عن ابن عباس رضي الله عنه قال:
لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دار - على حدتهم - وهم ستة آلاف وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- معه،
قال: جعل يأتيه الرجـل فيقول: يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك،
قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفـعلون.
فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين: أبرد عن الصلاة فلا تفـتـني حتى آتي القوم فأكلمهم
، قال: إني أتخوفهم عليك.
قلت: كلا إن شاء الله تعالى وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا.
قال: فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية،
قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا. قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال:
فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم،
أيديهم كأنها ثفن الإبل،
وجوههم معلمة من آثار السجود،
عليهم قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر.
قال: فدخلت.
فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة،
قال: قلت ما تعيبون علي؟ لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق))
قالوا: فما جاء بك؟
قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن عند صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد،
فقال بعضهم:
لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))،
وقال رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.
قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وختنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟
قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.
قال: وما هنّ؟
قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: ((إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ))، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلت له أموالهم ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.
قال: قلت وماذا؟
قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.
قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون [ ينقض قولكم ] أترجعون؟
قالوا: نعم.
قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ))، إلى قوله: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)). وقال في المرأة وزوجها: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا)). أنشدكم الله أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بضع امرأة. وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.
قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.
قال: أخرجت من هذه؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) ، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم، أخرجت من هذه؛ فنظر بعضهم إلى بعض.
قالوا: اللهم نعم.
قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم كتابًا فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن كذبتموني، اكتب يا على: محمد بن عبد الله ، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أفضل من علي -رضي الله عنه- وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه. أخرجت من هذه؛ قالوا: اللهم نعم. فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا على ضلالة.
هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في (المصنف ، باب ذكر رفع السلام 10/157 رقم 18678) ومن طريقه - أخرجه أبو نعيم في (الحلية 1/318)، وأخرجه البيهقي في(السنن الكبرى 8/179)، وابن عبد البر القرطبي في (جامع بيان العلم وفضله 2 / 103 طبعة المنيرية)، ويعقوب بن سفيان البسوي في (المعرفة والتاريخ 1/522)، والحاكم في (المستدرك 2/150-152)، وأخرج بعضه الإمام أحمد في(المسند 1/342،5/67 رقم 3187، طبعة شاكر) كلهم أخرجوه من طريق عكرمة بن عمار ثنا أبو زميل الحنفي ثنا ابن عباس به، ولكل منهم لفظ مختلف وزيادات أثبتنا منها ما كان فيه زيادة معنى.
وهذا الأثر نسبه الهيثمي في (مجمع الزوائد) إلى الطبراني وأحمد في المسند، وقال: رجالهما رجال الصحيح، وأشار إليه الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 7 / 282)، وابن الأثير في (الكامل) وابن العماد الحنبلي في (الشذرات)، وذكر غيرهم سياقات أخر لهذه القصة ولكنها عن غير ابن عباس من غير هذا الطريق، وإنما مقصودنا رواية ابن عباس فقط..
وقال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5 / 7 6 رقم 3187): إسناده صحيح. اهـ
***************
القواعد والاصول والشروط المستفادة من مناظرة ابن عباس رضى الله عنه للخوارج
الاهتمام باختيار الرجل المناسب للمهمَّة المرسَل إليها؛
ومن أمثالهم السائرة في الناس:
“أرسل حكيمًا ولا توصِه”،
يقول أبو عبيد: “إنَّ عقلَه وأدبَه يغنيك عن وصايته بعد أن يعرف الحاجة”
فقد كان ابن عباس -رضي الله عنهما- هو الرجل المناسب لتلك المهمة؛
لما تميز به من غزارة العلم، وحسن الفهم؛ فهو ترجمان القرآن، والمدعو له بفهم التأويل.
فينبغي أن يختار المناظر اختيارا بأن يكون قوي الحجة، غزير العلم، ذكيا فطنا حاضر البديهة، حسن الجواب، حسن الخلق والهيئة، متواضعا حليما متأنيا، تقيا منصفا
((الرد على المخالف)) لبكر أبو زيد
توافرت هذه الشروط في حبر الأمة عبدالله بن عباس، ووجد نفسه أهلا لذلك
فاستأذن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمناظرتهم، فخاف علي عليه،
فقال ابن عباس: "كلا" وعلل ذلك بما يتصف به من صفات من أنه رجل حسن الخلق لا يؤذي أحدا.
- اختيار الوقت المناسب للحوار والمناظرة،
وقد اختار ابن عباس وقتا مناسبا ليتمكن من الحديث معهم دون مقاطعة من أحد أو انصراف من آخر، فاختار وقت فراغهم وعدم انشغالهم لا بالعمل ولا بالعبادة، فجاءهم وهم يأكلون، والطعام موضع حديث.
اختيار المكان المناسب
الذي يتيح للمعارض الحديث بحرية وأمان، فيظهر كل ما يعترض عليه وما يشكل عنده، إذ غرض المناظرة والحوار إيضاح موضع الإشكال وإزالة الشبهة،
خلخلة موقف أهل الباطل وتشكيكهم في مُعتَقداتهم وتصوُّراتهم، حتى يَسهُل اقتيادهم للحقِّ، كما تعمَّد ابن عباس قبل مناظرة الخوارج لبس أحسن الحُلَل وهو يعلم أنهم سيَستَنكِرونه، فيبيِّن لهم أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَلَه، وأنَّ القرآن أنكر على مَن حرَّمه، وبهذا تَضعُف ثقتهم بمَواقِفهم، والمرء قد تحرِّكه كثرةُ الصدمات من موقفه أحيانًا، ولهذا لبس ابن عباس الفَطِنُ أحسنَ الثياب وترجَّل.فسار ابن عباس رضي الله عنه إلى الخوارج في دارهم
تحديد موضوع المناظرة،
فينبغي أن يكون موضوعا محددا تدور حوله المناظرة، فإذا أجيب عنه انتقل إلى غيره،
حتى لا يتشتت الذهن مع موضوعات شتى،
وينبغي أن يصرح ويحدد موضوع المناظرة بوضوح حتى لا يقع إشكال من أحد الطرفين، لذلك حدد ابن عباس رضي الله عنهما مدار الحوار
فقال: "هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه" ) .
الإقرار بما عند الخصم من الخير والحق،
فابن عباس رضي الله عنه وصف اجتهادهم في العبادة ولم يكتمه،
وهذا من الإنصاف والتجرد عن الهوى ) .
تذكير الخصم بالرغبة الصادقة في الحوار والاستماع إليه،
وبيان أن الهدف هو الوصول إلى الحق،.
تحديد الأصل الذي يرجع إليه ويحتج به
، وينبغي أن يكون متفق على صحته عند الخصمين،
وقد حدد ابن عباس رضي الله عنه ذلك
فقال: "أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيه ما يرد قولكم أترجعون؟" ) .
توثيق المعلومات بالأدلة التي يحتج بها الطرفان ،
فابن عباس رضي الله عنه لا يذكر شيئا إلا ويستدل عليه من كتاب الله أو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
استماع حجة الخصم كاملة، وعدم العجلة بالجواب حتى يعلم ما عند القوم كله،
ويتصور مرادهم، ووجه اعتراضهم بشكل متكامل،
ثم يجيبهم بجواب يقطع حجتهم،
وهذا ما فعله ابن عباس رضي الله عنه فاستمع إلى اعتراضاتهم الثلاثة،
العلم بحال الخصم،
وتوقع ردة فعله، ومحاولة الاستفادة من ذلك في إقامة الحجة عليه،
فابن عباس رضي الله عنه كان يعلم زهد الخوارج وتقشفهم في العبادة وغلوهم في ذلك،
فلما أراد السير إليهم لبس حلة من أحسن ما يكون من اليمن،
فأنكروا عليه ذلك -
وكان يتوقع إنكارهم –
فرد عليهم أن هذا وارد في الكتاب والسنة،
وفي رده عليهم قرر أمرين:
الأول: جهلهم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم،
الثاني: أنهم لجهلهم يعيبون وينكرون أمورا هي واردة في الكتاب والسنة، مثل هذا الأمر، ومثل إنكارهم على علي أمر التحكيم.
وإن كان لم يصرح بهذين الأمرين أو يعلنهما، ولكنهما ينفذان للنفوس والأذهان.
إظهار حقيقة الخصم إن كان جاهلا بالكتاب والسنة () عن طريق إضعاف موقفه بالحجة والدليل،
وهذا ما فعله ابن عباس أول ما قدم إليهم أنكروا عليه أمر حلته،
فبين جهلهم وأنه أعلم منهم بما ورد في الكتاب والسنة،
وقرر أنه شاهد ما لم يشاهدوا من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك لما سئل ما جاء بك؟
زاد في الإجابة ليؤكد هذا الأمر
فقال: "أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن
، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد".
