أولئك أولئك ... فهل سنرجع إلى طريق أولئك ولا نسلك طريقا غيره ؟
قال تعالى بعد ذكر بعض الأنبياء والرسل الذين أرسلهم إلى الناس ... (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).

وذكر هذا الرهط على هذا النحو , واستعراض هذا الموكب في هذه الصورة , كله تمهيد للتقريرات التي تليه:
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده , ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون). .
وهذا تقرير لينابيع الهدى في هذه الأرض . فهدى الله للبشر يتمثل فيما جاءت به الرسل . وينحصر المستيقن منه , والذي يجب اتباعه , في هذا المصدر الواحد , الذي يقرر الله - سبحانه - أنه هو هدى الله ; وأنه هو الذي يهدي إليه من يختار من عباده . . ولو أن هؤلاء العباد المهديين حادوا عن توحيد الله , وتوحيد المصدر الذي يستمدون منه هداه , وأشركوا بالله في الاعتقاد أو العبادة أو التلقي , فإن مصيرهم أن يحبط عنهم عملهم:أي ان يذهب ضياعا , ويهلك كما تهلك الدابة التي ترعى نبتا مسموما فتنتفخ ثم تموت . . وهذا هو الأصل اللغوي للحبوط !

(أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين). .
وهذا هو التقرير الثاني . . فقرر في الأول مصدر الهدى , وقصره على هدى الله الذي جاءت به الرسل . وقرر في الثاني أن الرسل الذين ذكرهم والذين أشار إليهم , هم الذين آتاهم الله الكتاب والحكمة والسلطان والنبوة -(والحكم)يجيء بمعنى الحكمة كما يجيء بمعنى السلطان كذلك - وكلا المعنيين محتمل في الآية . فهؤلاء الرسل أنزل الله على بعضهم الكتاب كالتوراة مع موسى , والزبور مع داود , والإنجيل مع عيسى . وبعضهم آتاه الله الحكم كداود وسليمان - وكلهم أوتي السلطان على معنى أن ما معه من الدين هو حكم الله , وأن الدين الذي جاءوا به يحمل سلطان الله على النفوس وعلى الأمور . فما أرسل الله الرسل إلا ليطاعوا , وما أنزل الكتاب إلا ليحكم بين الناس بالقسط , كما جاء في الآيات الأخرى . وكلهم أوتي الحكمة وأوتي النبوة . . وأولئك هم الذين وكلهم الله بدينه , يحملونه إلى الناس , ويقومون عليه , ويؤمنون به ويحفظونه . . فإذا كفر بالكتاب والحكم والنبوة مشركو العرب:(هؤلاء)فإن دين الله غني عنهم ; وهؤلاء الرهط الكرام والمؤمنون بهم هم حسب هذا الدين ! . . إنها حقيقة قديمة امتدت شجرتها , وموكب موصول تماسكت حلقاته ; ودعوة واحدة حملها رسول بعد رسول ; وآمن بها ويؤمن من يقسم الله له الهداية ; بما يعلمه من استحقاقه للهداية ! . . وهو تقرير يسكب الطمأنينة في قلب المؤمن , وفي قلوب العصبة المسلمة - أيا كان عددها - إن هذه العصبة ليست وحدها . ليست مقطوعة من شجرة ! إنها فرع منبثق من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء , وحلقة في موكب جليل موصول , موصولة أسبابه بالله وهداه . . إن المؤمن الفرد , في أي أرض وفي أي جيل , قوي قوي , وكبير كبير , إنه من تلك الشجرة المتينة السامقة الضاربة الجذور في أعماق الفطرة البشرية وفي أعماق التاريخ الأنساني , وعضو من ذلك الموكب الكريم الموصول بالله وهداه منذ أقدم العصور .


(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده . قل:لا أسألكم عليه أجرا . إن هو إلا ذكرى للعالمين). .
وهو التقرير الثالث . . فهؤلاء الرهط الكرام الذين يقودون موكب الإيمان , هم الذين هداهم الله . وهداهم الذي جاءهم من الله فيه القدوة لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ومن آمن به . فهذا الهدى وحده هو الذي
يسير عليه . وهذا الهدى وحده هو الذي يحتكم إليه , وهذا الهدى وحده هو الذي يدعو إليه ويبشر به . . قائلا لمن يدعوهم:
(لا أسألكم عليه أجرًا). . (إن هو إلا ذكرى للعالمين). . للعالمين . . لا يختص به قوم ولا جنس ولا قريب ولا بعيد . . إنه هدى الله لتذكير البشر كافة . ومن ثم فلا أجر عليه يتقاضاه . وإنما أجره على الله !