البنية الدعوية وإحياء فقه الدعوة !!

من المسلمات التي لا شية فيها أن هذه الأمة قد اصطفها المولى جل جلاله على أمم البشرية جمعاء ، وهذا الاصطفاء إذا نظرنا إلى موجبه وجدناه جملة من الاختصاصات في موارد متنوعة هي محل امتياز هذه الأمة وعلو شرفها ، وكان من أخص هذه الموجبات قيامها بشريعة ربانية تجسد فيها طاعتها لمولاها ورحمتها بالخلق كافة ، قاصدة بها الرقي بالمستوى البشري بعمومه عن مواطن التخلف والرجعية إلى النهضة الحضارية الربانية وهي دعوتها لله – سبحانه – وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر ، قال تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) .

وقد يكون هذا العنوان بالنظر إلى سياقه القاصد إلى بناء ذات شمولية محلا لتساؤل مفاده : كيف يكون القصد إلى بناء الذات دعويا مع أن مقام الدعوة هو في ظاهره مقام عطاء لا بناء ؟

هذا التساؤل يأتي نتيجة تصور مختزل لمفهوم الدعوة وارد على مقام من مقاماتها ، وقد يكون لهذا التصور حظ من النظر إذ هو المتبادَر من هذا المصطلح ؛ إذ الدعوة في مجملها مقام من البذل والنفع والعطاء ، ومورد الغلط هنا قصر تصور مفهوم الدعوة على هذا المقام وهي في حقيقتها قبل ذلك فقه وبصيرة ووعي قبل العطاء تحقيقا لقول الباري – سبحانه – ( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ...) وهذا ما يقصد إلى التنبيه على قدر منه في هذا المقال .

إذا تأملنا التوجيهات الربانية لأعظم المصلحين في تاريخ هذه البشرية وهم الأنبياء – عليهم من الله أفضل الصلاة وأتم السلام – سيما خاتمهم النبي الأمي صاحب المقام المحمود والشفاعة العظمى صلى الله عليه وسلم إذ هي أصل فقه هذا الباب تحصل لنا فقه عظيم وقواعد تضبط سير الدعاة إلى الله على نهج نبوي توصل إلى المقصود بأقرب طرقه !

ومن أخص فقه هذا الباب الذي يظهر كنتيجة من استقراء لكتاب الله عز وجل مع النظر في السياق التاريخي للنزول والسيرة النبوية العطرة التي تمثل تطبيقاً عملياً لقواعد هذا الباب هو ما نراه من مراعاة للمرحلة الزمنية والمكانية التي تكتنف الداعي إلى الله ، ومن معرفة لحال المدعوين وما يناسب عقولهم وتصوراتهم ، ومن تدرج في مراحل الخطاب والتشريع لتربية النفوس وتطويعها على العمل بما شرعه الله ، وموازنة بين المصالح والمفاسد في النظر إلى مآلات العمل وآثاره ، وفقه لأوليات ما يحتاجه الناس إلى سلوك المنهج المستقيم ، وغير ذلك من القواعد التي تجمعها قاعدة كبرى قد تكون أصلاً في هذا الباب وهي ( فقه مراعاة المرحلة ) نستخلصها بعد النظر في سياق الآي والأحاديث قي زمنها المكي قبل الهجرة ؛ إذ مدارها على تقرير عقيدة التوحيد ومجادلة من يعاندها بتكذيب أو صدود بحجج عقلية إيمانية بضرب الأمثال وحكاية حال السابقين وما مر بهم ، ومن تدرج في التشريع بمأمورات تناسب الحال إذ كانت الصلاة ركعتين وأمر بمطلق الزكاة بدون ذكر لتفاصيلها وشروطها ، ومنهيات قصد في النهي عنها حال من التدرج والتأني ، وأما الزمن المدني فنراه حفلا بالتشريعات المناسبة للدولة المدنية في حال من قوتها وعزها مع بقاء التقرير العقدي مطردا في السياقين .

هذا الفقه الذي يمثل جزءا قليلا من فقه هذا الباب هو ما يقصد بالدعوة إلى بناء الذات بتحصيله ودركه ، لحاجة ماسة للعمل بقواعده في هذا العصر المتلاحق من جهة كثرة المتغيرات وسرعة تحولها ، فالعمل الفردي لا مكان له في ظل هذه العولمة المتشابكة وهذه النوازل المتسارعة التي يلزم منها تجديد وسيلة الخطاب الدعوي ومراعاة مضمون يناسب حال المدعوين ؛ هذه الأوضاع التي هجمت على تفكير الناس وغيرت قدرا من تصوراتهم تستلزم تكاتف الجهود على أشكال أعمال مؤسسية تتداول فيها الآراء وتتبادل الخبرات ويتوصل بها إلى نتيجة ناضجة محكمة ينظر من خلالها ما يناسب المرحلة من وسائل متجددة ومضمون مناسب يوحد الاتجاه ويحقق المقصود .

وإذا نظرنا إلى حال الموعظة كجزء من خطاب الدعوة وجدناها جانحة إلى سياط الترهيب والتخويف مهمشة سياق الترغيب مهملة فطرة النفس البشرية المتزنة بين هذين المقامين والذي أتى القران الكريم بتحقيقه إذ هو ( بشيرا ونذيرا ) فضلا عن الموعظة العقلية التي تحرك الإيمان عن طريق العقل الذي امتاز به البشر والتي قد أتت في جملة من سياقات القران العظيم قال سبحانه : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون ؟) ، فتحقيق التوازن في الخطاب الوعظي هو منهج قراني نبوي فضلا عن تحتمه لمراعاة زمن مادي أصبح فيه الاقناع العقلي أجدى من الشحن العاطفي !

إن الدعوة إلى المنهج الرباني بتعبيد الناس لرب العالمين إذا أرادت تحقيق ثمارها ونتائجها في المخاطبين هي مطالبة قبل ذلك بفقه للعصر ومتغيارته ، بسبر أحوال الناس وما يحتاجونه ، وعدم الركون إلى طرق قد عفا عليها الزمن ، بل بتنويع وتجديد للوسائل قدر المستطاع ، وطَرق طُرق الاقناع بكافة ، وحرص على مقام البناء بجانب مقام الهدم ، وحرص على قيام للمشاريع المؤسسية بروح مبادرة ، كي نعلو بهذه البشرية من حال الانحطاط والتخلف إلى نهضة حضارية ربانية شاملة ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء .