يُعتبر الهنود أول شعب اهتمّ باللغة و تأمّلها و درس خصائصها . و كان الدافع إلى ذلك دينياً محضا يتمثّل في رغبتهم في قراءة كتابهم المقدّس " الفيدا " - الذي يرجع تاريخه إلى 1200 ق م - قراءة صحيحة و المحافظة عليه من عبث العابثين . لذلك كانوا يقدّسون اللغة السنسكريتية التي كُتب بها هذا الكتاب و وصفوها بالكمال و كانوا يتعبّدون بدراستها و الاعتناء بها . و يُمثل كتاب panini ( و هو إمام النحاة عندهم ، عاش بين القرنين 4 و 5 ) أول كتاب ضمّ قواعد لغتهم السنسكريتية .
و قد كان لهذه المحاولات اللغوية الهندية تأثير عميق في التفكير اللغوي الأوربي .
أما لدى الإغريق فقد كان للمناقشات الفلسفية أثر كبير في حواراتهم حول اللغة ، فتساءلوا هل اللغة شيء فوق الطبيعة ؟ و هل هناك علاقة بين الاسم و المُسمّى ؟ و هل اللغة قائمة على الاتفاق بين المتكلّمين على رموز معينة للدلالة على معانٍ محدّدة ؟ و غيرها من التساؤلات التي تدلّ على اهتمامهم الكبير باللغة . لكن اليونان كانوا متعصّبين للغتهم مما حذا بهم إلى إطلاق صفة " البربرية " على غير المتكلّمين باليونانية . و بدأت البوادر الأولى للتفكير اللغوي مع أرسطو الذي كان يرى أن اللغة نظام وضعي يخضع لقوانين ثابتة ، ثم مع أفلاطون الذي عرّف اللغة بأنها تعبير عن أفكارنا بواسطة الأسماء و الأفعال .
غير أن هذه الإرهاصات الأولى للدراسة اللغوية اليونانية كانت تفتقد للوعي اللغوي القائم على الملاحظة و التحليل مما جعل كلّ ما توصّلوا إليه يندرج ضمن الانطباعية أكثر منه ضمن المنهج .
أما بالنسبة للرومان فلم تتجاوز جهودهم في المجال اللغوي نقل بحوث اليونان إلى لغتهم ، مع بعض الكتابات البسيطة المتعلّقة باللغة اللاتينية و قواعدها ، قام بها " ماركوس فارون M. Varron " و " كونتيليان Quintilian " .
أما في القرون الوسطى ( التي تبدأ من القرن 5 م ) فقد كان الاعتقاد السائد أن اللغة اللاتينية هي أكملُ اللغات ، حتّى إن لفظ (grammaire/ grammar) ظل طيلة هذه العصور مرادفاً للغة اللاتينية القديمة . لذلك اهتمّت الكتب في هذه الفترة بالتعريف بقواعدها دون غيرها من اللغات .
و لم يبدأ الاهتمام باللغات الأخرى إلا مع الشاعر الإيطالي" دانتي أليغــييــري Dante Alighieri " الذي صرفَ الانتباه إلى اللهجات الإيطالية في كتابه ( بلاغة العامية) .
و إذا كانت أغلب كتب اللسانيات العربية الحديثة تُصنّف جهود اللغويين العرب ـــ من الناحية التاريخية ــــ بعد الجهود الأوربية ــــ ( مما يجعل القارئ يَفهم أن العرب لم تكن لهم إسهامات في المجال اللغوي ، و أنهم نقلوا عن الأوربيين ) فإن هذا مخالف للحقيقة ، لأن القرون الوسطى التي امتدّت إلى حدود القرن 15 م و سمّاها الأوربيون "عصور الظلمات" عاشت فيها أوربّا تخلّفا فكريا و ثقافيا و اجتماعيا ساد معه الجهل و الخُرافة ، بالإضافة إلى الانحطاط السياسي و الاقتصادي ، في حين تُصادف فترة ما بين القرن 2هـ و 10 هـ التي تعتبر أوج الحضارة الإسلامية في جميع المجالات بما في ذلك التأليف اللغوي .