التشريع الإسلامي بين التفكير المقاصدي والتفكير القيمي*
بقلم
الشيخ معتصم سيد أحمد**،،
لماذا التفكير المقاصدي؟
مقاصد الشريعة التي تقع في نسق الفكر الاستنباطي تمثل محوراً يثير اهتمام الدارس لتاريخ التشريع الإسلامي، فهي من أهم المحطات الجديرة بالوقوف والتأمل، ولذا وجدتُ نفسي ملزماً بالوقوف عندها، ومواصلة ما انتهيت إليه في البحث السابق الذي نشر بعنوان المصالح المرسلة وفقه المقاصد، وقد اكتفيت هنالك بالحديث عن المقاصد من حيث مسارها التاريخي وبعض الملاحظات المنهجية فيما يتعلق بضبط المصلحة، وتشخيصها، وفرزها، مضافاً إلى المصلحة من حيث المناسبة الرابطة بينها وبين الواقع أو فقه الأولويات، وقد وعدت القارئ الكريم بمواصلة البحث بقولي في ختام الدراسة السابقة: «... وبالتالي لا بد أن يكون هناك نمط آخر لتصنيف هذه المقاصد، وترتيبها في شكل هرمي يتضمن كل قيم الدين والعقل والحياة، وهذا ما سوف نتناوله في دراسة خاصة فيما بعد إن شاء الله»[1] وهنا نسأل الله التوفيق والمدد لتحقيق هذا الأمر.
تكتسب المقاصد أهميتها في التشريع الإسلامي من بعدين:
الأول: كونها تمثل أهم ما أنتجته العقلية الأصولية، وآخر إبداعاتها فيما يسمى بنهاية عصر النهضة الفقهية، وتنبع هذه الأهمية مما تمثله المقاصد من حافز للتفكير والتعمق لكشف مناطات الأحكام وغايات المشرع؛ فتمثل تلك الغايات مقصداً يمكن الارتكاز عليه في تطوير الفقه ومجارات الواقع المتغير، وقد ساهمت مجموعة من الظروف السياسية، والاجتماعية، في بلورة هذا النمط من التفكير المقاصدي، فاتخذت بذلك موقعاً جعلها ضمن حلقات التطور الطبيعي لأصول الفقه الذي يحاول التكيف مع الواقع المتجدد، فمنذ نهايات القرن الخامس إلى القرن التاسع ظهرت تحديات أفرزتها سياقات سياسية جديدة ابتداءً من الخلافة العباسية ومروراً بالسلاجقة والأيوبيين والخوارزميين، وغيرهم، أدت إلى توهين البنية المعرفية العامة للإسلام بما فيها قواعد الاستنباط، فكان على الأصوليين رسم مناحي جديدة تستوعب هذا الواقع وتعيد ضوابط التفكير الديني، فكان الاهتمام منصباً على الكليات والقواعد العامة، باعتبارها الصيغة الوحيدة لضمان استمرارية الرسالة ومعالجة الواقع المتغير، ومن هنا تكتسب المقاصد أهميتها من كونها آخر الحلول التي قدمها السلف لحل مشكلة الرسالة الخاتمة، وبرغم أن المقاصد في بيئتها الأولى لم تحظَ بالاهتمام الذي يجعلها في إطارها الطبيعي، حيث لم تتحْ لها المساحة المفترضة من النقاش والجدل، وأوضح مثال لذلك الشاطبي وكتابه الموافقات الذي لم يجد الاهتمام الكافي إلا متأخراً، يقول طه جابر العلواني: «ولكن ربما يصدق على الشاطبي ما وصف به مالك بن نبي ابن خلدون من أنه جاء متأخراً عن أوانه أو سابقاً عليه فلم تنطبع أفكاره في العقل المسلم. وكذلك لم تنطبع أفكار الشاطبي في العقل المسلم الذي كان يعيش بداية انحطاطه يوم ذاك، بل ظلت أفكاره مجهولة حتى اكتشفها المصلحون المعاصرون: الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والدكتور عبد الله دراز في المشرق، والعلامتان محمد طاهر بن عاشور وعلال الفاسي في المغرب، فأشادوا بها وكتبوا حولها -خصوصاً المغاربة منهم- كتابات حلَّلت وأصَّلت وأضافت المزيد المفيد.
ثم بنى على ذلك التراث علماء وباحثون معاصرون في دراسات جادة منهم (المقاصد العامة للشريعة الإسلامية) للأستاذ الدكتور يوسف العالم رحمه الله، و(ونظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي) للدكتور أحمد الريسوني، و(نظرية المقاصد عند الإمام محمد طاهر بن عاشور) للأستاذ إسماعيل الحسني»[2] واهتمام هؤلاء العلماء والباحثين بالمقاصد كاشف عن أهمية هذا المبحث في تاريخ أصول الفقه، وضرورة مراجعته لما يمتلكه من خاصة تجعل الفقه حاضراً ومستوعباً لكل زمان.
الثاني: اهتمام النخب العلمية والفكرية المعاصرة، المنشغلة بتجديد التفكير الديني بمبحث المقاصد، فقد رأت فيها الإطار الطبيعي الذي يستبطن غايات الشريعة وأهدافها؛ مما يجعل التفكير الديني ضمن نسق يتطور طبيعياً مع مجريات الزمن، فالمقاصد في مفهومها البسيط هي كليات عامة أكدت عليها الشريعة، وهي قابلة للجري والانطباق لتستوعب بذلك كل المتغيرات التي تحدثها الحركة الزمنية في الواقع. ومن هنا اعتبرت المقاصد في نظر هؤلاء هي الإطار الذي يمكن به تجاوز إشكالية النص المتناهي الذي يلاحق واقعاً غير متناهٍ، هذا مضافاً إلى كونها تفتح الباب واسعاً أمام العقل المعاصر ليساهم بشكل مباشر في فهم الشريعة بعيداً عن السقف المعرفي الذي شكَّله التراث أمام العقل الحاضر، وأظن أنني لا أكون متجاوزاً للحقيقة إذا قلت: إن المقاصد باتت هي المرتكز المعرفي للمشروع الإسلامي المعاصر، ولا أجد نفسي مرغماً لجمع الشواهد والكلمات التي تؤكد ذلك، وإنما أكتفي بحضورها الواضح في كتابات ودوريات التجديد الإسلامي.
كل ذلك شكَّل نظرة متفائلة صوَّرت المقاصد في إطار جعل منها المخرج الوحيد لأزمة الجمود والثبات التي عاشتها الأمة، والقبول بهذا التفاؤل على إطلاقه يمثل مسامحة فكرية تتلمس الخلاص في إبداعات السلف وتتنكر لبعض إبداعات العقل المعاصر، لأن كل ما يمكن أن يكون إضافة جديدة على مبحث المقاصد من العلماء المعاصرين هو في الواقع تحرك ضمن السقف المعرفي الذي شكَّله تراث الجويني والغزالي والشاطبي...، فلم نرَ في محاولاتهم أكثر من زيادة عدد المقاصد الخمسة أو إعادة ترتيبها، فابن عاشور رائد النهضة الحديثة للمقاصد لم يتمكن من تأسيس بناء منهجي جديد وكل ما قام به هو شرح وتوضيح لنظرية المقاصد مع إضافة الحرية كمقصد سادس، فهي بالتالي أصبحت إطار معرفي وسقف من الصعب تجاوزه بحيث لا يمكن التشكيك في شرعيتها أو مدى صدقها وصلاحيتها. كما لم نجد لهذه المقاصد عند أصحاب النهضة التجديدية أي تصنيف يتجاوز التصنيف الثلاثي القديم الذي يجعل المصلحة تدور حول الضروري والحاجي والتحسيني، مما يجعلنا نعتقد أن العقل المعاصر وإن كان منادياً بالتجديد إلا أنه مقلِّد بامتياز، وما زال يشعر بالضعف وعدم الثقة أمام التراث. كل ذلك يفرض على الباحث إثارة مجموعة من الأسئلة حول طبيعة التفكير المقاصدي، ومدى استجابته لتحقيق آمال رواد النهضة والتجديد، فالشيء المتَّفق عليه هي الحاجة الملحة لتقديم قراءة جديدة وفهم شمولي يمكن أن يجعل الإسلام حاضراً ومواكباً لمتطلبات العصر. والمحك الذي يجعل المقاصد في إطارها العلمي والعملي هو الدراسة التقويمية والنقدية لأهم أسس وحيثيات التفكير المقاصدي، ومن ثم إجراء مقارنة بين تلك الحيثيات والأسس وبين بعض الانتاجات المعاصرة ذات المساهمة الجديرة بالوقوف والدراسة لبعض مفكري الحاضر في محاولاتهم لحل الأزمة نفسها بصورة قد لا تختلف في الشكل مع التفكير المقاصدي ولكنها تتباين معه في المضمون والوسائل والأسس المنهجية.وهذا النمط التفكيري الجديد يمكن أن نصطلح عليه التفكير القيمي، الذي أسس له سماحة المرجع محمد تقي المدرسي في موسوعته (التشريع الإسلامي مناهجه ومقاصده)، وحتى تكتمل الرؤية حول المعطى المعرفي الذي قدمه سماحته في مساهمته لتجديد أسس التفكير الديني، لا بد من إجراء تلك المقارنة، ولتحقيق ذلك لا بد من استعراض سريع لأسس وحيثيات التفكير المقاصدي أتماماً لما قدمناه في الدراسة السابقة، ثم عرض أسس التفكير القيمي لتتم المقارنة.
حيثيات التفكير المقاصدي
إن أهم ما يمكن أن يدرج ضمن الحيثيات الأولى للتفكير المقاصدي هي التحديات التي يفرزها الواقع في شكل تساؤلات دائمة؛ كاستجابة طبيعية للظرف الإنساني المتغير، فقد تتسع الحاجة الحياتية باتساع متطلبات الإنسان الذي خُلق لكي يُبدع ضمن بيئته وظرفه السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، وغيرها، ما جعل من الملح البحث عن نمط تفكيري جديد؛ يُفعَّل في إطاره النص الديني حتى لا يكون محصوراً ضمن تجربة إنسانية واحدة، أو طبيعة محددة بنموذج واحد، وقد أصبح هذا الأمر من مسلمات التفكير الإسلامي الحديث، الذي يحاول أن يكون إسلاميًّا في الوقت نفسه متعايشاً مع واقعه، دون أن يشعر بأن هنالك حالة من التناقض بين نص تاريخي وواقع راهن يجب أن يعيش فيه بكل تفاصيله، وفي اعتقادي أن هذا الاستفزاز الذي يخلقه الواقع هو الدافع المهم وراء هذا النمط من التفكير المقاصدي، وهي نفسها الحيثيات التي دفعت الرواد الأوائل من الجويني والغزالي و الشاطبي وغيرهم لهذا النمط التفكيري، يقول حسن محمد جابر: «في الواقع يأتي البحث في المقاصد وعنها كاستجابة طبيعية لما طرأ على الواقع الإسلامي والعربي من تطورات بدأت ترخي بكلكها على ميادين البحث العلمي ومنها الشريعة، وهذه تفترض في القوة الفاعلة أسلوباً جديداً في التعامل معها ومنهجاً علميًّا يتناغم واتجاهاتها الحيوية»[3].
أما البعد الآخر لحيثيات هذا التفكير هي العوامل المتعلقة بطبيعة النص والحكم الشرعي، اللذين يستبطنان في تركيبتهما الداخلية عللاً وغايات تسمح لهما بالمواكبة، ما حفَّز هذا النمط التفكيري لطرح الأسئلة الكاشفة عن المضامين الخفية والمستترة خلف ظواهر الكلام، لتشكِّل فيما بينها مقاصدَ للشريعة، فالنصوص والأحكام يمكن أن ينظر إليها بلحاظين الأول يجعلها ضمن إطارها الجزئي الكاشف عن مصاديق محددة، والثاني بلحاظ كونها مستبطنة لغايات ومقاصد تمثل أهدافاً لتلك النصوص والأحكام، هذا ما جعل أصحاب التفكير المقاصدي يُثيرون حالة من الجدل مع التراث الذي صنف لنا الأحكام تصنيفاً جزئياً واقفاً عند حدود تفصيلات الأحكام المنتشرة في النص، دون السؤال عن أي بعد كلي يكون إطاراً جامعاً لمنظومة من الأحكام. ومن هنا يمكننا أن نجعل طبيعة النص والحكم الشرعي التي تؤسس عادةً لحِكم وغايات هي من أهم الحيثيات لهذه النزعة المقاصدية، ولذا لا نجد كتاباً يتحدث عن المقاصد إلا ويرتكز في الأساس على هذا البعد من النص الكاشف عن مقاصد معقولة، وبذلك اعتبروا المقاصد هي الأساس في الشريعة، وأن النظرة الجزئية ما هي إلا نتيجة لعوامل خارجة عن إطار النص، وقد أرجع البعض هذه النزعة إلى العوامل التي أدت إلى تكريس سلطة الفرد وغياب الرؤية الشمولية التي تنظر إلى النص والإنسان بزواياه المختلفة. يقول محمد مهدي شمس الدين: «لقد بدأ التدوين الفقهي عندما سيطرت الدولة الإسلامية القمعية الخاضعة لسلطة الفرد، الدولة التي غابت عنها قيادة المعصوم ولم تقم على قاعدة مبدأ الشورى، فأدى ذلك إلى أن الفقه انعزل عن حركة المجتمع، واستغرق الفقهاء في معالجة المسائل التي يواجهها الفرد المسلم في حياته الخاصة: في عباداته ومعاملاته، فعالجوا المسائل العامة وقضايا المجتمع من زوايا معاناة الأفراد لها، وتأثيرها على حياة المسلم الفرد، ولم يلحظوا في الغالب تأثيرها على الأمة ومجتمعاتها»[4].
ويعتقد حسن حنفي أن السبب وراء هذه النمط التفكيري هو الحرفية التي تجعل النص لا يتحرك في أكثر من بعده الظاهري، فتحول النص عندهم إلى صورة جامدة تتحرك حول عناوين ثابتة لا يمكن أن يكتب لها المرونة والتحرر، ويضيف إلى ذلك الرغبة في التسلط على الناس التي تتيحها سلطة النص باحتكار العلم والتفسير، يقول: «السبب في ذلك هو الوقوع في النصية وفي الحرفية، وفي بعض الاتجاهات السلفية، التي تجعل من النص الديني نصًّا فقط، من دون مضمون، وكأنه لغة يتم تفسيرها حرفيًّا وكأن هذا النص غير موجه لواقع، وكأنه في البداية لم يبدأ كحل لسؤال، كما هو معروف في أسباب النزول. فالذي يمنع من التفكير المقاصدي هو الوقوع في الحرفية، وأيضاً الرغبات في التسلط على الناس، لأن السلطة النصية هي التي تحتكر العلم وتحتكر التفسير وتحتكر الرأي فالذي يفكر بالمقاصد هذا خارج السلطة، وهو إنسان من المعارضة عادة يؤمن بحرية التفكير، ويؤمن بإمكانية معرفة روح الإسلام»[5].
ويعتبر أحمد الريسوني أن كل الاختلالات في الفقه الإسلامي الذي شكَّلها التفكير الجزئي، كانت بسبب غياب الرؤية الشمولية التي تخلقها المقاصد. يقول: «إن غياب المدرسة المقاصدية والنظرة الشمولية هو سبب كثير من الاختلالات التي نجدها عند بعض الفقهاء والمفتين وبعض الدعاة وعند بعض المفكرين، وحتى عند بعض المنظرين والمسيِّرين للحركة الإسلامية، وهذه الاختلالات راجعة إلى فقدان أحد أمرين، إما النظرة الشمولية إلى الإسلام وإما النظرة إلى المقاصد»[6].
وبذلك يمكننا تلخيص حيثيات هذا التفكير المقاصدي في بعدين: الأول الواقع المتغير والثاني النص المستبطن للمقاصد المستوعبة لذلك الواقع المتغير، وهو بتعبير آخر الحديث عن دواعي وضرورة التغير والتجديد الديني.
__________
* مجلة البصائر العدد 38 السنة 16 1426 هـ - 2005 م.
** الشيخ معتصم سيد أحمد عالم دين، من السودان.
(يُتْبَع .. )