قوله : ( كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم ، وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ، فسدل ناصيته ، ثم فرق بعد ) قال أهل [ ص: 482 ] اللغة : يقال : سدل يسدل ويسدل بضم الدال وكسرها . قال القاضي : سدل الشعر إرساله . قال : والمراد به هنا عند العلماء إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة يقال : سدل شعره وثوبه إذا أرسله ، ولم يضم جوانبه ، وأما الفرق فهو فرق الشعر بعضه من بعض . قال العلماء : والفرق سنة لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم . قالوا : فالظاهر أنه إنما رجع إليه بوحي لقوله : ( إنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ) .
قال القاضي : حتى قال بعضهم نسخ المسدل ، فلا يجوز فعله ، ولا اتخاذ الناصية والجمة . قال : ويحتمل أن المراد جواز الفرق لا وجوبه ، ويحتمل أن الفرق كان باجتهاد في مخالفة أهل الكتاب لا بوحي ، ويكون الفرق مستحبا ، ولهذا اختلف السلف فيه ، ففرق منهم جماعة ، واتخذ اللمة آخرون ، وقد جاء في الحديث أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لمة ، فإن انفرقت فرقها ، وإلا تركها . قال مالك : فرق الرجل أحب إلي . هذا كلام القاضي . والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق ، وأن الفرق أفضل . والله أعلم .
قال القاضي : واختلف العلماء في تأويل موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء ، فقيل : فعله استئلافا لهم في أول الإسلام ، وموافقة لهم على مخالفة عبدة الأوثان ، فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم ، وأظهر الإسلام على الدين كله ، صرح بمخالفتهم في غير شيء ، منها صبغ الشيب . وقال آخرون : يحتمل أنه أمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شيء ، وإنما كان هذا فيما علم أنهم لم يبدلوه .
واستدل بعض الأصوليين بهذا الحديث أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه . وقال آخرون : بل هذا دليل أنه ليس بشرع لنا لأنه قال : يحب موافقتهم ، فأشار إلى أنه إلى خيرته ، ولو كان شرعا لنا لتحتم اتباعه . والله أعلم . |