الديباجة في رفع الحرج عمن قام أو قعد للجنازة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وقدوة الناس أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم برضوان، وسلم تسليما كثيراٍ.
أما بعد:
فهذا كلمات يسيرة لمبحث شائك للغاية، لما فيه من اختلاف بين الروايات وبين الفقهاء من الصحابة والتابعين وجمهور المتأخرين.
ألا وهو الكلام على أحاديث القيام والجلوس للجنازة إذا مرت، وإذا شيعها المشيعون.
فمن العلماء من الصحابة ومن بعدهم، من قال بالقيام للجنازة، ومنهم من قال بالجلوس، وظهر الاختلاف بين الفريقين من السلف والخلف حتى ملأت صفحات عدة من كتب أئمتنا الفقهية والحديثية.
ولما كان هذا الموضوع ذو صلة ببحث لي أضعه منذ سنوات، عن اليوم الآخر، وفي أحد أبوابه فصل عن الجنازة وأحكامها، وقد بحثت الموضوع، على ما فيه من مهام صعبة، كي أخلص بقول عدلٍ في المسألة، رجاء نفع نفسي وإخواني من طلبة العلم.
وبعد أن انتهيت من كتابته وتحريره، وسوق روايات الباب وتخريجها، والحكم على بعضها مما ليس في الصحيح، أعملت جهدي فتوصلت في آخره إلى نتيجته التي هي الفصل في النزاع، قدر طاقتي بما يناسب جهلي وتقصيري، فأحببت أن أستله من بحثي المذكور، وأن أشارك به إخواني في الملتقيات السلفية، رجاء أن يبصرني شيخ أو زميل بعيب أو خطأ وقع مني جهلاً أو سهواً، فالمؤمن مرآة أخيه. وجزى الله خيرا أخاً ناصحاً أهدى إليَّ عيوبي.
وها أنا أذكر أدلة الفريقين مما روي في الباب، ثم أتبعها بالتخريج والحكم عليها إن وجد، ثم بالتحليل والترجيح ليظهر ما خفي في هذا الباب.
والله أعلم بالصواب، وأستغفر الله عزوجل وأتوب إليه.
وقلت بعد ديباجة تخص البحث:
أما أحاديث الأمر بالوقوف، فكثيرة، نذكر منها:
ما رَوَاه أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ ؟ فَقَالَ: « إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ جَنَازَةً فَقُومُوا ».
وعِنْدَ مُسْلِمٍ بلفظ: « إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجِنَازَةَ فَقُومُوا ».
وله كذلك عَنْ جَابِرِ قَال: « قَامَ النَّبيُّ r وَأَصْحَابُهُ لجِنَازَةِ يَهُودِيٍّ حَتىَّ تَوَارَتْ ».
رواه أحمد عن أبي هريرة 3/345 وعن جابر3/343 والنسائي 1922 وابن حبان 3050 ورواية مسلم 960 وما بعدها.
وروى أحمد عَن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبيِّ r أَنَّهُ قَال: « مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَمْ يَمْشِ مَعَهَا، فَلْيَقُمْ حَتىَّ تَغِيبَ عَنْه، وَمَنْ مَشَى مَعَهَا، فَلاَ يَجْلِسْ حَتىَّ تُوضَع ».
رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِه 2/265 وصَحَّحَهُ أَحْمَد شَاكِر وهو صحيح لغيره.
وفي الصحيحين عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَ: « إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ ».
وفي لفظ قَالَ: « إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جِنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيَاً مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتىَّ يُخَلِّفَهَا أَوْ تُخَلِّفَهُ أَوْ تُوضَع ».
متفق عليه رواه البُخَارِيُّ 1308 ومُسْلِمٌ 958.
وفي المسند عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ النَّبيِّ r أَنَّهُ قَال: « إِذَا رَأَيْتَ جَنَازَةً: فَقُمْ حَتىَّ تُجَاوِزَك [أَوْ قَالَ: قِفْ حَتَّى تُجَاوِزَكَ] ».
قَالَ [نافع]: « وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى جَنَازَةً قَامَ حَتَّى تُجَاوِزَهُ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ وَلَّى ظَهْرَهُ الْمَقَابِرَ».
وفيه بلفظ: « إِذَا رَأَيْتَ جَنَازَةً فَإِنْ لَمْ تَكُ مَاشِيًا مَعَهَا فَقُمْ لَهَا حَتَّى تُخَلِّفَكَ أَوْ تُوضَع، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رُبَّمَا تَقَدَّمَ الْجِنَازَةَ فَقَعَدَ حَتَّى إِذَا رَآهَا قَدْ أَشْرَفَتْ قَامَ حَتَّى تُوضَعَ وَرُبَّمَا سَتَرَتْهُ ».
رواهما أحمد 3/445 بسندين صحيحين على شرط الشيخين، الأول حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن عون عن نافع. والثاني حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب عن نافع.
وفي مسلم عَن أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبيِّ r قَالَ:
« إِذَا اتَّبَعْتُمْ جِنَازَةً فَلاَ تجْلِسُواْ حَتىَّ تُوضَع ».
وفي لفظ: « إِذَا رَأَيْتُمِ الجِنَازَةَ فَقُومُواْ، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلاَ يجْلِسْ حَتىَّ تُوضَع ».
رواه مُسْلِمٌ في الجَنَائِزِ959.
وفي سنن النسائي عَن أَبي هُرَيْرَةَ وَأَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أَنَّهُمَا قَالاَ:
« مَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ r شَهِدَ جِنَازَةً قَطُّ فَجَلَسَ حَتىَّ تُوضَع ».
وروى أيضاً عَنْ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: « أَنَّهُمْ كَانُواْ جُلُوسَاً مَعَ النَّبيِّ r فَطَلَعَتْ جِنَازَة؛ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ r وَقَامَ مَنْ مَعَه، فَلَمْ يَزَالُواْ قِيَامَاً حَتىَّ نَفَذَتْ ».
رواهما النَّسَائِيِّ 1918 و 1920 وحسن الألباني سند الأول وصحح الثاني.
وروى أحمد عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَنَّاحٍ قَالَ رَأَى أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَنَازَةً فَقَامَ لَهَا وَقَالَ رَأَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَنَازَةً فَقَامَ لَهَا ثُمَّ حَدَّثَ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r رَأَى جَنَازَةً فَقَامَ لَهَا ».
المسند 1/60-64 ومن زوائد عبد الله، وفيه موسى بن عمران بن مناح وهو مجهول، وقال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه بما يشفي. ومن طريق عبد الله رواه الضياء في المختارة 311-312 وقال: إسناده لا بأس به. وحسنه شعيب لغيره.
وروى كذلك عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ:
« أَنَّ رَسُولَ اللَّهِr مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ ».
رواه أحمد 4/164 والبزار 1272 وقال عقبه: وَلاَ نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.اهـ قلت: يريد طريق جابر الجعفي الرافضي وهو مختلف فيه فوثقه قوم وكذبه آخرون، وهو إلى الضعف أقرب، والحديث صحيح بغير هذا الإسناد، فلم ينفرد الجعفي بروايته عن الشعبي، فقد تابعه عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وهو ثقة عند النسائي 1919 وكذلك زكريا بن أبي زائدة عند النسائي وابن أبي شيبة في المصنف 11911 فالحديث من طريقيهما صحيح.
ورواه أحمد عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ r فِي أَصْحَابِهِ فَطَلَعَتْ جِنَازَةٌ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ r ثَارَ وَثَارَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتَّى نَفَذَتْ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مِنْ تَأَذٍّ بِهَا؟ أَوْ مِنْ تَضَايُقِ الْمَكَانِ؟ وَلَا أَحْسِبُهَا إِلَّا يَهُودِيًّا أَوْ يَهُودِيَّةً وَمَا سَأَلْنَا عَنْ قِيَامِهِ r .
رواه أحمد 4/388 وابن أبي شيبة 11908 والحاكم 6583 والطبراني 629 والنسائي في الكبرى 2058 وفي سماع خارجة بن زيد بن ثابت من عمه يزيد بن ثابت شكٌ أشار إليه البخاري وابن عبد البر. والله أعلم.
وروى البخاري عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ، فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ، فَقَالَ: قُمْ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا « أَنَّ النَّبِيَّ r نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ » فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. رواه البخاري 1309 والبيهقي في الكبرى 3873.
وفيه عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ، وَقَيْسٌ « يَقُومَانِ لِلْجَنَازَةِ ».
رواه البخاري 1312 وعبد الرزاق في المصنف 6310.
فهذه الأحاديث، صحيحة صريحة في الأمر بالقيام للجنازة، والنهي عن الجلوس لمن مرت عليه حتى تغيب عنه، أو من شيعها حتى توضع، وفي هذه الأحاديث بعض الفوائد:
الفائدة الأولى: في قوله « إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا ». وقوله: « إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ ».
ذكر الحافظ قول القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه، إشارة إلى استعظامه، ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثم استوي فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم.
وقال غيره: جعل نفس الموت فزعاً مبالغة، كما يقال: رجل عدل.
قال البيضاوي: هو مصدر جرى مجري الوصف للمبالغة، وفيه تقدير، أي: الموت ذو فزع. ويؤيد الثاني، رواية أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ " أن للموت فزعاً". انتهى.
وعن ابن عباس مثله، قال: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. اهـ من قول الحافظ.
الفائدة الثانية: في قَوْلُهُ « فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدَن حَتَّى تُوضَعَ ».
قِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَضْعَهَا عَنِ الْأَعْنَاقِ، وَيُعَضِّدُهُ رِوَايَةُ الثَّوْرِيِّ: حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ.
وَقِيلَ: حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّن وقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ: الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الْوَضْعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُبَادَةَ « حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ » وَيَرُدُّهُ مَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ الطَّوِيلِ « كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r فِي جِنَازَةٍ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدُ فَجَلَسْنَا حَوْلَهُ » وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ اخْتِلَافٌ، فَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْهُ «حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ» وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْهُ «حَتَّى تُوضَعَ بِاللَّحْدِ» حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَوَهَّمَ رِوَايَةَ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَثْرَمُ.اهـ من قول الحافظ
قلت: قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُنَنِ: « وَسُفْيَانُ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ ».اهـ
وقد رجح البخاري أن الوضع المذكور لا يراد به الوضع في اللحد وإنما الوضع على الأرض من على أكتاف الرجال فبوب له بابا فقال: [ باب: من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال].
وقال ابن حجر في الفتح: كأنه أشار بهذا إلى ترجيح رواية من روى في حديث الباب حتى توضع بالأرض على رواية من روى حتى توضع في اللحد. اهـ
الفائدة الثالثة: في تعليل القيام للجنازة:
والمروي في الباب يبين أن تعليل القيام للجنازة لأسباب عدة:
الأول: لأنها نفس خلقها الله ويجب تقديرها.
ففي الصحيحين عَنْ سَهْلِ بْنَ حُنَيفٍ وَقَيْسِ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا:
أَنَّهُمَا كَانَا بِالقَادِسِيَّة ، فَمَرُّواْ عَلَيْهِمَا بجِنَازَةٍ فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِن أَهْلِ الأَرْض، أَيْ مِن أَهْلِ الذِّمَّة [أَيْ مَجُوسِيٌّ]، فَقَالاَ: إِنَّ النَّبيَّ r مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَه: إِنهَا جِنَازَةُ يَهُودِيّ؟ فَقَالَ r : « [أَلَيْسَ مَيِّتًا ؟] أَلَيْسَتْ نَفْسَاً ؟».
رَوَاهُ البُخَارِيُّ 1313 ومُسْلِمٌ 961 وأحمد 6/6 والطحاوي في معاني الآثار 2786 وله الزيادتان.
الثاني: أن القيام كان إعظاما للذي يقبض النفوس.
فروى أحمد عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ r فَقَال: يَا رَسُولَ الله؛ تَمُرُّ بِنَا جَنَازَةُ الكَافِر؛ أَفَنَقُومُ لَهَا؟ فَقَالَ r : « نَعَمْ: قُومُواْ لَهَا؛ فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَقُومُونَ لَهَا، إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامَاً لِلَّذِي يَقْبِضُ النُّفُوس ».
وفي لفظ ابن حِبَّانَ: « إِعْظَامًا للَّذِي يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ ».
الثالث: ما فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ النسائي فَقَالَ « إِنَّمَا قُمْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ».
رَوَاهُ أَحْمَدُ 2/168 وحَسَّنَهُ شَاكِر والنسائي 1929 وصححه الألباني وابن حبان 3053 والطبراني أوسط 8113.
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ هَذِهِ التَّعْلِيلَاتِ لِأَنَّ الْقِيَامَ لِلْفَزَعِ مِنَ الْمَوْتِ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ وَتَعْظِيمٌ لِلْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ فِي ذَلِكَ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ. اهـ
الرابع: أن القائم للجنازة حتى توضع له مثل أجر حاملها:
كما روى البيهقي عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَمَامَ الْجِنَازَةِ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَقَامُوا حَتَّى وُضِعَتْ، ثُمَّ جَلَسُوا فَقُلْتُ لِبَعْضِهِمْ، فَقَالَ: « إِنَّ الْقَائِمَ مِثْلُ الْحَامِلِ ». يعني في الأجر.
رواه البيهقي في السنن الكبرى 4/43 بسند صحيح رواته أئمة ثقات حفاظ.
الخامس والسادس: تعليلان ضعيفان المعنى لا يثبتان أمام هذه التعليلات الصريحة أعلاه.
فأما التعليل الأول منهما: فما رواه أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
« إِنَّمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r تَأَذِّيًا بِرِيحِ الْيَهُودِيِّ ». رواه أحمد 1/200-201 بسند ضعيف.
وعند أبو نعيم مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاشٍ بلفظ: « فَأَذَاهُ رِيحُ بَخُورِهَا ».
رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة 3935 وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 3/28: رواه الطبراني في الكبير، وفيه أبو عمرو السدوسي، ولم يرو عنه غير أبى عامر العقدي، وبقية رجاله ثقات.
وفي معجم ابن الأعرابي عَنْ جَابِرٍ قَالَ: « إِنَّمَا وَقَفَ النَّبِيُّ r لِأَنَّهَا كَانَتْ جِنَازَةَ يَهُودِيٍّ لِنَتَنِ رِيحِهَا ». وعند الطحاوي بلفظ: « آذَانِي رِيحُهَا ».
رواه ابن الأعرابي 1725 من طريق معاوية بن يحيى الصدفي وقد ضعفوه، والطحاوي 2797 من رواية محمد بن عمر بن علي، وهو قليل الحديث، وشيخ الطحاوي عمرو بن مرزوق فيه شيء مع ثقته، فرفعه غريب.
والتعليل الآخر منهما: ما رواه النسائي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ جَالِسًا فَمُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ حَتَّى جَاوَزَتِ الْجَنَازَةُ، فَقَالَ الْحَسَنُ:
« إِنَّمَا مُرَّ بِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى طَرِيقِهَا جَالِسًا، فَكَرِهَ أَنْ تَعْلُوَ رَأْسَهُ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَامَ ».
رواه النسائي 1927 وفي الكبرى 2065 والدولابي في الذرية الطاهرة 120 وسنده صحيح.
قال ابن حجر عن هاتين الروايتين: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ الْأَخْبَارَ الْأُولَى الصَّحِيحَةَ، أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ أَسَانِيدَهَا لَا تُقَاوِمُ تِلْكَ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا فَهِمَهُ الرَّاوِي، وَالتَّعْلِيلُ الْمَاضِي صَرِيحٌ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ r .اهـ
قلت: تعليل الحسن نسب فيه الكراهة لفعل النبي r، وهذه النسبة في حكم المرفوع، لا سيما وسندها صحيح إلى الحسن، نعم أسانيدها لا تضارع تلك، وفيها مخالفة.
الفائدة الرابعة: فيما ورد مما ظاهره نسخ القيام للجنازة:
وقد جاءت أحاديث أخرى على خلاف أحاديث الأمر بالقيام للجنازة، ويعتبرها بعض العلماء ناسخة للقيام.
نذكر منها ما رواه مسلم وغيره عَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وقد جاءت عنه بألفاظ عدة، قَال:
« قَامَ رَسُولُ اللهِ r ثمَّ قَعَد ».
وفي لفظ: « رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ r قَامَ فَقُمْنَا، وَقَعَدَ فَقَعَدْنَا ».
وفي لفظ: « كَانَ r يَقُومُ فِي الجَنَائِزِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدُ ».
وفي لفظ: « قَامَ رَسُولُ اللهِ r لِلْجَنَازَةِ فَقُمْنَا، ثُمَّ جَلَسَ فَجَلَسْنَا ».
الروايات عنه صحيحة بهذه الألفاظ عدا الزيادة الآتية، وراجع المسند 1/82 وابن حبان 3054 ومُسْلِمٌ 962 وموطأ مالك 1/332 وأبو داود 2/64 وابن ماجة 1545 والنَّسَائِيِّ 1925 والطحاوي 1/383 والطيالسي 150.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وأبي يعلى والطحاوي وفيه زيادة الأمر بالجلوس، بِلَفْظِ:
« كَانَ رَسُولُ اللهِ r أَمَرَنَا بِالقِيَامِ في الجِنَازَةِ، ثُمَّ جَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَنَا بِالجُلُوس ».
ومثلها من رواية مَسْعُودٍ بْنِ الْحَكَمِ الزُّرَقِيِّ قَالَ: « شَهِدْتُ جِنَازَةً بِالْعِرَاقِ, فَرَأَيْتُ رِجَالًا قِيَامًا يَنْتَظِرُونَ أَنْ تُوضَعَ, وَرَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ: أَنِ اجْلِسُوا، فَإِنَّ النَّبِيَّ r قَدْ أَمَرَنَا بِالْجُلُوسِ بَعْدَ الْقِيَامِ ».
أخرجه أحمد 1/82 وأبو يعلى 308 وابن حبان 3056 والبيهقي 6675، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة وهو صدوق له أوهام. وعند أبي يعلى متابعة يحيى بن سعيد وفيه نوع تدليس مع جلالته وثقته، ورواه ابن حبان 3054-3055 من طريق مالك والليث عن يحيى وليس فيه الزيادة، ورواه الطبري في تهذيب الآثار 268 والطحاوي في شرح معاني الآثار 2579 وابن عساكر في معجمه 1010 من رواية إسماعيل بن مسعود بن الحكم الزرقي عن أبيه، وإسماعيل مجهول وقد ذكره ابن حبان في الثقات على عادته في توثيق المجاهيل، وخلص الألباني رحمه الله، إلى أن الحديث حسن بمجموع طرقه.
وَفي رِوَايَةٍ للنسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَال: « قَامَ لَهَا ثُمَّ قَعَد ».
الفائدة الخامسة: فيما ورد من تعليل الجلوس للجنازة:
وجاء في تعليل الجلوس بعد القيام، بأنه مخالفة لأهل الكتاب، وأن هذا كان من صنيعهم.
كما رُوِىَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَال:
كَانَ رَسُولُ اللهِ r إِذَا اتَّبَعَ جِنَازَةً لَمْ يَقْعُدْ حَتىَّ تُوضَعَ في اللَّحْد، فَعَرَضَ لَهُ حَبْرٌ فَقَال: هَكَذَا نَصْنَعُ يَا محَمَّد؛ فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ r وَقَال: « خَالِفُوهُمْ ».
رواه الترمذي 1020 وابن ماجة 1545 وفيه بشر بن رافع وليس بالقوي، وعبد الله بن سليمان بن جنادة عن أبيه، وهما ضعيفان، ورواه أبو داود 3176 من طريق أَبُو الْأَسْبَاطِ الْحَارِثِيُّ وقد ضعف، وحسنه الألباني مع هذا.
وروى أحمد عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ فَمَرَّ بِجِنَازَةٍ فَقَامَ لَهَا نَاسٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ:
« مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ » فَقَالُوا: أَبُو مُوسَى، فَقَالَ: « إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ r مَرَّةً، فَكَانَ يَتَشَبَّهُ بِأَهْلِ الكِتَاب، فَلَمَّا نُهِيَ انْتَهَى ».
وفي لفظ النسائي: « إِنَّمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ r لِجَنَازَةِ يَهُودِيَّةٍ وَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ ».
رواه أحمد 1/141 وعبد الرزاق في المصنف 6311 والنسائي 1923 وهو حديث صحيح.
وجاء عن عائشة في تعليل القيام للجنازة بأنه كان من أفعال الجاهلية: فروى البخاري عَن عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ، حَدَّثَهُ أَنَّ الْقَاسِمَ كَانَ يَجْلِسُ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ, وَلَا يَقُومُ لَهَا، وَيُخْبِرُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: « كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُومُونَ لَهَا إِذَا رَأَوْهَا, وَيَقُولُونَ: كُنْتِ فِي أَهْلِكَ مَا أَنْتَ؟ كُنْتِ فِي أَهْلِكَ مَا أَنْتَ؟ ».
رواه البخاري 3837 عن يحيى بن سليمان والطحاوي 2810 في المعاني عن يونس كلاهما عن ابن وهب به.
يتبع إن شاء الله تعالى