فهو ها هنا يؤكد أمرين:
الأول: فهم الصحابة رضي الله عنه للقرآن الكريم وعلمهم بتأويله إذ عليهم نزل، بخلاف الخوارج الذين قرؤوا القرآن فظنوا أنهم ساووا الصحابة في الفهم،
فبين ميزة الصحابة وتفردهم بنزول القرآن بين أظهرهم.
فالذين صَحِبُوا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَوْلَى بفَهْمِ الحقِّ ومعرفته من غيرهم، وهم الذين مدَحَهم الله في القرآن الذي تتلونه: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8، 9].
فوصَف المهاجرين بالصدق، والأنصار بالفلاح، فأنَّى لكم كيف تُخالِفونهم؟ ثم مَن تُناصِبُونه العداء هو علي ابن عمِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوج ابنته فاطمة التي هي بَضْعة منه! وهؤلاء جميعًا هم مَن نزل عليهم القرآن، فهم أَوْلَى منكم بمعرفة تفسيره وأحكامه، ولم ينحز واحدٌ منهم إليكم، ولا فهم الذي فهمتم من القرآن. وبهذا يُرَسِّخ الداعية للحقِّ الذي يحمله مع مُخالِفه، فيجعله أكثر قابليَّة للحق
الثاني: بيان جهل الخوارج، وإظهار حقيقتهم، وأنه ليس فيهم صحابي واحد،
فبهذه المقدمة قرر أمرين: عمق علم المعترض عليهم، والذي يقتضي قوة حجتهم وقوة موقفهم، جهل المخالفين المعترضين مما يضعف موقفهم.
استِعمال عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج على ترك السماع من ابن عباس لأنه قرشيٌّ؛ والله يقول عن قريش: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]!
فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون بالباطل، وابن عباس إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكيف يجعَلونه من أهل هذه الآية؟ وفي هذه المُناظَرة الكثير من جهل الخوارج بنصوص كتاب الله - تعالى - وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها ابتِداءً.
التِماس تَحَرِّي الخير في بعض المُخالِفين؛ كما وقع من بعض الخوارج هنا، إذ قالوا لبعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولنَنظُرَنَّ ما يقول، وهذا منهم تحرٍّ للخير.
للمناظر أن يشترط على الخصم إن هو أفحمه وأقام عليه الحجة
أن يرجع عن قوله، ويقر بخطئه ،
لذلك قال ابن عباس: "أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله... أترجعون؟ قالوا: نعم "فاشترط عليهم وقبلوا، وهذا من إقامة الحجة عليهم.
من طرق إحكام الرد وإفحام الخصم:
الاستدلال على جواز أصل ما اعترضوا عليه، والاستدلال بما يحتجون به، إذ كانوا معترضين على تحكيم الرجال في أمر الله مطالبين بتحكيم الكتاب،
فبين لهم أن الله عز وجل قد صير حكمه إلى الرجال في مسائل،
فينبغي ألا يعارض حكم الله في تحكيم الرجال، ولو اعترضوا لصاروا هم المخالفين لحكم الله، فنقض شبهتهم وقلبها عليهم () .
من طرق إحكام الردود وإفحام الخصم:
استخدام القياس وذلك لما قال لهم "أحكم الرجال في إصلاح ذات البين،
وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب"
وقال: "أفضل من حكمهم في بضع امرأة" ؟!
وهذا من أحسن القياس وأوضحه () .
من طرق إحكام الردود وإفحام الخصم:
نقض حجة الخصم بأن يمثل لقوله بمثال هو باطل عنده،
ليعلم الخصم أن بطلان قوله كبطلان ما مثله به () ،
وذلك حينما رد عليهم ابن عباس لما قالوا: "قاتل ولم يسب ولم يغنم"،
فهذا أمر عام جاء له بمثال هم يبطلونه
فقال: "أفتسبون أمكم عائشة تستحلون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟..." ()
ثم بين لهم اللوازم الباطلة التي تلزم من قولهم هذا،
فدل على بطلان الملزوم.
إحكام النقض، للشبه المعروضة، وكشف زيفها وتصييرها هباء منثورا ،
فهذا ابن عباس رضي الله عنه قد أحكم نقض شبههم وقررهم بذلك.
حسن الصياغة بالتزام اللسان العربي الفصيح، والإتيان بالكلام الطيب بعيدا عن الشتم والفظاظة في الرد، والاقتصاد في السياق،
فيؤتى بالألفاظ على قدر المعاني دون تطويل لا حاجة له، أو تكرار يخل ويمل .
ولقد كان ابن عباس رضي الله عنه حسن الصياغة بكل معاييرها في هذه المناظرة .
التنبيه إلى وجوب النظر إلى حقيقة الأمر وإلى واقع الحال،
فقال في جوابه عن الاعتراض الأخير في مسح علي اسم الإمرة في كتاب التحكيم،
"ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه عن النبوة".
العلم بعقلية الخصم وطريقة تفكيره حتى تجري المناظرة وفق ما يناسب ذلك،
فنلحظ أن ابن عباس رضي الله عنهما استمع إلى حججهم،
ثم تولى الإجابة عن المسائل وهم يستمعون،
وهو في أثناء ذلك ينقلهم من مسألة إلى مسألة، ومن جزئية إلى جزئية، ويجيب بشكل مباشر وواضح، ويقررهم على كل واحدة،
وهم يقرون "بنعم، وبلى"،
وهذا من فقه ابن عباس رضي الله عنه وعلمه بطبيعتهم الحادة المتسرعة،
ونظرتهم القاصرة، وسطحية التفكير فهم ليسوا بأهل جدل وكلام،
ثم إنهم يتأثرون بالعصبية، وقد يعزلهم الصخب الجماعي عن التفكير والفهم، ومتابعة الحوار، لذلك قالوا كل اعتراضاتهم، ثم تولى الإجابة دون مقاطعات.
لذلك ينبغي عند مناقشة مثل هذا النوع أن يكون الحوار فرديا لا جماعيا قدر الإمكان حتى يعزلوا عن تأثير الجماعة، وتخف وطأة العصبية () ،
ويكون المجال أرحب للتفكير والموازنة فيما يطرح عليهم، وفيما عندهم من خلفيات.
وينبغي تكرار المناقشة والرد على الشبهات أكثر من مرة، ومن أكثر من شخص مع مراعاة وقت زمني بين كل مرة وأخرى، إذ في هذه الجماعات من هم مغرورون قد تأثروا بالشعارات البراقة التي يرفعها الخوارج من الجهاد في سبيل الله،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحكيم كتاب الله،
فتدفع طائفة منهم العاطفة الدينية الجياشة، وحب الخير للانضمام إلى هذه الجماعات،
ولكن ما إن يبدأ الحوار، وتناقش الأمور، ويفكر المرء بما يقال حوله،
فالشبهة سرعان ما تزول بإذن الله.
يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنه:
"بعثنا عثمان بن عفان في خمسين راكبا وأميرنا محمد بن مسلمة الأنصاري () حتى أتينا ذا خشب، فإذا رجل معلق المصحف في عنقه، تذرف عيناه دموعا، بيده السيف
وهو يقول: ألا إن هذا – يعني المصحف- يأمرنا أن نضرب بهذا يعني السيف – على ما في هذا – يعني المصحف
فقال محمد بن مسلمة: اجلس،
فقد ضربنا بهذا على ما في هذا قبلك، فجلس فلم يزل يكلمهم – أي ابن مسلمة رضي الله عنه – حتى رجعوا () .
ومن مناظرات الصحابة للخوارج وإلزامهم بالأصل الذي يقرون به،
ما جرى بين عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما
حيث يقول: "لقيني ناس ممن كان يطعن على عثمان ممن يرى رأي الخوارج،
فراجعوني في رأيهم وحاجوني القرآن.
قال: فلم أقم معهم ولم أقعد، فرجعت إلى الزبير منكسرا
فذكرت ذلك له، فقال الزبير رضي الله عنه:
إن القرآن قد تأوله كل قوم على رأيهم وحملوه عليه، ولعمر الله إن القرآن لمعتدل مستقيم، وما التقصير إلا من قبلهم، ومن طعنوا عليه من الناس فإنهم لا يطعنون على أبي بكر وعمر،
فخذهم بسنتهما وسيرتهما،
قال عبدالله: فكأنما أيقظني بذلك، فلقيتهم فحاججتهم بسنة أبي بكر وعمر،
فلما أخذتهم بذلك قهرتهم وضعف قولهم" () .
ونجد أن المناقشة وإقامة الدليل والإجابة على التساؤلات تزيل كثيرا من الشبه التي تعترض الخوارج وتدعوهم إلى الخروج على الجماعة المسلمة وقتالهم:
ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن يزيد الفقير
() قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج () ،
فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس،
وقال: فمررنا على المدينة
فإذا جابر بن عبدالله يحدث القوم جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين
قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون،
والله يقول: رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [آل عمران:192]. كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22].
فما هذا الذي تقولون؟
قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.
قال: فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم يعني الذي يبعثه الله فيه؟
قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج
قال: ثم نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه.
وقال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك.
قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها.
قال: يعني: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم () ،
قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس،
فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد