تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

  1. Post كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات ! (1)
    :.. يُحكى أن والد أحد العلماء المتقدمين، قال لابنه: يا بُني أود أن أعتلي على كرسي التعليم والمشيخة، يُحيط بي طلاب العلم كما يحيطون بك في حلقتك يسألونك ويكتبون أقوالك، غير أن حالي في العلم كما تعرفه، لم أدرس كما درست، ولم أجالس العلماء، وليست لدي إجازات، فأشفق الابن على أبيه، وأراد أن يُحقق له أمنيته، فطلب منه أن يجلس على كرسيه في المسجد، ويقرأ عليه أحد الطلاب من كتاب، وقال له: إن سئلت عن شيء فقل : هذه المسألة فيها خلاف!:.. وفي يوم تفطن أحد الطلبة النابهين لأجوبته المتهافتة المتكررة، فسأله بدهاء : أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟! فأجاب المتمشيخ : فيها قولان !.. فضج الناس ، وكُشف أمر المتعالم .:.. تذكرت هذه القصة، عندما عكفت على تحليل (خطاب فكري) بدأ يسود في المشهد الثقافي المحلي، فوجدت: أي شاب حديث السن لديه بعض القراءات الخفيفة (كالوجبات السريعة) يستطيع أن يكون مفكراً متمرداً يلفت الأنظار إليه بسرعة ويوصف من بعض المطبلين بالذكاء والعبقرية والإبداع، وعثرت أثناء ذلك على مثلث التمرد الفكري ، فأحببت أن أشارككم في كشف زيف المتعالمين الذين ارتفع صخبهم في وسائل التواصل الاجتماعي والمقاهي الفكرية وغيرها ، فما هي أضلاع المثلث ؟:الضلع الأول : (كن معارضاً)الضلع الثاني : (كن غامضاً)الضلع الثالث : (كن نسبياً):.. ولنبدأ الآن في القاعدة الأولى التي يتعلم منها المفكر "اللامع" -زعموا- أصول جذب الأنظار إلى تغريداته أو شذراته ومداخلاته الفكرية .:القاعدة الأولى : ( كن معارضاً ) غرائبياً أو "خالف تُعرف":.. المسألة يسيرة جداً بل وقديمة، لكي تنجح في جذب الأنظار عليك أن تخالف السائد والمعروف، خالف كل الأشياء المألوفة ، عليك بنقد المقدسات والتشكيك في صحتها، تهكم على المسلمات الاجتماعية، حطم كل شيء يستحسنه عموم الناس وارفضه بقوة وعارضه بشدة، فإذا عظم الناس مثلاً التفاؤل والنظرة الإيجابية ومدحوهما؛ فعليك أن تهاجمهما بضراوة ، تحدث بامتعاض عن المتفائلين وتفاهاتهم، وصفهم ببلادة الفهم إزاء الإحساس بآلام العالم، وتعجب من موت ضمائرهم التي تشاهد كل هذه المآسي في العالم من فقر ومرض وموت ونهب وظلم ومع ذلك يتحدثون ببلاهة عن التفاؤل، ثم اسخر من فكرة الإيجابية كما تشاء، فالمجد للساخرين والمستهزئين بكل من لا يشبه فرادتهم وإبداعهم !:كن نيتشوياً ومزق القيم تمزيقاً !:.. ومن هنا وجدنا بعضهم يُوصي غيره ممن يستنصحه: لن تكون مفكراً لامعاً إلا إذا تأثرت بشخصية نيتشه الذي كان يتفلسف ويفكر بمطرقة حطم بها كل شيء رآه الناس جميلاً ومهماً ، كما قال في كتابه " هذا الإنسان " ترجمة مجاهد عبدالمنعم مجاهد (ص 174): (إن من يكون مبدعاً في الخير والشر، يجب أن يكون في البدء مدمراً، ويمزق القيم تمزيقاً ) .:.. ووصف نفسه بأنه يتفلسف بمطرقة، فأفكاره بمثابة "الشاكوش" الذي يهشم به كل شيء تعارف الناس على حُسنه وخيريته وأنه حق، وهكذا يُقال للشاب الحدث: لن تكون مفكراً لا معاً حتى تهدم وتدمر كنيتشه وتخالف الناس، فتكره التفاؤل وتهاجم المقدس وتمدح التناقض وتتعشق السير في المناطق المحرمة وتتغزل في القمم الكئيبة المنعزلة .. الخ:المحرمات هي الحقيقة !:.. ومن نماذج هذه المعاكسة والمخالفة، ما قاله نيتشه في (ص 15) في أن كل المحرمات هي الحقيقة التي حُجبت عنك، فإن كنت تبحث عن الحقيقة؛ فعليك أن تقتحم تلك الغابات الممنوعة : ( إن ما هو محرم تحريماً شديداً هو دائماً الحقيقة ) .:.. وفي (ص 177) يحذر من قيم الخير ويهجوها كما يهجو الناس الشر، فيقول : ( من خلال الخير يصبح كل شيء زائفاً ومعطوباً من الجذور) ويمضي نيتشه في كثير من مقولاته يهاجم فكرة الخير التي يحترمها البشر جميعاً ! ويمتد هجومه حتى إلى الإنسان المتفائل الذي يحتقره ويصفه بالمتفسخ ويؤكد أن ضرره أكثر من المتشائم .:كن حاقداً واغضب كــ " الديناميت " !:.. وفي (ص 173) يقول : ( إنني لست رجلاً ، إنني ديناميت ) وهذا تكريس منه لفكرة الهدم والتقويض ، والتفلسف بمطرقته المسرفة في التكسير، بل أكثر من ذلك هو يتكلم عن فلسفة تُفج وتنسف، كأشد مواد المتفجرات " الديناميت"... وفي (ص 173 ) أيضاً يطري عمل المهرج ويجعله أفضل من عمل رجل الدين الأخلاقي : ( أعتقد أنني ممتلئ بالحقد ... أنا لا أريد أن أكون قديساً ، إنني بالأحرى أحب أن أكون مهرجاً ، بل ربما أنا مهرج) ... وفي (ص43) يقول : ( إن وخز الضمير يبدو لي نوعاً من القيم الشريرة ) فما اصطلح الناس على تسميته بتأنيب الضمير، يراه نيتشه من القيم الفاسدة والضارة التي يجب التخلص منها لسعادة العالم وانتصاره .:هل عبقريتك في أنفك كـ "نيتشه" ؟!:.. وفي (ص 173-174) يقول : ( إن عبقريتي تكمن في أنفي !! ) وهذا إمعاناً منه في الطرح الغرائبي المعاكس للمألوف ، وماذا سيجد العالم في أنف نيتشه من عبقرية يا تُرى ؟.. ثم يمدح التناقض فيقول : ( إني أتناقض بمثل ما لم يتناقض أحد من قبلي ).. ولعل هذه المخالفة لكل شيء سائد أو المعاكسة دائماً من أجل المعارضة ، هي أحد أسرار الإعجاب الشديد بنيتشه الذي نجده متفشياً في أوساط بعض الشباب لكونه مُلهماً لهم في تعبيد هذا الطريق القصير نحو الشهرة السريعة بأدنى جهد وأيسر مجهود ، وهو إعجاب غير مبرر علمياً وعقلياً لعدة اعتبارات مهمة ربما أعود لها لاحقاً .:تمجيد العفن عند الفيلسوف "العوّاء" !:.. وعلى شاكلة نيتشه في مهاجمة السائد والمتعارف عليه رغبة في الظهور بمظهر المفكر المتمرد المستقل ، وجدنا فئاماً من الشباب والشابات مؤخراً انتشر بينهم الإعجاب الشديد بكتابات الكاتب الروماني الأصل ، الفرنسي الثقافة " سيوران " التي تضج بتمجيد العفن ككتابه " موجز العفن " ، ومدح الحزن وإطراء الكآبة والوحدة والتشاؤم ككتابه " على ذرى اليأس " .:لو لم يُولد البشر لكانت هذه أمثل صيغة للوجود !:.. يمارس " سيوران " نوعاً من الإغراق المقزز في التشكي من وطأة الوجود وعبء الحياة وفقدان المعنى ، حيث يرى " ألا نولد هي أمثل صيغة وجود على الإطلاق " ، وأن الوجود الإنساني ما هو سوى ترقيع لما لا يمكن ترقيعه ... ويقول بكل بجاحة وقسوة : " رؤيتي للمستقبل واضحة إلى حد أنه لو كان لي أبناء لخنقتهم على الفور " ، وتتمحور فلسفته حول هذا المعنى . حتى وصف نفسه بأنه " فيلسوف عَوّاء " أي أنه يعوي بكثرة كما تفعل الذئاب !:تجميل الانتحار وتحسين الاعتقاد بعبثية الوجود !:.وفي كتاب " المعنى والغضب : مدخل إلى فلسفة سيوران " لحميد زناز (ص 72 ) تطالعنا عبارة سيوران :( ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم إلى هذا العالم ) .ويقول (ص16) : ( لا شيء يثبت أننا أكثر من لا شيء ) .وفي (ص 80) يمجد الانتحار ويُجمله جداً ، قائلاً : ( فكرة الإنتحار هي الفكرة الوحيدة التي تجعلنا نتحمل الحياة ) .وفي (ص 73) يعلن سخطه من ضيوفه وزائريه مناقضاً فضيلة كرم الضيافة أو فضيلة التهذيب ، فيقول في ذلك : ( سأكتب على مدخل منزلي : " كل زيارة هي اعتداء " أو " ارحموني ، لا تدخلوا " أو ملعون من يدق الباب " ) .وفي (ص 76) يتحسر على فكرة العدم لأنها لم تُفهم ولم تُقدس كما يجب قائلاً : ( واأسفاه على العدم ) .وفي (ص 76) يذم مفهوم الوطنية قائلاً : ( إنسان يحترم نفسه لا يمكن أن يكون له وطن ، الوطن صمغ قوي ) .وفي (ص 77) يمجد التناقض بين القول والفعل : ( أمضي وقتي في الدعوة للانتحار عن طريق الكتابة ، والدعوة لتجنبه عن طريق القول ) .:.. ثم هو يدعو إلى أن يكون الوعي مطروداً في المنافي ، وإلا لم يكن بوعي حقيقي : ( عدم الوعي وطنٌ .. الوعيُ منفى ) ، إلى غير ذلك من الأفكار العدمية والتشاؤمية التي تخالف الضرورات الإنسانية والمألوفات التي تسالم عليها البشر طوال مسيرة حياتهم لفائدتها ونفعها وكونها ضرورية لاستمرار الوجود الإنساني .:مستهلكوا الأفكار المستوردة !:.. إن "مستهلكي الأفكار المستوردة" من الباحثين عن شهرة سريعة أو من المستلذين بخداع أنفسهم بأنهم مبدعون مختلفون عن الآخرين ، لا يستطيع أحدهم أن يأتي بفكرة إلا أن تكون من الأفكار المغتصبة المسروقة بوقاحة من سيوران أونيتشه أو عبدالله القصيمي وأشباههم ، فأين الإبداع والعقل المتوهج بالموهبة المختلفة .:.. إن أي " درباوي " أو " عربجي " يمتلك النظرة ذاتها ، فهو يرى أنه يعيش مهمشاً لغرابته واختلافه وفي واقع الأمر يحمل " فلسفة وجودية " لكنها من نوع آخر والفارق بين الفئتين فارق طبقي اقتصادي ليس إلا ، وهنا أدعو أن تعقدوا مقارنة بين " مستهلكي الأفكار المستوردة و" الدرباوية " وابحثوا عن نقاط التشابه بينهما من حيث الرغبة في إثبات الذات وشد الانتباه عبر التمرد ؟!:.. إن الإبداع والشخصية المختلفة تكون محل ثناء واحترام إذا كانت حقيقية منتجة، وتكون كذلك متى زادت في معرفتنا ، أو أضافت إلى الوجود إضافة بناءة مفيدة تساهم في نشر العلم الحقيقي و محاصرة الجهل أو تسعى إلى تعزيز قدرات الإنسان ومنفعته وقوته و تسلحه بأسلحة جديدة تمكنه من محاربة الظلم والمرض والفقر أو تسكب في أرواحنا وأذاوقنا ما يزيد في الإشباع الجمالي والتناغم مع الكون والكائنات ، وما عدا ذلك فهو إبداع مزيف ، واختلاف مثير للشفقة !:.. إن أولئك لا يقدرون على " إنتاج أفكارهم المبتكرة " ، لقد اختاروا أن يكونوا منسلخين تتمشى بكتيريا الكراهية لذواتهم في عروقهم ، وتسري في دمائهم الرغبة في التنازل عن هويتهم ، بل ربما بلغ الأمر ببعضهم أن يصرح باستعداده لأن يعرض خدماته لخيانة عروبته وإسلامه لأول مشتر أجنبي .:.. ولذا رأينا وسمعنا تفاقم الهجوم على اليقين والسكينة والاستقرار ، ومدح أضدادها من الشك والقلق والحيرة تماشياً مع رغبات البعض أن يكون مفكراً متمرداً في سويعات قليلة ، ومن جراء هذه الآفة رأينا تنامي موجة التشكيك في المقدسات ، مع أن أركان الإيمان والإسلام لم تقف يوماً في وجه تقدم حقيقي أو قوة جديدة نافعة لبني الإنسان ، حتى يسوغ القدح فيها بكل هذه الضراوة والرفض .:.. ومن مظاهر التطبيق لقاعدة : ( كن معارضاً ) أي كن غريباً مختلفاً عن السائد ؛ الولع بطرح الأسئلة التي تثير الدهشة لأول وهلة، مع أنها لا تليق بطارحيها لبعدها عن تخصصاتهم ، وما ذلك إلا محاولة من بعضهم للظهور بالعمق الفكري والعبقرية الفريدة، ولكي يقال عنه : إنه واسع التفكير في الأشياء والوجود ، ومما يؤكد أنها أسئلة لا تليق بهم ؛ أنهم لا يبذلون أي جهد علمي حقيقي أو بحثي للعثور على الإجابات، وذلك من قبيل ::- لماذا الشمس دائرية وليست مثلثة أو حلزونية ؟- لماذا القمر ليس له أسنان ؟- هل الهواء له ذاكرة ؟- هل ترانا القطة كما نرى أنفسنا ، أو ربما كانت تشاهد الإنسان في صورة دجاجة ؟- هل تشعر الألوان بوجودها أو ربما ظن اللون الأحمر أنه كالماء بلا لون ؟:.. وهذه أسئلة سهلة جداً لحد التفاهة ، تعتمد على الصور المجازية والتلاعب بالكلمات، ويستطيع أي محترف لغوي أن يطلق العشرات على شاكلتها من مدفع أسئلته وبسرعة فائقة .:.. وللحديث بقية فلم ننته إلا من الثلث الأول فقط، وانتظروا مفاجأة القاعدة الثانية : ( كن غامضاً )، سنكشف زيف هؤلاء – إن شاء الله - وننزع عنهم ألاعيب الدهشة التي بهروا بها البسطاء ، وهم بلا شك يُدهشون الكثيرين في البدايات ، ولكن ما إن تسلط أضواء الصدق عليهم تتلاشى " فلاشاتهم " أمام نور الحقيقة !:
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  2. افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    يتبعُ إن شاء الله.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  3. افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    المقال للدكتور : خالد بن منصور الدريس . لقد فاتني ذكره في العنوان.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    24

    افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    مقال جميل,في انتظار التتمة
    بارك الله فيك وفي كاتب المقال وجزاكما عنا خيرا
    عمر بن حسن بن محمد النقيري

  5. افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    كيف تصبح مفكراً متمرداً في تسع ساعات ؟ ( 2)" كن غامضاً "::يُروى أن لغوياً متنطعاً سأل خادمه سؤالاً غامضاً ، فقال : يا فلان " أصَقَعتِ العتاريف ؟ " .فلم يفهم الخادم شيئاً من هذا السؤال العجيب ، فأراد أن يعامله بالمثل فقال له : " زقـفـيلم " .فقال اللغوي : وما "زقفيلم" ؟قال الخادم : وما معنى صقعت العتاريف ؟قال قلت لك : أصاحت الديوك ؟قال الخادم : وأنا قلت لك لم يصح منها شيء .هذه الطرفة تكشف عن حقيقة أن خلل ( التعالي باللغة ) يعتري تكوين بعض الشخصيات المهزوزة في ثقتها بنفسها ، وهذا الاضطراب النفسي كان قديم الوجود في البيئة الثقافية والفكرية كما توحي الطرفة الآنفة .:تحدث عن أوضح نقطة بأعقد لفظة !وهذا هو الضلع الثاني في (مثلث التمرد الفكري):كن غامضاً وتحدث عن أوضح النقاط بأعقد الألفاظ ، كما هو حال الكثير من المتسلقين الجدد على أسوار الفكر ، الذين يرون أنه لا يمكن تحقيق أي مكانة في عالم الثقافة بلا استعمال لغة معقدة كما استعملها بعض الفلاسفة ، وهذا ما جلب الكثير من السخرية لحال هؤلاء " البراعم الجدد " المشترطين لتميزهم الفكري أن ينعكس في تعبيراتهم الغامضة وأساليبهم الوعرة ؛ أسوة بقدواتهم من المتفلسفة .:التأسي بغموض الفلاسفة المحترفين !يتعمد بعض المفكرين والفلاسفة استعمال العبارات " غير المفهومة " أو المصطلحات المتخصصة سعياً منهم لإيصال رسالة إلى القارئ بأن طرحهم من العمق والتعقيد ما يجعل فهم كتاباتهم من ضروب المستحيل إلا على المحترفين المتخصصين ، وقد كشف " نيغيل واربورتون " في كتابه " الفلسفة – الأسس " هذه الحقيقة بعد أن أكد أن الفلاسفة يستعملون في كتاباتهم الكثير من المصطلحات " غير الضرورية " وبلا أي هدف علمي ، ويقول في ذلك ( ص 21) : ( يميل الفلاسفة المحترفون إلى استعمال المصطلحات المتخصصة من دون أي هدف ، فيستعمل عدد منهم العبارات اللاتينية ، حتى لو كان هناك ما يكافئها من العبارات الانكليزية القادرة على إيصال المعنى ).وهذا تماماً ما تقوم به " البراعم المتمردة " ، يستعملون " العبارات اللاتينية " ليضيفوا هالة من الغرابة والغموض المعقد على كتاباتهم وأحاديثهم .:قاموس " الغموض " السريع للبراعم الجدد !ولهذا تُوجه الوصية إلى (البُرعم " المُدرعِم ") في عالم الفكر حديثاً ، بهذه الطريقة : إن شئت أن تسير على خطى أولئك القدوات من أساتذة الفلاسفة ، فعليك بنهجهم ، وإليك نصيحة تضفي عليك سمات المفكر المتمرد في سويعات :لا تقل : تربوي ، قل : بيداغوجي .ولا تقل : غيبي ، قل : ميتافيزيقا .ولا تقل : المتعاليات ، قل : الترانستدالي .ولا تقل : تفكير مغلق ، ولكن قل : دوجماطيقي (دوغمائي) .ولا تقل : الفهم ، قل : الهرمينوطيقا .ولا تقل : الجمال ، قل : الاستطيقا .ولا تقل : اجتماعي ، قل : سيسولوجي .ثم لا بأس من (حزمة عبارات) لإكمال مظهريتك الفريدة من قبيل: اللوغوس ، الكاوس ، الإمبريقي ، فينومولوجيا ، ميثادلوجيا ، الكولينالية ، الإمبريالية ، الكوسمولجيا ، وأركولوجيا ، والماضوية ، والإنسانوية ، والإرثوذكسية الكهنوتية .. الخوكن كما يقول إخواننا المصريون : ( فتح عينك .. تأكل ملبن ) .. ( وطلب الرزق .. يحب الخفية ) يا خفيف .. فليس هناك أسرع من هذا المسلك لتكون مفكراً متمرداً مختلفاً يُدهش السذج بسرعة البرق !:تكلم بلغة " المشعوذين " !وقد ذكر " كولن ولسون " في كتابه " ما بعد اللا منتمي " ( ص 68 ) هذا النص الطريف ، مما يؤكد شيوع هذا البلاء اللغوي :( كتب " براند بلا نشهارد " قطعة رائعة هاجم فيها الأسلوب " الهيجلي " في التعبير : أن تقول بأن " الميجر أندريه " قد " شُنق" فهذا واضح وغير قابل للمناقشة [ والميجر رتبة عسكرية تساوي العقيد أو المقدم في البلاد العربية ]أما أن تقول : بأنه " قُتل " فهذا أقل وضوحاً ويُسبب جدلاً لأنك لا تدري بأية طريقة قُتل ؟وأن تقول : بأنه " مات " فهذا غير واضح وضبابي ؛ لأنك لا تعرف هل كان موته بطريقة وحشية عنيفة ، أم في حالة طبيعية ؟وإذا أردنا أن نأخذه كأنموذج ، ونسأل الكُتاب أن يكتبوا جملة عنه ، فسنرى " سويفت " و " ماكولي " و " شو " يكتبون بكل بساطة بأنه قد " شُنق " ، و" بردالي " سيكتب : بأنه قد " قُتل " ، و" بوسنا كيت " سيكتب بأنه قد " مات " .أما " إيمانويل كانت " فسيكتب : بأن وجوده اللا خالد قد جذب نهايته !أما " هيجل " فسيكتب هذه الكلمات : صَمّمت الأبديةُ المطلقةُ على أن تَحد من استمرار مستقبله ؛ فسلبته وجوده ! ) .وبهذا يخيل للقارئ أن المعنى الذي يريده " هيجل " أو " كانت " في غاية العمق والتعقيد ، بينما واقع الحال أن الموضوع برمته يمكن إيجازه في عبارة : الرجل " شُنق " !فيا للسخرية كم كانوا بارعين ولكن في تصعيب العبارات الواضحة ، وكم كانوا حاذقين ولكن في تعقيد الأساليب الناصعة الجلية .ولهذا كان " شوبنهاور " يقول عن " هيجل " بسبب ذلك الأسلوب المعقد الغامض : إنه ( دجال مشعوذ ) إشارة إلى أن المشعوذين عادة يستعملون عبارات " عالم السحر " غير المفهومة ، وكذا الفيلسوف " كارل بوبر" شن هجوماً لاذعاً على "هيجل " وأضرابه من أصحاب التعقيد والغموض.:سنتان ولم يفهم الأستاذ شيئاً !ومصداق هذا التعقيد في العبارات الفلسفية عند هيجل على سبيل المثال ما وقع بالفعل لأستاذ الفلسفة في الجامعات العربية الدكتور إمام عبدالفتاح إمام المتخصص في فلسفة " هيجل " وأهم مفكر عربي ترجمها وقدمها للقراء العرب فقد قال في كتابه : " تجربتي مع هيجل " (ص 24) وهو يتحدث عن رسالته في الماجستير : ( وشرعتُ في قراءة نصوص " هيجل " لمدة عامين دون أن أفهم شيئاً ، ولجأت إلى التفسيرات والشروح ، ولكني لم أتقدم خطوة واحدة ) ثم وضح سبب الصعوبة تلك فقال : ( ولم أتبين وقتها أن " هيجل " كأي فيلسوف عظيم له مصطلحاته الخاصة ، وأنه قد نحت لنفسه مصطلحات جديدة من ناحية ، وحوّر في معاني المصطلحات القديمة لتناسب أغراضه الفلسفية من ناحية أخرى ) ، ويأتي د. إمام في ( ص 49 ) ليستعرض مثالاً على الأسلوب الغامض في استعمال المصطلح الهيجلي الواحد فيقول : ( تسعة مصطلحات يمكن أن نذكرها تحت فكرة الوجود ، وهي تترجم على النحو التالي : الوجود – الوجود الآخر – الوجود في ذاته – الوجود للذات – الوجود المتعين – الوجود المتعين بما هو كذلك – الوجود المتعين بصفة عامة – الوجود الفعلي – الوجود بالفعل .. )قد نتفهم أسباب غموض التعبير عند فيلسوف كـ " هيجل " لكن كيف سنتفهم الأمر عند " البراعم " الذي لم يكمل الكثير منهم قراءة فصل من كتاب لهيجل ، أليس الأقرب للاحتمال أن استعمال الأسلوب الغامض بما فيه من مصطلحات غير متداولة يمنحهم شعوراً بالتعالم وإدهاش غيرهم ، ثم أليس التوجه لهذا الأسلوب يساعد على إمدادهم برغبة الظهور على أنهم من المختلفين عن أقرانهم فكراً وثقافة .:برجوازية الانتجلنسيا !والأدهى أن ذلك التعقيد اللفظي يعزز لديهم مشاعر التقزز من مجتمعهم ، بل الامتلاء " بالقرف " من عموم الناس كما يظهر في فلتات ألسنتهم وشذرات من كتاباتهم ، يريدون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم الأفضل ، فهم ليسوا " من الجمهور " ، إنهم " نخبة " متعالية مثقلة بالغرور والترفع .ولو شئنا أن نستعير لغتهم المتعالية بكلمات ساخرة لنصف حالهم ، لقلنا : إنهم شريحة " برجوازية من طبقة الانتجلنسيا =( المثقفين ) يتسمون بالذوات المتضخمة " تجاه الهموم الشعبية "البروليتارية " = الطبقة الكادحة .:هل أنت من القطيع ؟!والعجيب أنهم يرفعون عقيرتهم مطالبين بالديمقراطية والمشاركة الشعبية والمساواة بين البشر ، وضرورة احترام الإنسان مهما كان أصله أو فكره ، ومع ذلك يصفون تفكير مخالفيهم بـأنه من مخرجات ( عقلية القطيع ) ، فهل الناس في نظرهم قطعان ماشية ؟! أين كرامة الإنسان عندهم ؟:عنصرية تسكن في الأعماق !إنهم يتصرفون بمثل هذه السلوكيات النخبوية المترفعة ، وكأنهم من طبقة اجتماعية عُليا ذات دماء زرقاء مختلفة عن دماء عموم الناس ، ولهذا بدأنا نطالع قول بعضهم : أي شيء تقبله أغلبية المجتمع يجب أن تتشكك في جدواه ، وهذا حكم جائر ينضح بفوقية مغرورة تدل على النقص المركب في شخصية قائله ، فالمفترض أن الحكم الموضوعي المتوازن تضبطه مقاييس دقيقة مبنية علىمبادئ سليمة لمحاكمة الأفكار وتحديد ما يقبل منها وما يرفض ، وليس على مقياس سطحي كمقياس خالف الأكثرية !:هذه المقولة تتسم " بالمراهقة الفكرية " ؛ لأنها تقبل السهل المريح فكرياً من خلال تحديد موقفها من الأشياء بسذاجة هذا التصنيف التعيس ؛ إنه مقياس سطحي للغاية يحجب عن المغتر به كثيراً من الحقائق بسبب هذا التكبر المنفوخ .إن هذه التصرفات لدى هؤلاء " البراعم " لشاهد واضح على أن " عنصرية " مقيتة تسكن في أعماقهم !:ولذا أقول : حتى المعرفة توجد فيها تلك " العنصرية الطبقية " المنفرة ، التي تؤدي بمن ساكنته أن يحتقر غيره ويسخر منه بتعبيرات من قبيل ما يطلقونه على مخالفيهم كعبارات : هم فائض بشري ، أو عالة على الكون ، أو يجب تطهير الوجود منهم ، يا لحقارة فكر " إنسان الجموع " ... الخ:في الحلقة القادمة وهي الأخيرة إن شاء الله سنكشف ما تبقى من زيف " البراعم الجدد " خاصة في المضلع الثالث من مثلث التمرد الفكري ، وهو : كن نسبياً ، فماهي نسبيتهم ، وماذا تقدم لهم ؟
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2012
    المشاركات
    24

    افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    كيف تصبح مفكراً متمرداً في تسع ساعات ؟!(3)
    "كُن نسبياً"
    :
    :
    .. سأفتتح مقالتي هذه بطرفة مصرية رواها الدكتور عبدالوهاب المسيري -رحمه الله-، وهي معبرة جداً عن مضمون كلامي الآتي حول مفهوم (النسبية المطلقة)، يُروى أن قاضياً ضجر من متهم يؤتى به دائماً إلى المحكمة لأجل تعاطي الحشيس، وأراد أن يوقظ ضميره وينصحه ، فقال القاضي : " لماذا تتعاطى الحشيش دائماً ؟ " فقال المتهم : حتى أنسى يا حضرة القاضي ! فسأله : تنسى ماذا ؟ فقال الحشاش : " والله مش فاكر" . : .. ما سنتحدث عنه في هذه المقالة يُشبه هذه المقولة ، وستجد أن مثل هذا المنطق غير المتسق ، أصبح مطلوباً ، بل وعلامة مميزة للمفكر المتمرد ، فهل يعقل أن يكون منطق الحشاشين محل إعجاب المفكرين ؟! : معنى أن تكون " نسبياً " : : .. وهذا هو الضلع الثالث من أضلاع مثلث التمرد الفكري : (كن نسبياً)، أي كل شيء في هذا العالم بل وفي الحياة المعاشة لا يمكن معرفة هل هو صواب أو لا ؟ .. عليك ألا تعتنق أي يقين ولا تطمئن إلى أي مُسلمة، وكن كمثقفي ( ما بعد الحداثة )، الذين حطموا كل اليقينيات والمسلمات، ووقفوا ضد أي أساس، فالعالم بلا أصل ولا مركز ولا معيار يُحتكم إليه ، عليك أن تنزع القداسة عن كل شيء وأي شيء في العالم ، كما يقتضي مبدأ النسبية المطلقة ! : النسبية أن تكون مواقفك زئبقية : : .. ولتوضيح مراد هذه الطائفة من (البراعم الجدد) من المفكرين المتمردين، سنضطر للعودة إلى فيلسوفهم الأثير "إميل سيوران" فهم يقلدونه بصورة مقززة، بل يحاكون أفكاره ويتمثلونها محاولة منهم للظهور بهيئة المفكرين القلقين لوجودهم وفي وجودهم ، فماذا يقول هذا الزئبقي كما ورد في شذراته التي نقلها : أ.حميد زناز في كتابه "مدخل إلى فسلفة سيوران" : : - يرى "سيوران" أن أي يقين هو دجل وكذب، وكل الصدق والنزاهة في أن تكون محتاراً متردداً، يقول في ذلك : ( تردُدُنا علامة على نزاهتنا ، أما يقيننا فلا يدل إلا على دجلنا !) . : - ويقول في سياق المعنى السابق : ( الآراء نعم ، أما القناعات فلا ، وتلك ركيزة كل عزة فكرية) . : - و يُحقر الاقتناع والترجيح ويُثني على التذبذب واللا أدرية ، فيقول : ( وحده يملك قناعات ، من لم يتعمق في شيء !) إذن أنت عميق في حالة واحدة أن تكون لا أدرياً شاكاً غير واثق من شيء . : - وأي إنسان يدافع عن أفكاره يصفه بالغشاش ، فيقول : ( يُعرف المفكر الغشاش من حصيلة الأفكار الدقيقة التي يُدافع عنها ) : ما المطلوب يا "سيوران" إذن ؟ يجيب صاحب كتاب "موجز العفن" : كُن نسبياً ولا تؤمن بشيء ولا تدافع عن شيء وكن أنت لا شيء ، أليست أفضل صيغة للوجود عنده هي ألا نكون موجودين ؟! هذا هو رأيه بلا تحريف . : - ويُحذر أن يكون لك أي موقف فكري أو تتبع أي مذهب أو منهج ، فيقول : ( المذهب أخطر أنواع الاستبداد في الفلسفة وفي كل شيء ) وهذا تقديس صريح للفوضى الفكرية ، وعداء جلي للعقلانية المنظمة الواعية . : - ويذم الفهم ويُطري الحيرة واللا استقرار ، فيقول : ( نبدو على هيئة مجرمين في اللحظة التي نعتقد فيها أننا فهمنا كل شيء ) : - وفي السياق ذاته يُمجد " اللا معنى " يقول : ( مأساة الكاتب الحقيقية حين يتم فهمه ) إذن المطلوب هو ألا يكون لك أي رأي محدد في أي شيء لئلا يفهمك أحد ! : - ويذكر حميد زناز (ص 66 ) أن " سيوران " ردد في العديد من المناسبات أنه عمل كل ما في وسعه لخلط الأوراق ، وزرع سوء الفهم بين دارسيه !! : .. هذا معنى أن تكون "نسبياً " أي تظاهر بأنك لا تفهم شيئاً ، ولا أحد يفهم أي شيء ، فالعالم بجملته لا معنى له ، ولهذا فالنتيجة : تقديس " البلاهة " وتمجيد الجهل واللا معنى ، وكل مواقفك زئبقية بامتياز ، تقبل الساعة ما ترفضه بعد ربع ساعة ، ولا حرج عليك . : نكتة : أستاذ الجامعة يشرح ما لا يفهمه : : .. إن واقع الحال السابقة يمكن تصويرها بهذه الطرفة عن ذلك الأستاذ الجامعي الذي كان يحاضر طلابه في إحدى البلاد العربية عن فلسفة " هيجل " فسأله طالب : ما معنى مقولة " تجسد العقل في التاريخ " ، وبعد محاولات متكررة لشرح الفكرة ، أصر الطالب على أنه لم يفهم شيئاً ، فقال الأستاذ غاضباً : ( أتريد يا بني أن أشرح لك أمراً أنا شخصياً لا أفقه منه شيئاً ! ) : أدر ظهرك للعالم وكن كئيباً : : .. ولننتقل إلى شخصية أخرى تناصر (اللا فهم واللا يقين واللا قيم ) هو "نيكولا غوميز دافيلا" في كتابه "بؤس الديمقراطية" الذي يصرح فيه : ( من لم يُدر ظهره للعالم الحالي يفقد كل شرفه ) فالمطلوب ألا تهتم بأي شيء ، أدر ظهرك ولا تبالي بكل شيء أو أي شيء ، وكن أنت لا شيء . : وشخصية أخرى "جيرار دو نيرفال" يمدح أن يكون الإنسان كئيباً ويقدم تبريراً لهذه التفاهة : (الكآبة ذلك المرض الذي يجعل المرء ينظر إلى الأشياء كما هي) . ولك أن تتخيل الإنجازات الكثيرة في هذه الحضارة المادية المعاصرة هل يمكن للكآبة أن تكون هي السبب في إنجازها ؟ : .. هل يملك الكئيب أن يصنع شيئاً مهماً كـ "الهاتف الذكي" أو "الآي باد" أو "اليوتيوب" رغم كل الصعوبات والإحباطات التي عادة ما تحيط بالمخترعين في كل خطوة ؟ .. وفكر معي هل التفاؤل بالمستقبل والأمل مفيد لأي مكتشف أو مهندس لينجح في غايته أم أن الكآبة بكل تشاؤمها وقلقها وكسلها وفراغها هي التي تجعله يرى الأشياء كما هي ؟ .. ألا سحقاً لهذا الهراء والعفن ؟! : إياك أن تدافع عن المبادئ : : وقد عبر عن مضمون فكرة ( كن نسبياً) الفيلسوف "برتراند راسل" كما ورد في سلسلة حواراته التلفازية التي أجراها "وودرو ويات" ، المنشورة تحت عنوان "الفلسفة وقضايا الحياة" (ص 20) حيث قال: (علينا ألا نكون واثقين من أي شيء ، إن كنتَ واثقاً فأنت مخطئ بالتأكيد ؛ لأن لا شيء يستحق الوثوق) . يا لهذا المقياس الفكري العجيب الذي لا يسأل عن دليل القول ولا عن جذوره ونتائجه ، وإنما يُعمم بأن " كل واثق فهو مخطئ بالتأكيد " ، إن مثل هذا الكلام جناية حقيقية على أفكار شاب مبتدئ ، ولكم أن تتصوروا نتائج الإيمان بالشك إلى هذا الحد ، هل تظنون أنه سيخرج لنا أناساً يتمتعون بالثقة والعزيمة والقوة ، أما سنبتلى بشخصيات من المهزوزين المترددين الحيارى ممن لا يملكون قوة الاعتقاد وبالتالي لن يكونوا قادرين على قوة البناء والفعل والتأثير الحقيقي في العالم . : الواقع المعاصر يُفنِّد مقولة " راسل " : : إن أقوى دليل على بطلان مبدأ " راسل " هذا المثال الواقعي فقد حث بشدة داعياً وطنه بريطانيا كما يذكر د. توماس سويل في كتابه ( المثقفون والمجتمع ) (ص 39) : (إلى نزع السلاح بشكل أحادي الجانب في الثلاثينيات من القرن الماضي بينما كان " هتلر" يعيد تسليح ألمانيا ، وامتدت دعوة "راسل" لنزع السلاح حتى شملت الجيش والبحرية وسلاح الجو ، ومرة أخرى بينما كان " هتلر" يعيد تسليح نفسه على مقربة من بريطانيا) . : تخيل معي صديقي القارئ نتائج مثالية "راسل" الحالمة ولا أدريته المستمرة البائسة ، لو أن بريطانيا أخذت بمشورته وفككت جيشها وأساطيلها وقواتها الجوية ماذا كان سيحدث لها في الحرب العالمية الثانية أمام جيوش " هتلر" الجرارة ؟ : ووازن ذلك بوثوقية رئيس وزراء بريطانيا وقتها " ونستون تشرشل " الذي كان لا يثق بالنازيين الألمان ، وخطب في مجلس العموم البريطاني قائلاً – كما ورد في كتاب "100 خطاب دمغت القرن العشرين " من تأليف هيرفيه بروكيه وآخرين (1/334-335) -: ( ليس لدي شيء آخر سوى الدم والألم والدموع والعرق ، أمامنا محنة من أقسى المحن .. تسألونني : ما سياستنا ؟ أقول لكم : هي أن نحارب جواً وبراً وبحراً ، بكل قدرتنا ، وبكل القوة التي يعطيها الله لنا ... تسألونني : ما هدفنا ؟ أجيبكم بكلمة واحدة : الانتصار ! الانتصار مهما كلف الثمن .. سآخذ على عاتقي هذه المهمة بكل حماس وأمل ) : وفي خطاب آخر يقول : ( لن نحذف أي شيء من مطالبنا المحقة ، لن نتنازل عن شيء ولا عن ذرة .. فلنحضر أنفسنا إذن لنقوم بواجبنا) . : أليست الحياة الواقعية مختبراً حقيقياً لإثبات فشل مبدأ " راسل " ؟! أليست " وثوقية " تشرشل ووضوح رؤيته أقوى دليل على أن اليقين مهم لأي إنجاز بشري مؤثر ؟ : عميد الفلاسفة غير متأكد من أي شيء : : وقد عبر " راسل " مرة فقال : (لستُ على استعداد أن أموت في سبيل مبدأ ؛ لأني غير متأكد من أي شيء) ، وفي عبارة أخرى : (لن أموت دفاعاً عن قناعاتي ، فقد أكون مخطئاً ) . إن أي جبان رعديد يستطيع أن يَستُر جبنه وخوفه بمثل هذا المبدأ ، ليس لأنه يؤمن به ، ولكن لأنه يخدم جبنه وهلعه، وهذا في حد ذاته محك يُسقط صلاحية المقولة للتطبيق . : كن " نسبياً " = كن " جباناً متردداً " : : إن مقولة " راسل " هذه استقالة مريحة من المسؤوليات ، تُعفي من يتبناها من أي عبء فلن يحارب ظلماً ولن يقاوم شراً ! ولك أن تتصور لو أن مجاهدي سوريا اليوم اعتنقوا مثل هذا الرأي هل سيقاومون الطغيان والاستبداد في بلادهم ؟ كيف سيدفع أي باطل أو ظلم في هذا العالم لو عممنا هذه المقولة الجبانة ؟! وقل لي بربك : متى كانت الحيرة والتردد والضياع فضيلة ؟! إن " راسل " نفسه يناقض نفسه ، فكم خالف عملياً هذه المقولة في أقواله وتصرفاته على مدى حياته . إن المقولة السابقة مقولة " الجبناء " ، أقولها بكل شموخ المسلم الواثق ولدي من " الاستعلاء الإيماني " ما يحملني على أن أقف في وجه أتباع هذا المبدأ لأرد عليهم : كفى هراء فكل قيم الحق والخير والجمال في هذه الحياة تنقض عبثكم وعشوائيتكم المطلقة . إن هذا المبدأ يتيح لأي " سافل وصولي " يدعي أنه مثقف أن يُغير مواقفه الفكرية بسهولة كما يُغير جواربه وبدون أن يؤنبه ضميره ؟! : تراجع إن كنت شُجاعاً : : هلا قال " راسل " : إذا ظهر لك خطؤك بالدليل ، فكن شجاعاً وتراجع عنه واتبع الحق ! لو قالها ؛ لقبلناها لأننا لسنا ضد التغيير عند ظهور الأدلة الصحيحة أو المستجدات الموضوعية ، فالعاقل يدور مع الدليل في إثبات الأشياء وفي نفيها ، ويراجع أحكامه ويحاسب أفكاره ، ويتطلب الحكمة من مظانها . وليس " كل يقين " هو بالضرورة تعصب وانغلاق فكر وجمود ، اليقين الحق المستنير بنور القرآن وهدي السنة يرفض التعصب ويحارب جمود الفكر وانغلاقه ؛ لأن اليقين الصحيح يعرف حدود " النسبي " فيقبله ، ويُسلم بحدود " القطعي " فيتشبث به ، ويعلم أن للاجتهاد مساحات كبيرة تدور في حسابات الاحتمالات الترجيحية لا اليقينية ، إنه يقين لا يعادي العقل الموضوعي ولا التنوير النافع المفيد . عليكم أن تخجلوا من أنفسكم حين تشوهون " قوة " اليقين والثبات بكل ملوثاتكم المعتوهة تلك . : واأسفاه على العقل : : ثم إن مقولة : (لا يمكن القطع بشيء ) تطرح ما يكشف تناقضها ، وهو أن هذا الكلام فيه إسقاط لمنفعة العقل والإشادة به . ألستم تبجلون العقل لحد التأليه ، إذن ما فائدة العقل إذا كانت وظيفته هي الشك والتردد والحيرة فقط ؟! هذا عقل عابث لا فائدة تُرجى منه ، إن أي مراوغ منافق يستطيع أن يستعمل هذا المنطق الأعوج بلا أي حرج أو خجل ، وهذا وأد لكل الفضائل التي نعلم بالمشاهدة والحس أنها إيجابية كالشجاعة والثقة والعزيمة والإصرار على مواجهة الظلم والفساد والبغي والفقر والجهل، إن مثل هذا المنطق الأعرج الأعوج لا يُنتج إلا شخصيات فاشلة هشة متواكلة متمركزة حول ذاتها ، لا تعرف معروفاً أو حقاً أو جمالاً، ولا تنكر شراً أو باطلاً أو قبحاً ، شخصيات متهشمة مستسلمة لأبعد حد ، كما وصف الله المنافقين : ( مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) النساء :143 فالمنافقون في الحقيقة يُشابهون " النسبيين " و اللا أدريين . ولهذا إذا سئل المنافق في القبر كما ورد في الحديث الصحيح عن خالقه ودينه ورسوله يقول : ( هاه هاه ، لا أدري ) فقاتل الله هذه المبادئ المنافقة ما أبشعها وأضرها وأشقاها. : الفيلسوف "كانت" يؤكد على أنه لابد للعقل من معايير : : وإن كنتم تقولون بالنسبية المطلقة خوفاً على العقل من التحجر والجمود ، سأنقل لكم رأي فيلسوف " نقد العقل " في الحضارة الغربية " إمانويل كانت " - في رسالته " ما التوجه في التفكير ؟ " (ص112) ترجمة محمود بن جماعة - حيث يؤكد على ضرورة أن يكون للعقل قوانينه وأن هذا لا ينافي حرية التفكير: ( إذا كان العقل لا يريد الخضوع للقانون الذي يسنه بنفسه ، فلا مناص من أن يرزح تحت نير القوانين التي سنها له الغير ؛ لأنه من غير قانون أياً كان ، لا شيء ... يظل زمناً طويلاً على الإطلاق . فالنتيجة الحتمية لغياب القانون في التفكير - أي التحرر من الضوابط الصادرة عن العقل - هي أن حرية التفكير تتحمل في النهاية تبعات ذلك ، وستضيع بالمعنى الحقيقي للكلمة ). فلا حرية للتفكير بلا معايير وقوانين ، وبدونها لا مستقبل لحرية التفكير إلا ضياعها في متاهات الفوضى والعبث والعشوائية . إن الحماس لفكرة " النسبية المطلقة " بالصورة التي عرضنا لها ، تعيد إلى أذهاننا مقولة الروائي الانجليزي " جورج أورويل " : ( إن بعض الأفكار هي من الحماقة بمكان ، بحيث إنه لا يمكن أن يصدقها إلا مثقف ) . وهذه حال فكرة أنه لا يوجد استقلال فكري إلا بتبني مقولة " النسبية المطلقة " ، فكرة حمقاء لا يصدقها إلا بعض المثقفين أما عموم الناس فينفرون منها بقوة . : الأندومي ومشكلة الإنفجار المعرفي : : وعطفاً على ما تقدم رأينا أمثال هؤلاء البراعم من الوالجين حديثاً لعالم الفكر المتمرد ، لا يمتلكون صبراً على استقصاء المعرفة ، ولا يتقنون مناهج البحث العلمي ، ولا يفرقون بين أنواع الأدلة والبراهين . يقول قائلهم : إن ما أقوله اليوم قد أنقضه بعد ساعة ففي عصر الإنفجار المعرفي تتجدد المعلومات في كل ثانية ، لذا أغير رأيي باستمرار . حسناً أيها الذكي بناء على تعميمك المدهش : هل الأندومي الذي تأكله يتجدد كل ثانية ؟ هل مسكنك يتجدد كل ساعة ؟ هل حقائق الفلك والرياضيات تتجدد كل يوم ؟! فترتسم ابتسامة بلهاء على محياه ، ويقول : غيرت رأيي في ثانية ! ألم أقل لكم : مواقفهم زئبقية ؟! : جئتُ إلى هذا العالم لأحتج : : وقد عرفنا أن " كهنة الفكر المتمرد "عندما ينصحون " المدرعم الجديد " يغوونه بتهويل مبدأ ( الاستقلال الفكري ) فيزينون له (نسبية الحقيقة) بذلك المبدأ الأخاذ ، وبمتابعتي لبعضهم أستطيع أن أقول ساخراً : إن ما يُنصحون به لا يخرج عما يلي : صرح بكراهة المتدينين كثيراً ولكن لا تنس : اسخر من الليبراليين أحياناً ، وأطلق بعض فكاهاتك على زعماء الملاحدة بين وقت وآخر كل أسبوع مرة قبل النوم ، واستهزئ بدعاة حقوق المرأة كل شهر مرة ، وتهكم على دعاة الإصلاح السياسي والاجتماعي كل يومين قبل المغرب . حاول قدر الإمكان أن تكون بلا ملامح بلا شخصية أو انتماء، إن الشعار الرئيس هو : (( إنما جئتُ إلى هذا العالم لأحتج )) فإن طبقت هذا الشعار فأنت مستقل بأقل تكلفة ، مهنتك أن تحتج فقط ، أرأيت كم هو من السهل أن تصبح مفكراً متمرداً ؟! إن استقلالك هذا سيحير مخالفيك جداً ، وستكسب الإعجاب السريع في " تويتر" ومواقع التواصل الاجتماعي ، وتحمي نفسك من أي إلزامات في النقاشات والحوارات . : مُفكّر ولكنه كالزائدة الدودية :
    : أهذا هو الاستقلال الفكري في مفهومكم ؟! متى كان الاستقلال الفكري يعني ألا تستطيع إكمال كتاب واحد بقراءة نقدية ؟ متى كان الاستقلال الفكري يعني ألا تفكر بعمق وتجذر وتسلسل في فكرة كفكرة التقدم مثلا لتعرف أصولها وارتباطاتها الأفقية والرأسية وتفريعاتها ؟ متى كان الاستقلال الفكري يعني أن تعيش رافضاً لمجرد الرفض فقط بلا فكر ولا نقد ولا بحث ولا استقصاء ؟ لا تضحك على نفسك ولا تخدعها : أنت يا صاحبي كالزائدة الدودية لا ننتبه إليها إلا عندما تؤذينا !! كل ما تحسنه هو الإيذاء لنفسك وأهلك ومجتمعك بهذا الفكر المفكك المهترئ . : وبهذا تكتمل أضلاع مثلث التمرد الفكري : (كن معارضاً ، كن غامضاً ، كن نسبياً) ، كل ضلع له ثلاث ساعات ، بعدها يصبح " البرعم الجديد" وبكل سهولة جاهزاً " للدرعمة " فليبتهج عالم المفكرين المتمردين ، بالمولود الجديد الذي سيحل ضيفاً عليهم ، فما أسرع اللمعان ، وما أسرع الانطفاء ، هكذا أيها الأصدقاء وخلال حلقات ثلاث حدثتكم عن (فقاعة الصابون الثقافية) : كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات ! : وفي الختام تذكرت قول إيريك هوفر واصفاً حال " المفكرين " إياهم : ( إن أحد امتيازات المثقفين التي تدعو للاستغراب ، هي أن يكونوا أحراراً في أن يكونوا بلهاء إلى حد كبير دون أن يضر ذلك بسمعتهم ) ! : انتهت هذه الرحلة يا أصدقائي .. إلى اللقاء وأنتم في أسعد حال !
    عمر بن حسن بن محمد النقيري

  7. افتراضي رد: كيف تصبح مفكراً متمرداً في 9 ساعات

    جزاك الله خيراً أخي الكريم عمر .
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •