الحمد لله رب العالمين


الأخلاق بين الجبلة والاكتساب





إن الأخلاق ليست مكتسبة على إطلاقها ، كما أنها ليست موهوبة على إطلاقها ، وإنما تتضافر الفطرة السليمة مع دلالة العقل التام السوي في إدراك وتقرير جانب من الأخلاق ثم يأتي دور الشرع ليكمل الفطرة ، ويحمي العقل ، ويضع الضوابط العامة ، التي ترقى بالفرد والمجتمع من الوجهة الخلقية .




والناس بفطرتهم –مع توفير الظروف الملائمة– يميلون إلى النماذج والصفات الخلقية الخيرة، ويشعرون بالراحة التامة عند ممارسة مثل هذه الأدوار التي توصف بالعدل والحق والجمال، كما ينفرون بفطرتهم، من الاتجاهات الخلقية الشاذة، ويتذمرون من النماذج الخلقية المنحرفة،إذ يشعرون بغرابتها على فطرتهم،ومناقضة تلك النماذج لها .


وكذلك فإنه إذا ما التقت طبيعة القوى الفطرية هنا مع وظيفة العقل ، فإنه يكون ماضيا في تحقيق كماله الوظيفي في الجانب العملي .
ومع هذا فإن أثر هذين الجانبين الفطري والعقلي في مجال الأخلاق يظل ناقصا تماما ، وغير قادر على تحقيق الكمال الإنساني المنشود ، ومن ثم يأتي دور الشرع ليكمل الفطرة ويقوم العقل ، ويرشد أحكامه ، وبذلك تصبح معالم الشرع وتوجيهاته ، مع سلامة الفطرة وصحة النظر العقلي ركائز تتضافر في بناء الكمال الخلقي للإنسان .

من خلال العرض السابق يتبين لنا أن الأخلاق تنقسم إلى قسمين :


الأول : الأخلاق الفطرية :


وقد دلت أحاديث كثيرة على أن من الأخلاق ما هو فطري ، يتفاضل به الناس في أصل تكوينهم الفطري ، ومن ذلك :


ما روى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف ) وهذا الحديث دليل على فروق الهبات الفطرية الخلقية ، وفيه يثبت الرسول –صلى الله عليه وسلم – أن خيار الناس في التكوين الفطري هم أكرمهم خلقا ، وهذا التكوين الخلقي يرافق الإنسان ويصاحبه على جميع أحواله .
وروي عن حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حديثين ، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا : (إن الأمانة نزلت في جدر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة ) في هذا الحديث بيان عن الأمانة في الناس وعما تصير إليه فيهم ، فقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة من حقائق التكوين الخلقي الفطري في الناس ، وهذه الحقيقة تثبت أن الأصل في الناس أن يكونوا أمناء .

وقوله صلى الله عليه وسلم للمنذر بن عازر : (إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة ، فقال يا رسول الله كان بي أم حدثا ؟ قال : (بل قديم ) فقال الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما .




مواقف عملية شاهدة على الأخلاق الفطرية :

أ- هذا أبو بكر رضي الله عنه لم يشرب الخمر قط ، ولما سئل : بم كان يتجنبها في الجاهلية فقال : [كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي ، فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عقله ومروءته ]


ب*- وهذه خديجة رضي الله عنها – حين جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول نبوءته وهو يقول [زملوني ، زملوني ] قالت : والله لا يخزيك الله أبداً : إنك لتصل الرحم ، وتكسب المعدوم ، وتعيين على نوائب الدهر .

ت- ومن خلال المثالين السابقين نلاحظ إن ذلك كان قبل البعثة ومع ذلك كانت هناك آداب وأخلاق متأصلة فيهم وقد أقرها الشرع فيما بعد ، مثل الكرم ، وإكرام الضيف وغيره مما اتصف به العرب قبل البعثة .

ث*- وحين بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم – النساء قال : {بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا إلى أن قال : (ولا تزنين ) قالت هند بنت عتبة : هل تزني الحرة ؟ فسؤالها يدل على أنفة وعفة وطهارة ، وتلك هي الفطرة السوية التي فطرهن الله عليها تعرف الحق ، وتتجه للخير . والفطرة حين تسلم من العوارض المشوشة عليها ، والتأثيرات المخدرة لها وتسقط عنها الحوائل ، فإنها عندئذ تستقيم لربها وتعرف الحق ، وتدعو إلى كل خلق جميل .



