بيع المرابحة من أهم العقود المعاصرة للتمويل في المصارف الإسلامية ، وهذا بحث ومقال مختصر عن هذا العقد ، ولقد كتبت مصنفات مطولة في هذا العقد بين مؤيد له ومعارض ـ أو بمعنى أخر : بين مجيز ومانع ـ ومن أفضل ما كتب في هذ الصدد ما سطره العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في كتابه : المرابحة للآمر بالشراء . فمن شاء أن يرجع إليه فليرجع ، فهو مهم في بابه ، لكني رأيت بحثا مختصرا لبعض الفضلاء ، فأحببت أن أنقله هنا للفائدة .
تعريف المرابحة:
تطلق ويراد بها اصطلاحًا عند الفقهاء المرابحة البسيطة وهي:البيع برأس المال وربح معلوم كما يعرفها الحنابلة ويوافقهم غيرهم
فالمرابحة عند الفقهاء المتقدمين، ليست هي مرابحتنا في الوقت الحاضر التي تراد عند الإطلاق ، فهي المرابحة للآمر بالشراء أو المرابحة المركبة،وأطلق عليها بعض المعاصرين (بيع المواعدة) (المرابحة للواعد بالشراء) لكي لا تلتبس بالمرابحة البسيطة ، ولأن الوعد أساس فيها فجميع صورها مبنية على الوعد ملزما كان أو غير ملزم، ولأن لفظ الأمر قد يشعر بالتزام المصرف بتنفيذ أمر العميل، وتشعر بالتزام العميل بالشراء وهي بهذه التسمية تمثل صور
المرابحة الملزمة وغير الملزمة كما أنها تبين مرحلتي العقد. (المواعدة ثم إبرام العقد )فهذه التسمية أدل وأقرب إلى حقيقتها، كما أن تسميتها ببيع المرابحة للآمر بالشراء مناسب لأن له أصلا من إطلاقات الفقهاء لفظ الأمر عليها مع عدم إرادة الإلزام.
أهمية بيع المرابحة:
تعد المرابحة من أهم أساليب الاستثمار الإسلامية التي نشأت بديلاً للمعاملات الربوية.
فمن أبرز الأسباب وجودها:
1- بديل شرعي للاستثمارات الربوية السائدة في البنوك.
2- انخفاض جانب المخاطرة، لا سيما مع الإلزام بالوعد.
3- سهولة عقدها لأن مراحلها محددة.
4- بالنسبة للعميل الحصول على التمويل المحتاج إليه.
5- الاستفادة من خبرة البنك في دراسة الجدوى وتقييم البضاعة.
6- أن السلعة التي يريدها العميل قد تكون في دولة خارجية فيطلب العميل من البنك استيرادها.
وصف المرابحة المشهورة:
ومنه يتبين أن الصورة موجودة لدى الفقهاء المتقدمين وقد أجازها جمهورهم وقد عرفت هذه المعاملة عند المعاصرين بتعريفات هي في الحقيقة بيان لصورها،ومنها:
1- أن يتقدم العميل للمصرف طالبا منه شراء السلعة المطلوبة بالوصف الذي يحدده العميل وعلى أساس الوعد منه بشراء تلك السلعة فعلاً مرابحةً بالنسبة التي يتفقان عليها حيث يتم دفع الثمن مقسطا حسب الإمكانية. "الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية"
ويؤخذ عليه أنه قصر الصورة على الأخذ من المصرف.ولذا الأولى اتفاق بين طرفين.
2-قيام البنك بتنفيذ طلب المتعاقد معه على أساس شراء الأول ما يطلبه الثاني بالنقد الذي يدفعه البنك - كليًّا أو جزئيًّا - وذلك في مقابل التزام الطالب بشراء ما أمر به وحسب الربح المتفق عند الابتداء."قانون البنك الإسلامي الأردني".
3- أن يتفق البنك والعميل على أن يقوم البنك بشراء سلعة ليست عنده على أن يشتريها العميل منه بعد ذلك بسعر عاجل أو آجل تحدد فيه نسبة الزيادة مسبقاً.
مراحل المرابحة:
و يتبين مما تقدم أن للمرابحة ثلاثة مراحل:
1- مرحلة المواعدة (تبدأ من طلب العميل من البنك شراء السلعة حتى شراء المأمور لها)
2- مرحلة الشراء و التملك (تمتد من شراء البنك إلى بيعها للعميل).
3- مرحلة البيع (بيع المصرف السلعة على العميل إلى نهاية سداد الأقساط).
ويمكن أن تختصر إلى مرحلتين: 1- المواعدة. 2- البيع.
ويتبين أن من ابرز الفروق بين المرابحة البسيطة والمركبة ما يلي:
1- العلاقة في المرابحة البسيطة تنحصر بين طرفين، والمرابحة المركبة بين ثلاثة.
