و«عِلْمُ الْكَلَامِ» و« الْفَلْسَفَةُ» أَسْمَاءٌ بِدْعِيَّةٌ ذَمِيمَةٌ.
ـــــــــــــــ ــــــــــــ
الشرح :
قوله (وعِلْمُ الْكَلَامِ.. الخ) علم الكلام مستمد من الفلسفة وهي مشتقة من كلمة يونانية وهي فيلاسوفيا وتفسيرها: محبة الحكمة فلما أعربت قيل: فيلسوف ثم اشتقت الفلسفة منه ومعنى الفلسفة: علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح.
وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصاً بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل في زعمهم.
وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو، وهم المَشَّاؤُون خاصة، وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وبسطها وقررها. وهي التي يعرفها، بل لا يعرفُ سواها، المتأخرون من المتكلمين.
أما الفلاسفة فإن إيمانهم بالله تبارك وتعالى لا يكاد يتعدى الإيمان بوجوده المطلق، -أي بوجوده في الذهن والخيال دون الحقيقة-، وأما ما عدا ذلك فلا يكادون يتفقون على شيء، فالمباحث العقدية عندهم من أسخف وأفسد ما قالوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «أما الإلهيات فكلياتهم فيها أفسد من كليات الطبيعة، وغالب كلامهم فيها ظنون كاذبة فضلاً عن أن تكون قضايا صادقة»([1]).
والذي ينبغي معرفته أن الفلاسفة لا يؤمنون بوجود الله حقيقة، ولا يؤمنون بوحي ولا نبوة ولا رسالة، وينكرون كل غيب، فالمبادىء الفلسفية جميعها تقوم على أصلين هما:
الأصل الأول: أن الأصل في العلوم هو عقل الإنسان، فهو عندهم مصدر العلم.
الأصل الثاني: أن العلوم محصورة في الأمور المحسوسة المشاهدة فقط.
فتحت الأصل الأول أبطلوا الوحي، وتحت الأصل الثاني أبطلوا الأمور الغيبية بما فيها الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثم إنهم تسلطوا على المسائل الاعتقادية وزعموا أنها مجرد أوهام وخيالات لا حقيقة لها ولا وجود لها في الخارج، فلا الله موجود حقيقة، ولا نبوة ولا نبي على التحقيق، ولا ملائكة، ولا جنة ولا نار، ولا بعث ولا نشور.
وأما أهل الكلام فقد شاركوا الفلاسفة في بعض أصولهم، وأخذوا عنهم القواعد المنطقية والمناهج الكلامية، وتأثروا بها إلى درجة كبيرة.
وسلكوا في تقرير مسائل الاعتقاد المسلك العقلاني على حد زعمهم، وهم وإن كانوا يخالفون الفلاسفة في قولهم إن هذه الحقائق مجرد وهم وخيال، إلا أنهم شاركوهم في تشويه كثير من الحقائق الغيبية، فلا تجد في كتب أهل الكلام على اختلاف طوائفهم تقريراً لمسائل الاعتقاد كما جاءت بها النصوص الصحيحة، فبدل أن تسمع أو تقرأ قال الله، أو قال رسوله ﷺ، أو قال الصحابة، فإنك لا تجد في كتبهم إلا قال الفضلاء، قال العقلاء، قال الحكماء، ويعنون بهم فلاسفة اليونان من الوثنيين، فكيف جاز لهم ترك كلام الله وكلام رسوله ﷺ والأخذ بكلام من لا يعرف الله ولا يؤمن برسوله؟!
والمطَّلِع على كتب أهل الكلام يدرك عِظَم الضرر الذي جَنَتْهُ على الأمة المسلمة، إذ تسببت تلك الكتب في حجب الناس عن المعرفة الصحيحة لله ورسوله ولدينه، وجُعِلَ بدل ذلك مقالات التعطيل والتجهيل والتخييل.
وإنك لتدرك علاقة علم الكلام بالفلسفة من تعريف أحد المتكلمين له يقول أبو حيان الفيلسوف المعتزلي: «وأما علم الكلام فإنه من باب الاعتبار في أصول الدين يدور النظر فيه على محض العقل في التحسين والتقبيح، والإحالة والتصحيح، والإيجاب والتجويز، والاقتدار والتعجيز، والتعديل والتجوير، والتوحيد والتكفير»([2]).
وقد ارتبط علم الكلام بالفلسفة منذ ظهور فرقة المعتزلة أو ظاهرة «الاعتزال»، يقول الشهرستاني: «ابتدءوا بدعتهم في زمان الحسن، واعتزل واصل عنهم وعن أستاذه بالقول منه بالمنزلة بين المنزلتين. فسمي هو وأصحابه معتزلة. وقد تلمذ له زيد بن علي وأخذ الأصول فلذلك صارت الزيدية كلهم معتزلة ...... ، ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حيث نشرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام. وأفردتها فنا من فنون العلم، وسمتها باسم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها، هي مسألة الكلام، فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان»([3]).
ثم قال: أما رونق الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسيين: هارون، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل؛ وانتهاؤه من الصاحب بن عباد وجماعة من الديالمة.
وظهرت جماعة من المعتزلة متوسطين، مثل ضرار بن عمرو، وحفص الفرد، والحسين النجار، ومن المتأخرين خالفوا الشيوخ في مسائل، ونبغ منهم جهم بن صفوان وأظهر بدعته في الجبر وقتل فى أخر ملك بنى أمية.اهـ
لذا قد نهى السلف الصالح عَن هَذَا النَّوْع من الْعلم وَهُوَ علم الْكَلَام والفلسفة وزجروا عَنهُ وعدوا ذَلِك ذَرِيعَة للبدع والأهواء، وَحمل بَعضهم قَوْله ﷺ «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من علم لَا ينفع». أنه علم الكلام .
ومن ذلك قول الشافعي – رحمه الله -: «ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح»، وقال: «حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام»، وقال: «لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء لفروا منه كما يفر من الأسد».
وقال أبو يوسف: «من طلب العلم بالكلام تزندق».، وذكر ابن أبي خيثمة، ثنا محمد بن شجاع البلخي قال: سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي، وقال له رجل في زفر بن الهذيل: أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر، وأبا يوسف، وأبا حنيفة، ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم.
وقال مالك بن أنس: «كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد ﷺ لجدله».
وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال: كتب رجل إلى أبي فسأله عن مناظرة أهل الكلام والجلوس معهم فأملى علي جوابه. «أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل الزيغ وإنما الأمر بالتسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله - جل وعلا».
وقال أبو عمر بن عبد البر: « أجمع أهل الفقه والآثار من جميع أهل الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ لا يعدون عند الجميع في طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والمتفقه فيه»([4]).
وقال أحمد بن إسحاق المالكي: «أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري».
قال ابن أبى العز: فكيف يرام الوصول إلى علم الأصول، بغير إتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل:أيها المغتدي ليطلب علماً ... كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلاً ... كيف أغفلت علم أصل الأصول
وما أجمل قول القحطاني في نونيته :لا تلتمس علم الكلام فإنه ... يدعو إلى التعطيل والهيمان
لا يصحب البدعي إلا مثله ... تحت الدخان تأجج النيران
علم الكلام وعلم شرع محمد ... يتغايران وليس يشتبهان
اخذوا الكلام عن الفلاسفة الأولى ... جحدوا الشرائع غرة وأمان
حملوا الأمور على قياس عقولهم ... فتبلدوا كتبلد الحيران
مرجيهم يزري على قدريهم ... والفرقتان لدي كافرتان
ويسب مختاريهم دوريهم ... والقرمطي ملاعن الرفضان
ويعيب كراميهم وهبيهم ... وكلاهما يروي عن ابن أبان
لحجاجهم شبه تخال ورونق ... مثل السراب يلوح للظمآن
دع أشعريهم ومعتزليهم ... يتناقرون تناقر الغربان
كل يقيس بعقله سبل الهدى ... ويتيه تيه الواله الهيمان
فالله يجزيهم بما هم أهله ... وله الثنا من قولهم براني
وذم أهل الكلام والمتفلسفة كثير عن أئمة السلف . وقد ألف الموفق ابن قدامة المقدسي كتاباً أسماه «تحريم النظر في كتب الكلام». وعلى هذا عامة أهل العلم لما في ذلك من ضرر إفساد العقائد .
هذا باستثناء العالم وطالب العلم الذي يريد أن يطالع شبهاتهم للرد عليها، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/525) :«والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك ، بخلاف الراسخ، فيجوز له، ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف»اهـ .
وجاء في فتاوى نور على الدرب (التوحيد والعقيدة/267) من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :«وأما كتب الصوفية فإنه لا يجوز اقتناؤها ولا مراجعتها إلا لشخص يريد أن يعرف ما فيها من البدع من أجل أن يرد عليها ، فيكون في نظره إليها فائدة عظيمة وهي معالجة هذه البدعة حتى يسلم الناس منها»اهـ.
وقد قالت اللجنة الدائمة كما في مجلة البحوث الإسلامية (19/138) :« يحرم على كل مكلف ذكرا أو أنثى أن يقرأ في كتب البدع والضلال, والمجلات التي تنشر الخرافات وتقوم بالدعايات الكاذبة وتدعو إلى الانحراف عن الأخلاق الفاضلة، إلا إذا كان من يقرؤها يقوم بالرد على ما فيها من إلحاد وانحراف، وينصح أهلها بالاستقامة وينكر عليهم صنيعهم ويحذر الناس من شرهم » اهـ.
فليتق امرؤ ربه عز وجل ولا يدخلن في دينه ما ليس منه وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية وليكونن على هديهم وطريقهم وليعض عليها بنواجذه ولا يوقعن نفسه في مهلكة يضل فيها الدين ويشتبه عليه الحق .
([1]) الرد على المنطقيين (ص114) .
([2]) رسالة أبي حيان في العلوم (ص 21) .
([3]) الملل والنحل ( 1/ 29 ) .
([4]) انظر ما سبق من أقوال الأئمة جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر رحمه الله .