كتاب "اللغة العربية في التاريخ الانساني"
وليد عبدالحي
“اللغة العربية في التاريخ الانساني” هو عنوان كتاب لمؤلفه محمد محمد علي، وصادر عن المركز التربوي للغة العربية لدول الخليج عام 2021 في الامارات العربية المتحدة.
تنتمي هذه الدراسة إلى علم اللغة في أبعاده المتعددة (التاريخي ،التقابلي، النفسي،الاجتماع ي بل وبعض فقه اللغة )، إذ تغطي الدراسة تاريخ نشوء وتطور اللغة العربية وصلتها باللغات السامية، ثم علاقتها بالمجتمع العربي وتأثير البنية الاجتماعية على تراكيبها وما تعرضت له اللغة العربية من صعود وتراجع نتيجة التحولات التي أصابت الوجود العربي.
ويكفي الاستدلال على ذلك بدور الاسلام والقرآن في انتشار اللغة ودور الاستعمار في انحسارها، وكيف أبدعت في مجال العلوم والأدب حينا وانكفأت في نفس هذه المجالات حينا آخر لا لضعف ذاتي فيها بل نتيجة انعكاس التحولات في بيئتها الاجتماعية.
وترصد الدراسة السمات التي تتميز بها العربية مقارنة بغيرها والتي أقر بها المستشرقون على اختلاف مشاربهم، ورصدت الدراسة التلاقح اللغوي بين العربية وغيرها من اللغات، وقدم نماذج على وجود آلاف المفردات العربية في مختلف اللغات والتي تعود أصولها للعربية، كما بين قدرة العربية على إيجاد مرادفات للمصطلح الأجنبي التقني، لتنتهي الدراسة إلى اقتراح بعض التوصيات لإعادة العربية إلى ألقها الذي عرفته عبر مراحل الازدهار العربي الإسلامي.
وتكمن أهمية الدراسة (اللغة العربية في التاريخ الانساني) في محاولة إعادة الثقة باللغة العربية نظرا لظهور هجمات عليها من حيث اتهامها بعدم صلاحيتها للعلوم الحديثة، أو من حيث محاولة تغليب اللهجات المحلية على فُصْحاها، أو محاولة توطين بعض اللغات الأجنبية لا سيما في ظل تمدد العولمة لكل مفاصل الحياة.
ولكن هل كل هذا ينطوي على معرفة جديدة؟ لا أظن ذلك، فلو ألقينا النظر على مراجع الدراسة لوجدنا أن كل محور من محاور الدراسة المركزية هو تجميع لمعلومات وردت في عشرات المراجع، ناهيك أن نمط التحليل ومنهجيته مُسْتَلٌ من هذه المراجع العربية والغربية على حد سواء.
تضمنت الدراسة بعض الجوانب الخاصة باللغة العربية في موريتانيا أو بعض المعلومات حول مكانة اللغة العربية وصلتها باللهجات الإفريقية، إذ أن الدراسات اللغوية حول الأقطار العربية الأخرى متوفرة أكثر كثيرا من دول الأطراف العربية الأعضاء في الجامعة العربية مثل موريتانيا.
وقد أطل الباحث قليلا على علاقة اللغة العربية بالسياسة، وكيف كانت اللغة موضع صراع مع محاولات إحلال لغات أجنبية (بخاصة الفرنسية) محلها، أو توظيف اللهجات لإضعاف الهوية العربية، أو مساندة اللغات أو اللهجات المحلية بل والدعوة لإحلالها محل الفصحى (الكردية أو الأمازيغية …الخ).
عرض الكاتب في 274 صفحة موزعة على خمسة فصول ومقدمة وخاتمة قصيرة مادة علمية حول موقع اللغة العربية في التاريخ الانساني، فهي إحدى ثلاث لغات هيمنت على العالم في فترات تاريخية معينة (الآرامية والعربية والانجليزية)، وبعد أن عرض في مقدمته أبرز ملامح موضوعات الكتاب انتقل إلى الفصل الأول (نبذة من تاريخ اللغة العربية وخصائصها) وتركز على عرض نظريات نشوء اللغة الرئيسية ونقد كل منها وهي: التوقيف (الهام من الله) والتواضع والاصطلاح (اتفاق بين البشر أو بعضهم) ومحاكاة الأصوات( الأصوات في الطبيعة أو الحيوان) و دلالة الكلمة بذاتها على معناها (علاقة اللفظ بالمعنى) والغريزة( اعتبار اللغة غريزة في الانسان للتعبير عن نفسه).
ويتناول نشأة اللغة العربية فهي لغة ساميّة (مع العبرية والسريانية، الأصل لها من الجزيرة العربية) ويناقش مخالفة لويس عوض لهذا الرأي، ويتناول اللهجات (القحطانية والعدنانية)، ثم يعرض الآراء التي ترى ان نشوء العربية كان في مناطق الشرق الأوسط الأخرى، ويعمل على تفنيدها (الشام، العراق، مصر..الخ)، مؤكدا على دور القرآن والكتب المقدسة في الحفاظ على حيوية وبقاء لغاتها كما هو حال العربية والقرآن.
وينتقل لعرض خصائص العربية: كثرة مفرداتها واشتقاقها، دقة التعبير، توطين مفردات اللغات الأخرى أو الأخذ منها وإيجاد المعنى العربي المقابل لها (راديو- مذياع)، وتفردها بأنها اللغة الوحيدة التي فيها مثنى، وما أسماه الباحث ” شجاعة اللغة “(التقديم والتأخير والقلب والإبدال..الخ، المجاز والكثافة في المعنى، ثم المرونة والاشتقاق والنحت والتوليد). وأخيرا القدرة على الاستمرار التاريخي.
في الفصل الثالث (دور العربية في نهضة الحضارة)، يتتبع الكاتب انتشار اللغة العربية من خلال انتشار الإسلام شرقا وفي إفريقيا ، وعبرت إلى أوروبا عبر الحضارة العربية في الأندلس، وأثرت اللغة العربية في لغات المناطق التي وصلت لها، فأثرت على الفارسية (60% من مفردات الفارسية) والهندية والأوردية، كما أثرت في البرتغالية والإسبانية والفرنسية والألمانية، كما ساهمت الحروب الصليبية في الاتجاه نفسه، كما تركت العربية آثارا لها في بعض اللغات الافريقية (مثل الولونية في السنغال). ويدلل الكاتب على تأثير العربية في الآداب الأوروبية بالإشارة إلى الطروبادرو (Troubadour، ودانتي،وسرفانتي س، بل أن كولمبوس اصطحب معه مترجما يهوديا يتقن العربية.
وفي الفصلين الثالث والرابع تناول التحديات التي واجهت اللغة العربية، فتناول فيهما عهد الاستعمار (محاولة طمسها ودور الدين الإسلامي في مقاومة ذلك، محاولة تغليب اللهجات عليها، وهو ما كان واضحا في المغرب العربي)، أما تحديات العصر فأهمها التحول من العربية إلى اللغات الأجنبية بخاصة في قطاع العلوم والتكنولوجيا والطب، (الانجليزية في المشرق والفرنسية في المغرب)، ثم يتناول تحدٍ آخر وهو منافسة اللهجات والعامية للفصحى والترويج لذلك من بعض النخب الفكرية العربية (كما جرى في مصر ولبنان وتونس والجزائر…الخ).
في الفصل الخامس والأخير (مستقبل العربية خلال القرن 21) وحدد ثلاثة سيناريوهات: الأول: موتها أو انحسارها في دائرة القرآن، ويرى أن الامية واتساع دور اللهجات ونقص الانتاج العلمي بالعربي مؤشرات على هذا السيناريو، السيناريو الثاني هو استمرار الوضع الحالي وهو مرتبط ببقاء أو تغير مستوى التخلف العربي الحالي، أما السيناريو الأخير فهو تطورها ومؤشرات ذلك: قدرة العربية على التكيف مع التغيرات (عبر النحت والاشتقاق..الخ) ثم حضورها في الهيئات الدولية والمدنية.
عنوان الدراسة هو ” اللغة العربية في التاريخ الإنساني”، ذلك يعني جعل اللغة العربية مادة للبحث التاريخي،من حيث نشأتها وتطورها وانكفائها عبر الماضي السحيق ثم العصور التي ازدهرت فيها كتفا إلى كتف مع انتشار الإسلام وصولا إلى مرحلة تَسَيٌدِها على غيرها في حقول المعرفة كافة، وصولا لبدء انكفائها بسبب عوامل خارجية في أكثرها و داخلية في بعضها.
وخلال مسار رحلة البحث توقف عند خصائص اللغة العربية ومزاحمة اللغات لها وترابط تمددها وانكفائها بحركة مجتمعها وحركة المجتمعات الآخرى، فكما تركت تأثيرها على غيرها، تأثرت بدورها بغيرها من اللغات.
ذلك يعني أن الباحث أوفى بحثه حقه من حيث التزام المنهج التاريخي في التتبع لحياة اللغة العربية، ومنهج المقارنة في مقابلتها بلغات أخرى بخاصة من حيث المرونة في تراكيبها وكل متطلبات فقه اللغة واللسانيات، ووظف بقدر لا بأس به بعض منهجيات علم الاجتماع اللغوي، بل حاول ولو برفق شديد استشراف مستقبل اللغة العربية عبر تقنية السيناريوهات وتلمس مؤشرات كل منها دون أن يرجح أيا منها.
لكن حجم وكثافة الاقتباسات جعل دور الكاتب مجرد القص واللصق، وأفرط أحيانا في هذا الجانب، وكثير مما اقتبسه كان أقرب للمتداول حتى بين العامة (أهمية القرآن للغة العربية، أو موضوع فرنسة المغرب العربي، أو إشكالية تدريس العلوم الطبيعية والطب بلغات غير العربية، أو التأثير المتبادل بين العربية وغيرها من حيث المفردات والمصطلحات…الخ) .