خارج العالم الإسلامي- يمكن أن يوجد فيها مثل هذا العدد الضخم من الأدباء على نحو ما توافر لحضارتنا في تلك الأيام!
بل إننا لا نستبعد أن تكون الجوائز الأدبية المعاصرة إحدى المؤثرات الحضارية التي انتقلت إلى الأوروبيين من العالم الإسلامي، ضمن مؤثرات أدبية كثيرة سلكت إليهم طريقها من بوابات الأندلس وصقلية وعبر الاحتكاك أثناء الحروب الصليبية، شأنها في ذلك شأن “ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي (التي) كان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوروبي”؛ كما يقول مؤرخ الحضارات الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في ‘قصة الحضارة‘.
ونحن إذْ نستعرض هذا الملمح الفريد من تاريخنا الأدبي في أجواء تغمر فيها السوحَ الثقافية العالمية والعربية ظلالُ جوائز الأدب والإبداع المستقطبة للأدباء كتابا وشعراء، ولاسيما مع حلول مناسبة “اليوم العالمي للرواية العربية” (12 أكتوبر/تشرين الأول سنويا) و”لأسبوع الدولي للرواية” (13-20 أكتوبر/تشرين الأول سنويا)؛ فإننا بذلك نلقي الضوء على الجذور التاريخية في حياتنا الثقافية لهذه الظاهرة الأدبية العالمية، وما قدمته تجربتنا للعالم من خبرة سبّاقة وأصيلة.
فتاريخ الجوائز الأدبية العربية هو ما نلتقيكم اليوم على بساطه في هذا المقال، عبر جولة في المعطيات والمعلومات نصحب أثناءها أدباء العرب وهم يختبرون حظوظ نصوصهم لكسب الرهان، في منافسات يبدو ـمن معطياتها الأدبية وآلياتها الفنيةـ أنها كانت أبرز وجوه صرف ميزانيات الثقافة في أوساط العديد من دول الحضارة العربية والإسلامية ومجتمعاتها عبر القرون.
جذور عريقة
كانت العرب -في جاهليتها- تَعُدّ نبوغ شاعر مُجيد أو تألق خطيب مفوَّه في إحدى قبائلها حدثا قوميا بامتياز تقام له الأفراح وتُتناقل أخباره بين العرب، باعتباره ذخرا نادرا لقبيلته في سلمها وحربها؛ فقد “كانت الشعراء والخطباء عُدَّةً (= سلاحا) للقبائل كالرجال والأموال، بل كان الانتفاع بمكانهم والدفاع بألسنتهم أتمَّ وأكمل”؛ طبقا لأبي علي المرزوقي (ت 421هـ/1031م) في ‘شرح ديوان الحماسة‘.
ولذا يقول ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ/1065م) -في كتابه ‘العمدة‘- مبينا مكانة الشعراء عند العرب: “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر (= آلات الموسيقى) كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه (= الشعر) حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم! وكانوا لا يهنِّئون إلا بغلام يولَد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تُنْتج”!!
ولكل تلك المعاني الرفيعة التي نظر بها العرب إلى الشعر والشعراء، عدّوه سلاحا فتاكاً ومجدا قبليا عالي القيمة؛ فكانوا يرتفعون به غالبا عن المكافأة بالمال وما يرتبط بها أحيانا من تكسُّب وتملُّق. ووفقا لابن رشيق أيضا؛ فإنه “كانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدُهم ما يصنعه [منه] فكاهةً أو مكافأةً عن يد (= معروف/نعمة) لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاما لها”!! ولذا “كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عارا، فضلا عن العامة وأطراف الناس”!!
ومع قيام الدولة الإسلامية وضبطها الكامل -لأول مرة- الفضاءَ الجغرافي العربي تحت لواء سلطة مركزية موَّحدة؛ تغيرت وظيفة الشاعر -إلى حد كبير- فانتقلت من الدفاع عن القبيلة والاعتزاز بالانتساب إليها إلى المنافحة عن العقيدة وارتباط اسمه بها، وصار ذلك أحدَ معايير الفرز بين الشعراء أثناء الصراع مع القوى العربية المناهضة لرسالة الإسلام.
وهو ما يشهد له تصدُّر عدد من شعراء المسلمين للسجال مع مناوئيهم من قريش، ولم يَرضَ النبي ﷺ عن المشارَكات المقدَّمة فيه حتى جاء حسان بن ثابت (54هـ/673م) بشعره؛ فقد قالت أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/678م): “سمعت رسول الله ﷺ يقول: هجاهم حسّان فشَفَى واشْتفى”؛ (صحيح مسلم).
وهكذا إذن “فُضِّلَ حَسَّان [بن ثابت] عَلَى الشُّعَرَاءِ بِثَلاثٍ: كَانَ شَاعِرَ الأَنْصَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَشَاعِرَ النبي ﷺ فِي [أَيَّامِ] النُّبُوَّةِ، وَشَاعِرَ الْيَمَنِ كُلِّهَا فِي الإِسْلامِ”؛ طبقا للحافظ ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘الاستيعاب‘.
ويتواصل في عهد الخلفاء الراشدين ذلك الاهتمام بدور الشعراء في المجال العام داخل فضاء الدولة الإسلامية الذي أرساه العهد النبوي؛ إذ يورد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1449م) -في ‘الإصابة في تمييز الصحابة‘- أنه “كتب [الخليفة] عمر (الفاروق ت 23هـ/645م) إلى المغيرة بن شعبة (ت 50هـ/671م) وهو [واليه] على الكوفة: أن استنشد مَنْ قِبَلَكَ من الشعراء عما قالوه في الإسلام”!
وكانت نتيجة هذه المسابقة الأدبية “الرسمية” فوز الصحابي الشاعر لَبِيد بن ربيعة (ت 41هـ/661م) بجائزة نقدية تمثلت في زيادة راتبه الحكومي خمسمئة درهم، فصار “عَطَاءُ لَبِيدٍ.. أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمئة” تبعا لنتائج ذلك الاختبار الشعري.
رعاية فائقة
وتكشف لنا المعطيات التاريخية أن هذا البعد -الخاص بإشراف حكام الإسلام على المسابقات تنظيما لفعالياتها وتكريما لشخصياتها- شرع في التحول إلى فعاليات تتم داخل مقر الخلافة وفي غيره من مراكز الثقافة العربية، وبما يعكس توظيف التنافس بأنواع وصيغ متعددة الأشكال والأهداف والجوائز، بحسب كل عصر وقضاياه ومكافآته.
وقد أدى ذلك التنافس -وخاصة منذ عصر تعدد الدويلات المستقلة بدءا من مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- إلى بروز طبقة من الحكّام عُرفوا بأنهم كانوا “رُعاة الأدب والأدباء”، سواء لأسباب موضوعية تتعلق بشغفهم بالآداب وازدهارها في دولهم، أو لدوافع سياسية ترمي إلى حشد الطاقات الدعائية للشعراء بوصفهم وسائل إعلام تلك العصور.
واشتهر كثير من هؤلاء الرعاة -ممن أوردنا ذكر بعضهم في هذا المقال- في مدونات التاريخ والتراجم، التي كثيرا ما تطالعنا بأوصاف لهم من قبيل أن أحدهم كان “يخلع على الشعراء ويغنيهم”، أو “كان يُفْضِلُ على الأدباء والعلماء”، أو كان “يحب العلماء والفضلاء والشعراء وأهل الأدب ويجيزهم بالجوائز الكثيرة”!!
ووصل بعضهم إلى درجة عظيمة من العناية بالشعراء والأدباء فازدحموا بأعداد وافرة في بلاطاتهم، حتى إن الوزير البويهي العالِم الصاحب ابن عَبّاد (ت 385هـ/995م) كان يقول حسبما نقله ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘: “مُدِحْتُ.. بمئة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية، وقد أنفقتُ أموالي على الشعراء والأدباء”!!
وفي القرن الخامس الهجري/الـ10م ازدادت أعداد الشعراء بأرقام مهولة -حتى في البلد الواحد- لما نالته من اهتمام رسمي، وهو ما يؤشر لحجم المنافسة الضخم بين هذه الآلاف المتعددة من الشعراء؛ إذْ يحدثنا المؤرخ الأديب ابن أيْبَك الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- عن أن الوزير السلجوقي العظيم نِظام المُلك (ت 485هـ/1092م) كان “مُمَدَّحاً فيقال إن مُدّاحه كانوا خمسة آلاف شاعر وزيادة، ومُدِح بثلاثمئة ألف قصيدة”!!
ويفيدنا الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘ـ بأن الوزير العباسي العادل عميد الدولة ابن جَهِير (ت 493هـ/1100م) كان “يُجيز العلماء والشعراء ويُحْسن إليهم..، وكان مُمَدَّحاً فيقال: إنه مُدح بمئة ألف بيت من الشعر.. ومدحه عشرة آلاف شاعر”!! وكذلك يروي الإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الوزير السلجوقي أبا طالب السُّمَيْرَمي (ت 516هـ/1122م) “مدحه ألف شاعر وكان يجيزهم جوائز كثيرة”!!
ولعل هذه الأعداد الضخمة من الشعراء مصداق للخلاصة التي توصل إليها المؤرخ الأميركي ديورانت، والقائلة إنه “لم تضارع حضارةٌ من الحضارات ولم يضارع عصرٌ من العصور.. الحضارةَ الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم” الشعري!!
تنافسية عالية
يصوّر لنا جانبا مبكرا من هذه المنافسات -التي كانت تدور في بلاطات رعاة الأدب من الأمراء وكبار الوزراء- وجوائزها؛ ما رواه ابن ظافر الأزْدي (ت 613هـ/1216م) -في ‘البدائع والبدائه‘ـ قائلا: “اجتمع *جرير *(ت 110هـ/739م) والفرزدق *(ت 110هـ/739م) والأخطل (ت 92هـ/712م) *في *مجلس *عبد *الملك ابن مروان (ت 86هـ/705م)؛ *فأحضر *بين *يديه كيساً فيه خمسمئة دينار (= اليوم 100 ألف دولار أميركي تقريبا)، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيُّكم غلب فله الكيس”! وفي ختام المنافسة أعلن فوز جرير وقال له: “خذ الكيس”!
كان من أول ما أنتجه استقرار العمل بتنظيم المسابقات الأدبية هو تشجيع الشخصيات الأدبية على الطموح للتميز والتألق في دنيا الشعر وساحات التنافس، مما يدفعها لأن تعتمد على مواهبها الذاتية فتعمل على إعداد أنفسها وشحذ قدراتها للمشاركة في فعاليتها، ونيل ما تتيحه من الحظوة والمكافأة. ويرصد ذلك أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) ـفي كتابه ‘الأغاني‘ـ ناقلا تجربة أحد أبرز الشعراء في هذا المنوال بقوله:
“قال جرير وفدتُ إلى يزيد بن معاوية (ت 64هـ/683م) وأنا شاب يومئذ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء، فخرج الحاجب (= مدير ديوان الخليفة) إليّ وقال: يقول لك أمير المؤمنين إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره، وما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة؛ فقلت له: تقول لأمير المؤمنين أنا القائل:
وإنِّي لَعَفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغِنَى ** سريعٌ إذا لم أرضَ داري انتقاليا (… إلخ الأبيات)
فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات، ثم خرج إليّ وأذن لي فدخلت وأنشدته، وأخذت الجائزة مع الشعراء؛ فكانت أول جائزة أخذتها من خليفة”.
وهذه الشاعرية الشبابية كثيرا ما كانت دافعا لرعاة الأدب من الخلفاء والأمراء والوزراء إلى الاهتمام بأصحابها تشجيعا لمواهبهم الشابة، ودفعا لها في حلبة التنافس الأدبي حتى يشتد عودها وتنصقل قرائحها ويكتمل نبوغها؛ ومن ذلك ما يورده أبو إسحق برهان الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالوطواط (ت 718هـ/1318م) -في ‘غُرَر الخصائص الواضحة‘- عن الشاعر البُحْتُري الطائي (ت 284هـ/897م) أنه قال:
“دخلتُ يوما دار الفتح بن خاقان (الوزير العباسي ت 247هـ/861م) فوجدتُ الشعراء في دهليز داره، وبينهم صبي صغير السن قصير القامة؛ فقلت: ما أنت يا غلام؟ فقال شاعر! فتبسمتُ عجبا منه ثم قلت: أجِزْ (= أكمل): «ليتَ ما بين مَنْ أحِبُّ وبيني»! قال: مِن البُعْد أم مِن القُرْب؟ قلتُ: من القُرْب، فقال: «مثلُ ما بين حاجبيّ وعيني»! فقلت: فإن أردناه من البُعْد؟ فقال: «مثلُ ما بين ملتقى الخافِقيْنِ»! فأخذتُ بيده وأوصلته إلى [الوزير] الفتح، وأخبرته بما دار بيني وبينه؛ فعَجِبَ منه وأجازه” بمكافأة!!
ويحدثنا عبد الواحد المَرَّاكُشي (ت 647هـ/1249م) -في ‘المُعْجِب في تلخيص أخبار المَغرب‘- عن مبدأ اشتهار الشاعر الأندلسي سَلَام بن عبد الله الباهلي (ت 544هـ/1149م)؛ فقال إنه “دَخَل.. على [كبير أمراء الطوائف بالأندلس] المُعتمِد (بن عَبّاد ت 488هـ/1095م) مادحا له، وسِنُّه دون العشرين؛ فاسْتَنْبَلَه (= أعظمَ شأنَه) واستَحْسنَ ما أتى به [من الشعر]، وأجزل صلته (= مكافأته) وأسنى جائزته، وألحقه في «ديوان الشعراء»” أي السجل الإداري المتضمن لأسماء الشعراء المعتمَدين في بلاطه!!
وفي القرن الخامس الهجري/الـ10م نفسه؛ يشهد بلاط إمارة بني عمّار الكتاميين في طرابلس الشام مشهدا تنافسيا بين الشعراء، كانت نتيجته بروز نجم جديد في سماء الشعر العربي؛ فقد روى العماد الأصبهاني الكاتب (ت 597هـ/1201م) -في ‘خريدة القصر‘- أن “فخر الملك ابن عمّار (ت بعد 502هـ/1108م) صاحب طرابلس اقترح على الشعراء أن يعملوا على وزن قصيدة ابن هانئ المغربي (الأندلسي ت 362هـ/974م): «فتقتْ لكم ريحُ الجلاد بعنبر»”!
فخاض الشعراء جميعا غمار التحدي “فسبقهم أبو الحسن علي المعروف بابن العلائي المَعَري (ت بعد 492هـ/1097م)، وعمِل ما أعجبه، وأجازه عليه واستغنى به عنهم”!!
طموح وتألق
ويوقفنا تاريخ المشاركة في المنافسات الأدبية على ما يتعلق بتطوّر الحضور الإعلامي للشاعر والأديب، وصولا إلى مرحلة الشهرة والتفوّق؛ فنُعاين ذلك مثلا في القصة المتقدمة عن فوز جرير في مسابقة عبد الملك، وفي حكاية نجومية الشاعر العلائي المعري الآنفة.
وحتى من دون إجراء تنافس شعري؛ كانت خلفية التفاضل وتمايز المراتب عنصرا مستحكِما في النظر الرسمي إلى الأدباء، ونتبيّن ذلك مما يحدثنا به ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) -في ‘الشعر والشعراء‘- عن مفاضلة الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) بين الشعراء في الجوائز بناء على تفاوت شاعريتهم.
فقد أمر هذا الخليفة للشاعر كُثَيّر بن عبد الرحمن (كُثَيّر عَزّة ت 105هـ/723م) بجائزة قدّرها هو “بثلاثمئة درهم، وللأحْوَص (= عبد الله بن محمد ت 105هـ/723م) بمثلها، وأمر لنُصَيْب (بن رباح النوبي ت 108هـ/727م) بمئة وخمسين درهما”.
على أن مبدأ المفاضلة بين الشعراء في مقادير الجوائز -وفقا لتفاضل نصوصهم في الجودة- ظل معيارا معمولا به طوال القرون اللاحقة؛ حتى إن العماد الأصبهاني يحكي أن “ملك العرب” سيف الدولة صدقة ابن دُبَيْس الأسدي (ت 501هـ/1107م) كان “يُقْبِل على الشعراء ويمدهم بحسن الإصغاء وجزيل العطاء..، ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسمٌ بأن يطلق له من خزانته رَسْم”، أي جائزة ثابتة تتناسب مع رتبته في قائمة الشعراء المعتمدة في بلاطه.
وربما أوْكَل صاحبُ البلاط الشعري مهمةَ المفاضلة بين الشعراء في الجوائز إلى أحد عظمائهم ممن يسلمون له بالزعامة الشعرية، لاسيما إن كانوا من غير أهل الدولة التي يتنافسون فيها؛ فالصفدي يذكر -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن الشاعر أبا نُوَاس (ت 198هـ/814م) تزعم جماعة من شعراء العراق، فوفد بهم على والي مصر العباسي أبي نصر الخَصِيب بن عبد الحميد (ت بعد 183هـ/799م) حين استقدمه من بغداد.
ويضيف الصفدي أنهم لما “قدِموا مصر وبلغ الخصيبَ خبرُ [وصول] أبي نواس جلس له جلوسا عاما في مجلس جليل، ودخل إليه الشعراء فسلم عليه..، وقال الخصيب: مَنْ هؤلاء [الذين معك]؟ فعرّفه أبو نواس خبرهم، فقال له: اجلس وقدّر لهم صِلاتهم [جوائزهم] على حسب مقاديرهم في نفسك، فقدَّر لهم أبو نواس صلاتهم وعرضها عليه، فوقَّع بإطلاقها فأطلِقت من وقتها، وقال: اخرج ففرِّقها عليهم”!!
مشاركة نسوية
ويكشف لنا تسليطُ الضوء على المسابقات الأدبية العربية -عبر استعراض مظاهرها ونماذجها في إطار انتشارها مجتمعيا- طبيعةَ ومستوى الدور النسائي فيها تنافسا وتحكيما، وبصورة كانت لافتة عبر العصور؛ فقد ذكر أبو عُبيد الله المَرْزُبَاني (ت 384/994م) -في ‘أخبار النساء‘ـ أنه “تحاكم إلى ليلى (الأخيليّة ت 80هـ/704م) شعراءُ [قبيلة] هوزان”، فكان منهم النابغة الجَعْدي (ت نحو 50هـ/671م) وحُمَيْد بن ثور الهلالي (ت نحو 30هـ/652م).
ويروي الأصفهاني -في كتابه ‘الأغاني‘ـ أخبار تلك المسابقة بقوله إن أولئك الشعراء “اجتمعوا فتفاخروا بأشعارهم وتناشدوا، وادّعى كل واحد منهم أنه أشعر من صاحبه! ومرّ بهم سِرْبُ قَطا؛ فقال أحدهم: تعالوا حتى نصف القطا ثم نتحاكم إلى من نتراضى به، فأيّنا كان أحسن وصفا لها غلب أصحابه؛ فتراهنوا على ذلك (…) واحتكموا إلى ليلى الأخيليّة، فحكمت لأوس بن غَلْفاء” المعروف بالعُجَيْر السَّلوليّ (ت نحو 60هـ/681م).
ويسجل التاريخ في هذا الشأن دورا لا يخفى للسيدة سُكينة بنت الحسين (ت 117هـ/736م) التي عُرفت باهتمامها بالمسابقات الأدبية، مما رسّخ ظاهرتها ودفع بمكانتها في الحضارة الإسلامية . ويلخّص الإمام سبط ابن الجوزي ـفي ‘مرآة الزمان‘ـ هذا الاهتمام بقوله عن سُكينة:
“كان يأوي إلى منزلها العلماء والأدباء والشعراء، فتُخيِّر (= تُفاضِل) بينهم، وتُجيزهم بالألف دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) وأكثر من ذلك على أقدارهم، وكانوا يفتخرون بأشعارهم ويُحكِّمونها [فيها] لِما يعلمون من عقلها وأدبها وحِذْقِها بالشعر، وكان يجتمع إلى بابها الفرزدق، وجرير، وكُثَيِّر عَزَّة، ونُصَيْب، وجَميل (بن مَعْمَر ت 83هـ/703م)، والأحْوَص، وغيرهم” من عظماء الشعراء.
ومن الواضح أن هذا الإسهام النسائي في ملف المسابقات حافظ على انتظام خطه عبر المراحل التاريخية؛ إذ يَعرض ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) -في ‘العِقْد الفريد‘ـ إحدى اللقطات المعبرة عنه، فيروي أنه “خرج رسولُ عائشة بنت المهدي (الخليفة العباسي توفيت بعد 200هـ/815م) -وكانت شاعرة- إلى الشعراء وفيهم صَريع الغواني (مسلم بن الوليد ت 208هـ/823م)، فقال:
تُقْرِئُكم سيدتي السلام وتقول لكم: مَنْ أجاز (= نظم شعرا يتمّم معناه) هذا البيت فله مئة دينار! فقالوا: هاته! فأنشدهم:
أنِيلِي نَوَالاً وجُودي لنا ** فقد بلغتْ نفسيَ التَّرْقُوَة”!
ويَستكمل ابن عبد ربه الخبر بأن الشاعر صريع الغواني قال بيتا يجيز به بيتها “فأخذ المئة الدينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا)”!!
ويمتد الدور النسوي في المنافسات الأدبية إلى الغرب الإسلامي؛ إذْ يطلعنا الإمام المحدِّث ابن بَشْكُوَال (ت 578هـ/1183م) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- على جهود الأميرة الأموية ولّادة بنت المُسْتكفي الأندلسية (ت 484هـ/1091م) في هذا المجال ومساجلاتها للشعراء الرجال؛ فيقول مُعرِّفا بها: “ولّادة بنت المستكفي.. أديبة شاعرة؛ جَزْلَة القول حسنة الشعر، وكانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفُوق البُرَعاء”!!
آليات تنظيمية
تكشف لنا رحلة التتبع للجوائز والمسابقات الأدبية -منذ بدايات عصور الحضارة الإسلامية- ما كان فيها من فنيات في التنظيم والإدارة، وآليات للتحكيم وتقويم المشاركات، وضوابط لترتيب المتقدمين طبقا لجودة نصوصهم ومستوياتهم، ومعايير لمنح المكافآت للشخصيات الأدبية المشاركة، وسخاء عظيم في منْح ومقادير تلك الجوائز والمكافآت.
فسعيا للعدالة في منح وتوزيع تلك الجوائز؛ ارتبطت المنافسات الأدبية ومخرجاتها بآلية التحكيم التي كانت تُعلن وفق إعمالها النتائج وتحدد أسماء الفائزين. وقد ورثت العهود الإسلامية من سابقتها الجاهلية تاريخا مَرْوِيًّا في مجال التحكيم الأدبي في مجاليْ الشعر والخطابة، عرفته العرب عبر لجان التحكيم في أسواقها الموسمية التي كانت تنظم على هوامشها فعاليات أدبية واسعة التنافس بين القبائل العربية، لاسيما كبرياتها الشهيرة في ميدان الشعر مثل قبائل ربيعة وقيس وتميم.
ويقدم لنا الدِّينَوَري -في كتابه ‘الشعر والشعراء‘ـ نموذجا من نمط التحكيم في تلك المسابقات؛ فيقول: “كان النابغة (الذُّبْياني ت 18ق.هـ/605م) تضرب له قبّة حمراء من أَدَمٍ بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده [مرةً] الأعشى أبو بَصير (ت 7هـ/629م)، ثم أنشده حسّان بن ثابت (ت 54هـ/675م)، ثم [تتابع] الشعراء، ثم جاءت الخنساء السّلميّة (ت 24هـ/645م) فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدني [آنفا] لقلتُ: إنّك أشعر الجن والإنس”!!
ولعل ذلك التراث التحكيمي في تلك المنافسات الأدبية الجاهلية -ونظائرها في صدر الإسلام بمنتديات سوقيْ “المِرْبد“ بالبصرة و”الكُناسة” بالكوفة- هو الذي بنى عليه المؤرخ أبو الحسن المدائني (ت 225هـ/840م) كتابه الذي يبدو أنه صنّفه في هذا الباب؛ فقد ذكر الصفدي أن من مؤلفات المدائني التي لم تصل إلينا: “كتاب من قال في الحكومة (= التحكيم) من الشعراء”!!
ومن مشاهير من تولوا التحكيم الشعري الشاعرُ العظيم أبو تمام الطائي (ت 231هـ/846م) الذي يذكر الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- أنه “كان يجلس للشعراء فيعرضون عليه أشعارهم”، وأنه حكم للشاعر البحتري بالتقدم الشعري حين أنشده شعره أول مرة فـ”أقبل عليه وقال له: أنت أشعر مَنْ أنشدني”!!
ومن الطريف أن يعمد الشعراء إلى نظرائهم من القضاة ليتولوا التحكيم الشعري، ويحسموا بحكمهم “الشرعي” -وإن بلغة شاعرية- في أهلية أحدهم للزعامة الأدبية. ومن لطائف المواقف في ذلك ما ورد -في العدد 763 من مجلة “الرسالة” المصرية (بتاريخ: 16/02/1948م)- من أن الإمام القاضي ابن حجر العسقلاني أسنِدت إليه مهمةُ التحكيم في منافسة أدبية، جرت بين ثلاثة من كبار شعراء عصره يتقدمهم ابن حجة الحموي (ت 837هـ/1433م).
فحكم ابن حجر بالصدارة لابن حجة وسجل ذلك في وثيقة طريفة جاء في مقدمتها: “لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ؛ الحكمُ بين النظراء إنما يحسن ممن يماثلهم فيما به يرتفع الحكم، وفي إقدام من لم يرتق إلى تلك الطبقة نوع من الظلم، ولا يرتاب لبيب في أن كلا من الثلاثة رأس هذا الفن في زمانه، وأنه لا يوازنه أحد من أقرانه؛ … إلخ”.
معيارية موضوعية
نؤوب من الرصد لتاريخ الرعاية للمنافسات الأدبية ونماذج من وقائعها ومداولات إجراءاتها التحكيمية؛ لنقف على المزيد من تفاصيل إدارتها رسميا ومجتمعيا، فقد كانت فعاليات التنافس في طورها الأول تتّسم بطابع معنوي يكسب فيه الشاعر تفضيله ويعزز صوته وصيت قبيلته، وكانت مفتوحة للجميع كما يبدو منذ ظاهرة منافسات الأسواق العربية في الجاهلية، وخاصة الكبريات منها مثل عُكاظ ومَجَنَّة وذي المَجاز.
ومع التحول الذي طرأ على آلية تولي السلطة بدءا من نهاية عهد الخلفاء الراشدين، وما صاحب ذلك من تجدد للنعرات القبلية بين العرب المسلمين؛ عاد كثير من الشعراء إلى توظيف شعرهم لمصالح قبلية كثيرا ما تدثرت بالمواقف السياسية موالاة أو معارضة، وصاحب ذلك تحوُّل جديد تمثل في نزوع كثير من الشعراء نحو طلب المكافآت المادية الرسمية مقابل توظيف مواهبهم في المجال العام، ومن هنا نشأت المنافسات الشعرية وما تولّد عنها من تميز أدبي واستحقاق للجوائز.
وما إن انتشر نمط المسابقات القائمة على رصد الجوائز العينية والمالية للفائزين، حتى برزت نزعة الصرامة بشأن شروط المشاركة والتقدم للمنافسة. وتكشف لنا المعطيات التاريخية ما جرى به العمل في هذه المنافسات -منذ أيام الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م)- من معايير وضوابط تجعل توزيع المكافآت فيها محكوما بطابع الموضوعية والعدالة في المنح والمنع.
ومما يؤكد تلك الموضوعية في الحكم على النصوص الأدبية الفنية ما شاع عن أئمة الأدب والنقد من رفضهم أن يكون تقييمها محكوما بالعوامل الدينية والمذهبية؛ فقد نقل أبو البقاء العُكْبُري (ت 616هـ/1219م) -في ‘شرح ديوان المتنبي‘- عن أبي الفتح ابن جِنِّي (ت 392هـ/1003م) -الذي يلقّبه الذهبي في ‘السِّيَر‘ بـ”إمام العربية”- أنه “ليست الاعتقادات والآراء في الدين مما يقدح في جودة الشعر ورداءته”.
كما نص شيخ مؤرخي الأدب والنقد أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) -في ‘يتيمة الدهر‘- على أن “الديانة ليست عيارا على الشعراء ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر”!!
ومن مظاهر تلك الموضوعية أيضا أنهم كانوا يستهجنون أخذ الشعراء للجوائز الأدبية دون أهلية واستحقاق؛ حتى إن الشاعر أبا العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) خاطب -في ‘رسالة الغفران‘- الشاعرَ رُؤْبَة بن العَجَّاج (التميمي ت 145هـ/763م) في لقائه المتخيل به في الجنة، فقال له: “ما كان أكْلَفَكَ (= أعجبك) بقَوَافٍ ليست بالمُعْجِبَة! لو شُبِّكَ رَجَزُكَ ورَجَزُ أبيكَ لم تَخرج منه قصيدةٌ مُستحسَنة! وقد كنتَ تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق”!!
بل إنهم كانوا يلجؤون إلى تنظيم اختبار خاص لكفاءة الشاعر عندما تحوم الشكوك حول استحقاقه لجائزته؛ فالعماد الأصبهاني يروي -في ‘خريدة القصر‘- أن أمير حلب مُعِزّ الدولة ثِمَال بن صالح المرداسي (ت 454هـ/1063م) شكّ يوما في شعر قاله عبد الواحد ابن النوت المعري (ت 480هـ/1087م)، فدعاه وصارحه قائلا: “قد زعم الشعراء الحلبيون أن هذا ليس بشعرك..! فإن قلتَ [شعرا مثله] بديهةً (= ارتجالا) أعطيتُك جائزتهم كلهم”!
ومن نماذج تشددهم في الشروط المعيارية لتلك المنافسات ما يرويه الصفَدي ـفي ‘الوافي بالوفيات‘ـ من أنه “وَفَدَ إلى الأمير عبد اللّه بن طاهر (ت 230هـ/844م) جمْعٌ من الشّعراء، فعلم أنّهم على بابه فقال لخادم له أديب: اخرج إلى القوم، وقل لهم: من كان منكم يقول كما قال العتّابيّ (كلثوم بن عمرو ت 220هـ/835م) للرّشيد (الخليفة العباسي ت 193هـ/809م):
مُستنبِطٌ عزماتِ القلبِ مِنْ فِكَر ** ما بينهن وبين اللّه معمور!
فليدخل، وليعلم أنّي إن وجدته مقصّرا عن ذلك حَرَمْتُه [من الجوائز]، فمَنْ وثق مِن نفسه أنه يقول مثل هذا فليقم؛ قال: فدخلوا جميعا إلّا أربعة نفر”!
رهان مفتوح
والواقع أنه إذا كانت قصور الخلفاء مفتوحة لاستقبال الأدباء وتلقّي صناعاتهم فإن ذلك كان على أساس ضمني من التقويم الدقيق لما ينتجونه من نصوص، وهو ما يمثّل مسابقة حقيقية مفتوحة الأبواب على الدوام أمام المترشحين، ويكون فيها الاستعداد للمنافسة هو بوابةَ التقدم للمشاركة.
وينطبق ذلك على أفراد الشعراء وجماعاتهم بمثل ما يعرض لنا لقطة منه إمام النقد الأدبي ابن رشيق القيرواني في كتابه ‘العمدة‘، مصورا قُدومَ جماعة من الشعراء للمنافسة على باب الخليفة العباسي المعتصم (ت 227هـ/842م)؛ فيقول: “اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم [يقول]: من كان منكم يحسن أن يقول مثل منصور النُّمَيْري (ت 190هـ/806م) في أمير المؤمنين الرشيد: «إن المكارم والمعروف أوْدِيَةٌ ** أحلَّكَ اللهُ منها حيث تجتمع»..؛ فليدخل”!
وعن الشروط الخاصة المطلوب توافرها في المشاركين في الفعاليات الأدبية؛ يروي لنا المؤرخ الأديب ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) قول الوزير البويهي الصاحب ابن عباد: “قد ألزمتُ نفسي ألا يدخل عليّ من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب”!!
كما أن طبيعة التنافس بعد اجتياز اختبار القبول الأولي تشير إلى استخدام قوي للنقد، والتدقيق بشدة في الزوايا المختلفة للنصوص. ويخبرنا ظهير الدين البَيْهَقي (ت 565هـ/1106م) -في ‘تاريخ بَيْهَق‘- عن جلسة من هذه الحلقات عُقدت في بلاط الوزير الصاحب ابن عبّاد؛ فيقول إنه لما اجتمع الحضور “مُدّتْ المائدة وقد زُيّنت بأصناف الطعام والبَوارِد (= بُقول تطبخ بمواد حامضة)، فامتدت إليها الأيدي، فلما جيء بالحلوى أمر الصاحب ألا تمتد إليها يد قبل أن يقول فيها كل واحد من أهل الفضل الحاضرين قطعة من الشعر!
فأنشد كل واحد منهم قطعة على البديهة بينما كان الأعسريّ (=الشاعر أحمد بن إبراهيم ت نحو 381هـ/992م) صامتا منشغلا بتحريك أصابعه يعدّ فيها، فلما وصلت إليه النَّوْبَة (= الدَّوْر) سأله الصاحب: أي شيء كنتَ تعدّ بأصابعك؟ فقال: كنت أعدّ أخطاء شعراء هذا المجلس! فعجب الصاحب من كلامه! ثم إن الأعسريّ أعطى خطأ كل واحد منهم مدعما بالحجة الدامغة، وأنشأ.. [شعراً] في وصف الحلوى..؛ فزاد الصاحب من رتبته، ووجد حظا وافرا من عنايته”!!
ومن تلك المعايير اعتماد تحديد الفائز بالرقم الأول وتخصيصه بالجائزة الأرفع، إلى جانب التكريم لبقية المتأهلين؛ فقد روى مؤرخ الأدب أبو علي القالي (356هـ/967م) -في كتابه ‘الأمالي‘ـ أنه “دخل الشعراء على المنصور وفيهم طريح بن إسماعيل الثقفي (ت 165هـ/783م) وابن ميّادة (الرماح بن أبرد المري ت 149هـ/768م) وغيرهمـ[ـا].
فأذن لهم في الإنشاد فأنشدوه من وراء حجاب، حتى دخل ابن هِرْمَة (إبراهيم بن علي القرشي ت 176هـ/792م) في آخرهم فأنشده حتى بلغ إلى قوله من شعره:
إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى ** وإن قال إني فاعلٌ فـــهو فاعلُ
كريمٌ له وجهان وجهٌ لدى الرّضا ** أسيلٌ، ووجهٌ في الكريهة باسلُ
فقال: يا غلام، ارفع الحجاب! وأمر له بعشرة آلاف [دينار] (= اليوم مليونيْ دولار أميركي تقريبا)..، وأعطى الباقين ألفين ألفين”.
تراتبية فنية
ولكن الذي يظهر أن أسلوب تتويج الفائز الواحد دون تخصيص جوائز لبقية المشاركين كان يجري به العمل أيضا لدى المنصور؛ فابن عبد ربه يمدّنا -في ‘العِقد الفريد‘- بتفاصيل مسابقة من هذا اللون، مُورِداً أنه “قال الربيع (بن يونس الوزير العباسي ت 169هـ/785م): خرجنا مع المنصور مُنْصَرَفَنا من الحج فنزلنا الرَّضَمَة (= موضع غربي المدينة المنورة).
ثم راح المنصور ورحنا معه في يوم شديد الحرّ، وقد قابلته الشمس وعليه جُبّة وَشْيٍ (= نقش/تطريز)؛ فالتفتَ إلينا وقال: إني أقول بيتا من شعر فمن أجازه منكم فله جُبَّتي هذه..!:
وهاجرةٍ نصبتُ لها جبيني ** يُقطِّع حرُّها ظَهْرَ العَظَايَهْ (= السحلية)
فَبَدَرَ بشّار الأعمى (بشار بن بُرْد 168هـ/785م) فقال:
وقفتُ بها القَلُوصَ ففاض دمعي ** على خدّي وأقْصرَ واعِظايَهْ (= من يلومونني)
فخرج له من الجُبّة! فلقيتُه بعد ذلك فقلت له: ما فعلتَ بالجبة؟ قال: بعتها بأربعة آلاف درهم (= اليوم 5 آلاف دولار أميركي تقريبا)”!!
أما اعتماد ترتيب المتنافسين لمنحهم الدرجات وفقا لأدائهم وتميز مشاركاتهم؛ فبوسعنا معرفة نموذجا من الإجراءات التي كانت معتمدة فيه بالأندلس من القصة التي أوردها الشَّنْتَريني (ت 542هـ/1147م) في كتابه ‘الذخيرة‘، مصوِّرا فيها بدقة الترتيبات الرسمية المتخذة للاحتفال بإحدى هذه المنافسات.
فقال إنه جرت يوما منافسة شعرية في بلاط أمير طُليطِلة المأمون بن ذي النون (ت 467هـ/1074م) “فجلس لهم.. في أبهة فخمة ورتبة كاملة مع كبار أهل مملكته من أذواء الوزارات المثنية والمفردة، ومن أصحاب الخطط العليات، وأذن لتلك الحلبة من شعراء الحضرة من طارئ وقاطن..؛ فدخلوا إليه -على هيئتهم- يقْدُمُهم شيخُهم المقدَّم من جماعتهم ذلك اليوم: محمد بن شرف القيرواني (ت 460هـ/1069م)”!
وفي ختام إلقاء الشعراء نصوصَهم وجّه الأميرُ “بأخذ بطائق (= أوراق القصائد) جميع من حضره من الشعراء، وأسلمها إلى وزيره الأثير يومئذ عبد الرحمن بن مثنى (ت بعد 450هـ/1059م) كي يتصفحها بفضل أدبه، ويُطَبِّق (= يرتّب) قائلها بحسب معرفته، فيأمر لهم بما يجده” أي يراه ويقرره!
يتبع