تحريف السنة النبوية عن معانيها الصحيحة طعن في النبي – صلى الله عليه وسلم- فهم السُّنة بين العلمانيين والمتطرفين





ثبت يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بالذبح لعامة الناس لأن هذا لم يقع وقد قال الله عنه صلى الله عليه وسلم : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
النبي [ قتلَ المعتدي المحارِب ولم يقتل كلّ المخالفين كما يؤيّد ذلك فعلُه [ وفعلُ صحابته الكرام
ليس في الحديث مستندٌ لا للعلمانيين ولا الملاحدة في الطعن في الإسلام ولا لأصحاب الفكر المتطرف في قتلهم الناس كلهم
التشريعات الإسلامية الخاصّة بالحروب مشتملة على رحمة واسعة مثل النهي عن التمثيل بالأسرى وتعذيبهم
استغلّ هذا الحديثَ أصحاب الفكر الغالي في تسويغ أمر ذبح الناس وهو ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لا بمكة ولا بعد الهجرة ولم يفهمه أحد من الصحابة الكرام ومن بعدهم
الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم، والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال.
وبين أيدينا حديث استغلَّه الملاحدة والعلمانيون للطعن في دين الإسلام وتشويه صورته، وتنفير الناس وصدِّهم عن الدخول فيه، واستغله كذلك أصحاب الفكر الغالي والمتطرفون تسويغا لأفعالهم الشنيعة، وهي قتل الناس في الأماكن التي سيطروا عليها، فشوَّهوا بأفعالهم الشنيعة صورة الإسلام السمحة، ونفَّروا الناس عن دين الإسلام.
نص الحديث
عن عروةَ بن الزبيرِ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثرُ ما رأيتَ قريشًا أصابت من رسول الله فيما كانت تُظهر من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحِجر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،‏ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قطّ؛ سفَّه‏ أحلامَنا، وشتَم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسبَّ آلهتنا، لقد صرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا. ‏قال: فبينما هم كذلك؛ إذ طلع عليهم رسول الله ‏‏- صلى الله عليه وسلم -، ‏فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا ‏بالبيت، ‏فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول. قال: فعرفتُ ذلك في وجهه، ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «تسمعون يا معشر‏ ‏قريش؟ ‏أما والذي نفس‏ ‏محمد‏ ‏بيده،‏ ‏لقد جئتكم بالذبح». فأخذتِ القومَ كلمتُه حتى ما فيهم رجل إلا كأنّما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدَّهم فيه وصاةً قبل ذلك لَيَرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنتَ جهولًا، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -‏ حتى إذا كان الغد اجتمعوا في ‏ ‏الحجر‏ ‏وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه! فبينما هم في ذلك؛ إذ طلع رسول الله‏ ‏- صلى الله عليه وسلم -، ‏فوثبوا ‏إليه ‏وثبة ‏رجل واحد، فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا -لِما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم- قال: فيقول رسول الله ‏‏- صلى الله عليه وسلم -: ‏«نعم، أنا الذي أقول ذلك». قال: فلقد رأيت رجلًا منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: وقام‏ ‏أبو بكر الصديق‏ - رضي الله عنه - ‏دونه يقول -وهو يبكي-: ‏أتقتلون رجلًا أن يقول: ربي الله؟! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيتُ ‏قريشًا بلغت منه قطّ.
أصل الشبهة
هذا الحديث مما يتمسَّك به الملاحدة في طعنهم في الإسلام وبيان أن الإسلام إنما جاء بالعنف والقتل، وليس رحمة وسلاما كما يزعم المسلمون -بحسب زعم الملحد-، بل يرون أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائل هذه العبارة- هو رأس العنف والغلوّ في القتال، ويتجلى هذا من خلال هذا النصّ وأمثاله. كما يتمسّك بهذا الحديث بعض الفرق الغالية في التكفير، فيرون أن الحديث يدلّ على كثرة قتل الناس، وأن الإسلام قائم على مثل هذا.
الرد على هذه الشبهة
ويمكن الرد على هذه الشبهة من وجوه عدة كما يلي:
أولًا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -كان قبل الهجرة
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا إنما كان قبل الهجرة؛ حيث آذى كفار قريش النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ الإيذاء كما هو معلوم، والحادثة تروي كيف أنهم آذَوه - صلى الله عليه وسلم - بالكلام، والروايات الأخرى للحديث تدلُّ على أنهم آذوه بالفعل أيضًا، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوعَّدهم بهذا اللفظ، وهو أمر واقع في حياته وبعد مماته كما سيأتي بيانه.
ثانيًا: توعَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - من باب بيان الواقع
توعَّدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقتل من باب بيان الواقع، وهو النبي المؤيَّد الصادق، فقوله - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك واقعٌ، فقد قُتل أبو جهل في غزوة بدر، وقتل عقبة بن أبي مُعيط. فتحقَّق فيهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونجد ما يشير لهذا في الرواية الأخرى للحديث التي أوردها ابن حبان في صحيحه، فعن عمرو بنِ العاص - رضي الله عنه - قال: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا يومًا، رأيتهم وهم جلوس في ظل الكعبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي معيط، فجعل رداءه في عنقه، ثم جذبه حتى وجب لركبتيه - صلى الله عليه وسلم -، وتصايح الناس، فظنوا أنه مقتول. قال: وأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - يشتدّ حتى أخذ بضبعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورائه، وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! ثم انصرفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى صلاته مرّ بهم وهم جلوس في ظلّ الكعبة، فقال: ‏«يا معشرَ قريش، أما والذي نفسي بيده، ما أرسلتُ إليكم إلا بالذبح»، وأشار بيده إلى حلقه، فقال له أبو جهل: يا محمّد، ما كنتَ جهولًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ‏«أنت منهم»، فقد عيَّن أبا جهل، ووقع ما قاله - صلى الله عليه وسلم -. فهو حديث خاصّ أورده النبي - صلى الله عليه وسلم - في واقعة خاصّة ليتوعَّد أناسًا بأعيانهم.

ثالثا: الحديث من دلائل النبوة
هذا الحديث من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فقد قاله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أشدّ حالات الضعف وهم يستهزئون منه ويتوعّدونه، وفي بعض الروايات أنهم كانوا يؤذونه، وقد وقع مثلما قال، فقد أعز الله الإسلام، وأذل الكفر وأهله، وقتل صناديد كفار قريش في غزوة بدر، يقول البيهقي: «وفي هذا الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - أوعدهم بالذبح وهو القتل في مثل تلك الحال، ثم صدَّق الله -تعالى- قوله بعد ذلك بزمان، فقطع دابرهم، وكفى المسلمين شرهم».
رابعا: التوعد بالقتل لأناس بعينهم
مما يدلّ على أنه لأناس معينين: حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فقد كان مستضعفًا قليلَ الأتباع، فكيف يهدِّد قادةَ قريش كلهم بالذبح؟! ومع هذا فلا يجب أن يقال: إن الحديث مقرون بسببه فقط.
خامسًا: المراد بالوعد بالقتل في الحروب
حتى وإن كان الحديث عامًّا، أي: ليس خاصًّا بأفراد معيَّنين، فإن المراد هو القتل في الحروب وليس الغدر والاغتيال، وهذا موجود في كلّ الأديان والمتعارف عليه بين كلّ الحضارات والدول، ذلك أن المعتدِي لا يُترَك على اعتدائه، فيقاتَل ويُقتَل، فالحديث أوّلا بعيد عن زعم الملاحدة بأن الإسلام جاء لقتل الكلّ، كما أنه بعيد عن أصحاب الفكر الغالي ممن يستدلون به على قتال كلّ المخالفين، وهو ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - قائل هذه العبارة؛ فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عاهد المشركين، وعاهد اليهود، ودخل مكّة على كفار قريش فاتحًا، ثم أمنهم ولم يقتلهم، فأفعاله - صلى الله عليه وسلم - كلها تدلّ على أن الحديث ليس على عمومه كما يفهمه بعض الغلاة.
سادسًا: استغلال الحديث من قبل الغلاة
استغلّ هذا الحديثَ أصحاب الفكر الغالي في تمرير موضوع الذّبح والنحر خاصّة، وهو ما لم يفهمه أحد من الصحابة الكرام ومن بعدهم، ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بمكة ولا بعد الهجرة، والحديث يدلّ على القتل المباشر في حال المواجهة والحرب، والنهي عن تعذيب الأسارى وإهانتهم والتمثيل بهم وغير ذلك، فأبطل الإسلام كل ذلك وأبقى القتل، وليس المراد هنا الذبحَ الذي هو النحر بالسكين كما فهمته الفرق الغالية وطبّقته، ويدل على ذلك أنه لم يفعله أحد كما بينت، وأن الذبح يأتي في العربية بمعنى الهلاك والقتل، يقول ابن منظور: «وَالذَّبْحُ هَاهُنَا مَجَازٌ عَنِ الْهَلَاكِ فإِنه مِنْ أَسْرَعِ أَسبابِه»، وقال الزبيدي: ‏«لقد جئتكم بالذبح» أي: بالقتل، فالصحيح أن الذبح هنا هو القتل، ويؤيد هذا المعنى أن الذين توعدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذبح كأبي جهل قد قتلوا في المعركة، ولم ينحروا بالسكين كما تفعله الفرق الغالية.
سابعًا: الإسلام إنما أتى بالرحمة
لا شكّ أن الإسلام إنما أتى بالرحمة وهو أمر يقينيّ محكم مقطوع به؛ فالإسلام رحمة، وبِعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعباد، بل رحمة لأهل مكّة الذين قيلت أمامهم هذه العبارة، كما قال -تعالى-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} (آل عمران: 159). بل ثبت يقينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بالذبح لعامة الناس؛ لأن هذا لم يقع، وقد قال الله عنه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، وقد ذكر الطبري اختلاف الناس في الرحمة فقال: «ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية، أجمع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها مؤمنهم وكافرهم، أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر؟»، ثم قال: «وأولى القولين في ذلك بالصواب: القول الذي روي عن ابن عباس، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله»، فكيف مع هذا يأتي بالذبح للناس؟!
التشريعات الإسلامية في الحروب
بل التشريعات الإسلامية الخاصّة بالحروب مشتملة على رحمة واسعة، مثل: النهي عن التمثيل بالأسرى وتعذيبهم، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ، يقول عمران بن حصين: «مَا قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطِيبًا إِلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ»، وليس الغرض الإطالة في ذكر رحمة الإسلام وسماحة تشريعاته، ولكن النصوص الشرعية تفهم متعاضدَةً لا متفرّقة، ولا يمكن أن يعارض حديثٌ محكمًا من محكمات الدين.

اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات