خطبة الحرم المكي - الحصاد من جنس ما زرع

الفرقان



جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 8 جمادي الأولى 1444هـ، الموافق 2 ديسمبر 2022م، بعنوان: (الحصاد من جنس ما زرع)، للشيخ فيصل بن جميل غزاوي، واشتملت الخطبة على عدد من العناصر كان أهمها: سنة الله في كونه: أن من زرع يجني حصاد زرعه من جنسه، وعلى المسلم أن يكون من المنقذين لأنفسهم الرابحين، وطريق الفوز والفلاح طاعة الله وتقواه، والتحذير من اتباع الهوى وملازمة العصيان، ومقارنة بين من يريد الخير ويفعله ومن يحرص على الشر، وأمثلة على نجاة المتقين وفوزهم وهلاك المجرمين.
في بداية الخطبة بين الشيخ غزاوي أنَّ لله -عزوجل- سُنَنًا ثابتةً، أقام عليها الكونَ، وأحكَم بها شؤونَ العباد، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(فَاط ِرٍ: 43)، ومِنَ السُّنن الإلهية المطَّرِدة التي لا تتخلَّف أن الإنسان لا يحصُد إلا ما زرَع، ولا يَجني إلا ثمرةَ غَرسِه ونِتاج عمله، وهذه حقيقةٌ قد تَضَافَرَتْ عليها الأدلةُ من الكتاب والسُّنَّة، قال -جل وعلا-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(الزَّلْز َلَةِ: 7-8)، وَقال -جل ثناؤه-: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(الْ أَنْعَامِ: 160)، وفي الحديث القدسي: «... يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ».
مثال عظيم
يُذكَر أن رجلًا كان له عبدٌ يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: «ازرع هذه القطعة بُرًّا»، وذهَب وترَكَه، وكان هذا العبد لَبِيبًا عاقلًا، فما كان منه إلا أَنْ زرَع القطعةَ شعيرًا بدلَ البُرِّ، ولم يأتِ ذلك الرجلُ إلَّا بعدَ أن استوى وحانَ وقتُ حصاده، فجاء فإذا هي قد زُرعت شعيرًا، فما كان منه إلا أن قال: «أنا قلتُ لكَ: ازرعها بُرًّا، لِمَ زرعتَها شعيرًا؟»، قال: «رجوتُ من الشعير أن يُنتِج بُرًّا»، قال: «يا أحمقُ، أَوَ تَرجُو من الشعير أن يُنتِج بُرًّا؟!»، قال: «يا سيدي، أَفَتَعْصِي اللهَ وترجو رحمتَه؟! أَفَتَعْصِي اللهَ وترجو رحمتَه؟!» فزُعر وخاف واندهش، وتذكَّر أنه إلى اللهِ قادمٌ، فقال: «تُبتُ إلى الله، وأُبتُ إلى الله، أنتَ حُرٌّ لوجهِ اللهِ».
أي طريق تريد أن تسلك؟
نحن في هذه الدنيا الفانية، مِنَّا مَنْ يُنقِذ نفسَه فيربح، ومِنَّا مَنْ يُهلِك نفسَه فيخسَر، قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ الناسِ يَغْدُو، فبائعٌ نفسَهُ فمُعتِقُها أو موبِقُها»، فتَذَكَّرْ على الدوام قولَ الملك العلَّام: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(فُص ِّلَتْ: 46)، فأي طريق تريد أن تسلك؟! وأي هَدي تروم أن تتبعَ؟! فإن مَنْ يعمل في الدنيا بِطاعة اللَّه وطاعةِ رسولِه فلن يزيغَ عن طريق الحقّ، ولن يشقى في الآخرة، كما قال -تعالى-: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}(طه: 123)، ومَنْ يُعرض عن طاعة الله، ويَحيد عن منهجه، ويأبى الخضوعَ له، فلا طمأنينةَ له، ولا انشراحَ لصدره، بل صدرُه ضيِّقٌ حَرِجٌ لضلاله، وإن تنعَّم ظاهرُه ولَبِسَ ما شاء، وأَكَلَ ما شاء، وسكَن حيث شاء، كما قال الله -تعالى-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}(طه: 124)، إن هؤلاء نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ؛ تركوا ذِكرَه بِالعِبادة والثناء عليه، فتَرَكَهم من توفيقه وهدايته وكرامته، وتركهم يوم القيامة فِي عذابه.
مَنْ أراد أن يكون حَصاده حسنًا
مَنْ أراد أن يكون حَصادُ زَرعِه حسنًا وعاقبةُ أمرِه حميدةً فليتمسَّكْ بِدِينِه، وليَثبُتْ عليه، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آلِ عِمْرَانَ: 102)، فحَافِظُوا عَلَى الْإِسْلَامِ فِي حَالِ صِحَّتِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ لِتَمُوتُوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْكَرِيم قد أَجرَى عَادتَه بِكرمه أَنَّهُ مَنْ عَاشَ على شيء مات عليه، وَمنْ مَاتَ على شيءٍ بُعِثَ عليه، ومَنْ أراد السعادةَ فَلْيَطْلُبْها من مظانِّها، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الن َّحْلِ: 97).
الجزاءُ مِنْ جنسِ العملِ
إنَّه كما قيل: إنكَ لا تَجنِي من الشوكِ العنبَ، وكما تَدِين تُدان؛ فكيف ينغمس غافلٌ في المعاصي ويُصِرّ ولا يتوب، ثم يرجو النجاةَ والفوزَ ومغفرةَ الذنوب؟! وكيف يَقطَع عبدٌ صِلتَه بالله فيترك الصلاةَ وطاعةَ مولاه، ويريد انشراحَ صدرِه، وطِيبَ الحياة؟! وكيف يجعل أحدُنا ربَّه أهونَ الناظرينَ إليه في الخلوات مع خشيته من الناس أن تؤخذ عليه زَلَّةٌ من الزلات؟! وكيف يرجو راجٍ ربَّه أن يعافيه ويحفظه من الشرور والآفات والهلَكات وهو لا يأخذ بأسباب العصمة من الفتن، والثبات عندَ المصائب والمُلِمَّات؟! وكيف يتسخَّط ممتحَنٌ بشيء يسير من أقدار الله وابتلائه، وينسى العافيةَ التي هو فيها وأنه غارقٌ في نِعَم الله وأفضاله؟! وكيف يُسيء امرؤٌ للناس على الدوام، ثم ينتظر منهم أن يُحسِنوا إليه ويُطيبوا له الكلامَ؟! وكيف يعق عاقٌّ والديه ويرجو بعدَ ذلك بِرَّ أولاده ومَنْ تحتَ يديه؟! وكيف يشكو زوجٌ زوجَه من سوء عشرته، وقد يَكمُن الخللُ في سُوء أخلاق الشاكي ومُعامَلِته؟! وكيف يُهمِل راعٍ تربيةَ أولاده ولا يهتمّ بنُصحهم وإرشادهم، ثم يتعجَّب لنسيانهم فضلَه وعصيانَهم؟! فلنتذكر قول الله العليم البصير: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}(الشُّور َى: 30)؛ فالجزاءُ مِنْ جنسِ العملِ؛ فمَنْ زَرَعَ خيرًا حصَد خيرًا، ومَنْ زرَع شرًّا حصَد مِثلَه.
عُتَيْبَةُ بنُ أبي لهبٍ
ولَمَّا تمادى عُتَيْبَةُ بنُ أبي لهبٍ في سبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأَذِيَّتِه، ووقوعِه في عِرضِه وتهكمِه به، كان عاقبةُ أمرِه خُسِرا؛ فقد اشتُهر في مرويات السيرة أنه خَرَجَ نفرٌ مِنْ قريشٍ حتى نزلوا فِي مكان من الشام، فجمعوا أحمالَهم فَفَرَشُوا لعُتَيْبَة عَلَيْهَا وَنَامُوا حَوْلَهُ، فَأَطَافَ بِهِمُ الأَسَدُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَجَعَلَ عُتَيْبَةُ يَقُولُ: يَا وَيْلَ أُمِّي، هُوَ -وَاللهِ- آكِلِي، كَمَا دَعَا مُحَمَّدٌ عَلَيَّ، فعَدَا عَلَيْهِ الأَسَدُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فشَقَّه فَمَاتَ مَكَانَهُ»؛ فانظُرُوا كيف نالَتْه نقمةُ اللهِ وحصَد سوءَ فِعلِه، وجُوزِيَ شرَّ الجزاءِ، على ما كان يُقابِل به رسولَ - صلى الله عليه وسلم -، مِنَ الاستهزاءِ والتنقُّصِ، وكذا طالت العقوبةُ أباه، أبَا لهبٍ، الذي جاهَر بعداوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتفِ بمعارَضَتِه، بل عَمِلَ على الكيد له وأذيته، وصدِّ الناسِ عنه، وكذا زوجتُه؛ فقد كانت عونًا له على محارَبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتسلَّطَت عليه بلسانها، وحمَلَت عليه حملةَ إيذاءٍ وسخريةٍ واستهزاءٍ، كان شعارُها: «مُذمَّمًا قَلَيْنَا، وَدِينَهُ أبَيْنَا، وَأَمْرَهُ عَصَيْنَا»، وكانت تضع الشوكَ في طريقه. فماذا كان الجزاء؟ ولمن كانت الغلبة؟ الجواب والبيان في سورة المسد التي بيَّنَت كيف حصَد الخاسرانِ المذمَّمانِ (أبو لهب وامرأتُه حمالةُ الحطب)، الدمارَ والعطبَ، بسببِ سوءِ فِعلِهما وقبيحِ جُرمِهِمَا.
ما كان اللهُ لِيَخذُلَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم
وما كان اللهُ لِيَخذُلَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم -، بل يُكرِمه ويُعِزّه وينصره، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «مَنْ خصَّه اللهُ بالفضائل فقد أرادَ به خيرًا، كما قالت خديجةُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جاءه الوحي وخاف على نفسه: كلَّا واللهِ، لا يُخزِيكَ اللهُ أبدًا؛ إنكَ لَتَصِلُ الرحمَ، وتَصدُقُ الحديثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقْرِي الضيفَ، وتُعِين على نوائب الحق؛ فاستدلَّتْ بعقلها على أن مَنْ جعَل اللهُ فيه هذه المحاسنَ والمكارمَ التي جعَلَها مِنْ أعظمِ أسبابِ السعادةِ لم تكن مِنْ سُنَّةِ اللهِ وحِكمَتِه وعَدلِه أَنْ يُخزِيَه، بل يُكرِمه ويُعظِّمه؛ فإنه قَدْ عُرِفَ من سُنَّة الله في عباده وإكرامه لأهل الخير، وإهانته لأهل الشرِّ، ما فيه عبرةٌ لأولى الأبصار».