الأخلاق المكتسـبة :


فكما أن هناك أخلاق فطرية ، كذلك بإمكان أي إنسان أن يكتسب بعض الفضائل والأخلاق ، وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم ، والناس في ذلك متفاوتون بمدى سبقهم وارتقائهم في سلم الفضائل كما أن كل إنسان عاقل يستطيع بما وهبه الله من استعداد عام أن يتعلم نسبة من العلوم ، والفنون وأن يكتسب مقداراً ما من أي مهارة عملية من المهارات .

وتفاوت الاستعداد والطبائع لا ينافى وجود استعداد عام صالح لاكتساب مقدار من الصفات الخلقية ، وفي حدود هذا الاستعداد العام ، وردت التكاليف الشرعية الربانية العامة ، ثم ترتقي من بعده مسؤوليات الأفراد بحسب ما وهب الله كللا منهم من فطر ، وبحسب ما وهب كلا منهم من استعدادات خاصة . ووفق هذا الأساس ، وضع الإسلام قواعد التربية على الأخلاق الفاضلة .




أهمية الأخلاق في حياة البشر :


إن أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية لا يستطيع أفراده أن يعيشوا متفاهمين سعداء ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة .


ولو فرضنا وجود مجتمع من المجتمعات على أساس تبادل المنافع المادية فقط ،من غير أن يكون وراء ذلك غرض أسمى ، فإنه لا بد لسلامة هذا المجتمع من خلقي الثقة والأمانة على أقل التقدير .

فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها مجتمع من المجتمعات ، ومتى فقدت الأخلاق التي هي الوسيط الذي لابد منه لانسجام الإنسان مع أخيه الإنسان ، تفكك أفراد المجتمع ، وتصارعوا ، وتناهبوا مصالحهم ، ثم أدى بهم ذلك إلى الانهيار ثم الدمار .

فإذا كانت الأخلاق ضرورة في نظر المذاهب والفلسفات الأخرى فهي في نظر الإسلام أكثر ضرورة وأهمية ، ولهذا فقد جعلها مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة ، فهو يعاقب الناس بالهلاك في الدنيا لفساد أخلاقهم .


قال تعالى : ((ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا )) وقال تعالى : ((وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون )) بل إن الإسلام يخضع الأعمال العلمية للمبادئ الأخلاقية ، سواء كان ذلك في مجال البحث أو في مجال النشر لتوصيله للناس . ولقد أهتم الإسلام بالأخلاق لأنها أمر لابد منه لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحيتين المادية والمعنوية ، فالإنسان –دائما –بحاجة ماسة إلى نظام خلقي يحقق حاجته الاجتماعية ، ويحول دون ميوله ونزعاته الشريرة ويوجهه إلى استخدام قواه في مجالات يعود نفعها عليه وعلى غيره .

إن الإسلام يدرك تمام الإدراك ماذا يحدث لو أهملت المبادئ الأخلاقية في المجتمع ،وساد فيه الخيانة والغش، والكذب والسرقة، وسفك الدماء،والتعدي على الحرمات والحقوق بكل أنواعها، وتلاشت المعاني الإنسانية في علاقات الناس، فلا محبة ولا مودة، ولا نزاهة ولا تعاون، ولا تراحم ولا إخلاص. إنه بلا شك سيكون المجتمع جحيما لا يطاق،ولا يمكن للحياة أن تدوم فيه ، لأن الإنسان بطبعه محتاج إلى الغير، وبطبعه ينزع إلى التسلط والتجبر والأنانية والانتقام .



قال تعالى : ((وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )) لذا جاء الإسلام بأسس ومعايير يتحتم علينا السير وفقا لها وهي ليست أسسا ومعايير وضعية ، وإنما وحي يوحى على هيئة أوامر ونواه ومباحات ومحظورات فمن أطاع الله أثابه ومن عصاه عاقبه . وتمتاز الأخلاق الإسلامية بأنها واقعية عملية وليست مثالية ، كما أنها تؤكد حرية الإنسان واختياره ومسئوليته عن فعله ، وتتميز أيضا بأنها إيجابية شاملة بعيدة عن الانحراف والغلو ، وهي بذلك صالحة لكل زمان ومكان . كما أن الإسلام شرع أحكاما لحماية المجتمع من التردي الخلقي الذي يؤدى إلى الهلاك،وذلك واضح في العقوبات الحدية والتعزيرية .