2- المركبة فيها مواعدة، بخلاف البسيطة لأن المبيع في حوزة البائع.
3- في المركبة ثلاث مراحل بخلاف البسيطة فهي مرحلة واحدة.
4- المرابحة البسيطة تكون حالة ومؤجلة، أما المركبة فيكون الثمن مؤجلاً غالباً.
5- المخاطرة في البسيطة أكثر من المركبة.
وغيرها من الفروق، ومنه يتبين الاختلاف الجذري بين البيعتين.
صور بيع المرابحة:
1- أن تكون المواعدة غير ملزمة وليس ثم ذكر مسبق لمقدار الربح.
فالأئمة الأربعة على الجواز، لعدم وجود الالتزام مع عدم النص على الربح المورث عند المالكية شبه السلف الذي جر نفعا..
2- أن تكون المواعدة غير ملزمة مع ذكر مسبق لمقدار الربح، فالخيار لكلا الطرفين وهي جائزة عند الجمهور، وخالفت المالكية لشبهة الربا واعتبروه من العينة المحرمة كما ذكر ابن رشد وكأنه سلف ثمن السلعة ثم يأخذه وزيادة الربح بعد الأجل. وبجوزاها صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم (40، 41) وأخذ بها مصرف الراجحي و بنك البلاد،
3- أن تكون المواعدة ملزمة للطرفين مع ذكر مقدار الربح، صدر بها فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي دبي 1399هـ. والمؤتمر الثاني، وقرار دلة البركة 1403هـ. وعمل بها مصرف قطر الإسلامي، والبنك الإسلامي السوداني والأردني.
4- أن تكون المواعدة ملزمة لأحد الطرفين مع ذكر مقدار الربح ولها حالتان:
أ*- أن يكون الإلزام على البنك دون العميل ويبتدئ إلزام المصرف بعد شراء السلعة، وممن عمل بها بنك البركة وبنك فيصل الإسلامي وبنك التضامن، واختار القول بها الدكتور الصديق الضرير.
ب*- أن يكون الإلزام للعميل دون المصرف ولم أقف على تطبيق لها.
والظاهر هو منع الأئمة لهاتين الصورتين للإلزام فيهما الذي أورث محاذير شرعية، ستأتي الإشارة لها.
حكم عقد المرابحة:
يتبين مما تقدم أن عقد المرابحة يتكون من عناصر رئيسة هي:
1. وعد ملزم من المشتري للمصرف بشراء السلعة وقد يكون الوعد غير ملزم.
2. عقد بيع بين المصرف والبائع المالك للسلعة.
3. عقد بيع مرابحة بين المصرف والمشتري.
إذا لا بد من معرفة حكم تلك العناصر ليتبين لنا حكم المرابحة.
حكم الإلزام بالوعد:
المقصود بالوعد لدى المتقدمين هو الوعد بالمعروف، وهو الذي جرى فيه الخلاف بين المالكية القائلين بالإلزام على تفصيل عنده-سيأتي- وبين الجمهور القائلين بعدم الإلزام بالوعد بناء على أن الوفاء بالوعد مستحب وليس واجبا ويستدلون على ذلك ببعض الأدلة -وإن كان فيها ضعف -ومنها ما روي عن النبي rأنه قال:«إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف فلا شيء عليه».
كما يعللون بأن معنى الوعد هو إخبار بإنشاء معروف في المستقبل فهو تبرع محض،و لا يجب على المتبرع إتمام وعده،كما أن عقود التبرعات كالهبة لا تلزم قبل قبضها،ولذلك الفقهاء متفقون على أن من وعد بمال فأفلس الواعد أو مات فإن الموعود لا يطالب مع الغرماء بما وعد به.
وأما دليل القائلين بالإلزام بالوعد بالمعروف وهم المالكية واختيار شيخ الإسلام فهو قوله تعالى:﴿يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون﴾[الصف:2] وبمثل حديث: «آية المنافق ثلاث:.. إذا وعد أخلف».
والخلاف المتقدم في الإلزام بالوعد قد سحبه بعض المعاصرين للمعاوضات وهذا خطأ واضح يتصادم مع مذهب المالكية فضلا عن مصادمته لقواعد شرعية سيأتي بيانها،فيمكن القول أن أيا من الفقهاء المتقدمين لم يقل بالتسوية بين الوعد في المعروف والوعد في المعاوضات من جهة اللزوم بل يمكن أن نكون أكثر تحديدا لنقول إن أيا منهم لم يقل بالإلزام بالوعد في المعاوضات لما ينشأ عنه من محاذير شرعية تقدمت الإشارة لها.
ولذا عرفه ابن عرفة المالكي بعيدا عن المعاوضات: "بأنه إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل".
ولذا فالمالكية الذين قالوا بالإلزام بالوعد منعوا الصور الواردة في المعاوضات، ولم يجيزوا صورة المرابحة كما تقدم، ويبن هذا:
*أ- أنهم ينصون على المواعدة وهي تكون من طرفين في معاوضة يصيرها عقداً بخلاف الحال هنا فهي وعد من طرف واحد في غير معاوضة.
ولذا ينصون: "الأصل منع المواعدة بما لا يصح وقوعه في الحال حماية". قاعدة 69 عند الونشريسي، وقد جاء في شرح القاعدة كما في إيضاح المسالك: "ومن ثم منع مالك المواعدة في العدة وعلى بيع الطعام قبل قبضه وقت نداء الجمعة وعلى ما ليس عندك".
*ب- ثم إن نسبة القول بلزومه قضاء عند المالكية غير دقيق فقد نقل عليش في فتاواه (فتح العلي المالك ...) أربعة أقوال:
أ-يقضى بها مطلقا ولم ينسبه لأحد. ب- ولا يقضى به مطلقا.
ج- يقضى به إن كان مبنيا على سبب وهو قول أصبغ.
د-إن كان مبنيا على سبب ودخل الموعود في شيئ وهذا مذهب ابن القاسم..
وأجيب: بأنه إذا جاز في التبرعات ففي المعاوضات أولى لما يترتب عليها من التزامات مالية، وضرر مع عدم الإلزام بالوعد.
ورد هذا الجواب: بأن ذلك يترتب عليه محاذير شرعية منها:1- بيع ماليس عنده لأن الوعد إذا كان ملزما انقلب عقدا، ومن المعلوم أن المأمور بالشراء لم يملك السلعة الموعود بها عند التواعد.
2- تأجيل البدلين عند التواعد.3-انعدام شرط الرضا عند العقد اللاحق.
ولذا جاز الغرر في التبرعات ولم يجز في المعاوضات، لما في المعاوضة من معنى مختلف،وأما الضرر المدعى مع عدم الإلزام فيقابله ضرر مدعى مع الإلزام،وهو أظهر لاسيما مع مشروعية الخيار للآمر بديلا عن الإلزام.
حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء:
تقدم ذكر صور بيع المرابحة وتبين منها أن الخلاف يكاد ينحصر في صورتين:
أولاهما: -والخلاف فيها أخف – هي الصورة التي تقوم على تحديد الربح مع مواعدة غير ملزمة.
فاختلفوا فيها على قولين:
القول الأول: ذهب المالكية إلى المنع. واختاره ابن عثيمين والألباني.
وحجتهم أنها حيلة لأكل الربا .
قال ابن رشد في المقدمات (2/532): " والعينة على ثلاثة أوجه: جائز ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعها منك، فيقول له: لا. فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها، ثم يلقاه فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها بما شاء نقدا أو نسيئة. والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح، والمحظورة أن يرواضه على الربح".
وقال في الشرح الصغير للدردير (3/129): معلقا على الصورة نفسها "فالعينة : وهي بيع - من طلبت منه سلعة للشراء وليست عنده، لطالبها بعد شرائها - جائزة ، إلا أن يقول الطالب: اشترها بعشرة نقدا، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل، فيمنع لما فيه من تهمة سلف جر نفعا ؛ لأنه كأنه سلفه عشرة ثمن السلعة يأخذ عنها بعد الأجل اثني عشر".
فالمشتري أراد المال، والمصرف ومن في حكمه أراد بيعها له بأجل بثمن أزيد، ولم يرد شرائها لنفسه فلذا اعتبرها المالكية عينة وحرموها.
ونوقش هذا بما يلي:
1. أن البيع والشراء تم بأركانه وشروطه الشرعية، وليس من نواقضها إرادة المال –كما هو الأمر هنا-، ولا عدم إرادة السلعة كما هو حال المأمور فلا يشترط لصحة البيع أن يكون لاقتناء أو استهلاك، بل حال كثير من التجار، أنهم يشترون ليبيعوا ويفيدوا من فارق السعر.
2. أن بينها وبين العينة فروقاً، منها:
§ تمحض قصد المال في العينة بخلاف صورة المرابحة للآمر بالشراء فإن قصد السلعة حاضر لدى المشتري (الآمر).
§ كما أن صورة العينة الواردة التي يتمحض فيها قصد المال ويحتال فيها على الربا هي ما إذا كانت بين طرفين.
3. كما أن بعضهم حمل كلام المالكية في هذه الصورة على من عرف بالعينة والحيل الربوية ولذا ينصون على كونه من أهل العينة كما تقدم من كلام ابن رشد وبين سبب ذلك بقوله: "يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة لعملهم بالمكروه واستباحتهم له".
4. كما أن بين ربح المرابحة وفائدة القرض اختلافاً لأن الربح المذكور لا ينفك عن تحريك للسلعة ودوران المال بين عدة أطراف، مما يفيد الاقتصاد.