السؤال:
♦ الملخص:
شاب يذنب ويعود، لكن ذنوبًا أرهقته محاولات التخلص منها، ونتج عنها وسواس الندم فأصبح يندم على كل شيء، ولو صغيرًا، ويتوقف عن كل شيء بسبب ندمه، وهو يسأل: ما النصيحة؟
♦ تفاصيل السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله.
سؤالي ليس محددًا، ولكني أستشير لمعرفة ماذا بي، هل هو وسواس، أم هي ترهات أفكار مني نتيجة كسلٍ أصابني، أم احتيال مني على نفسي لأبرر فشلي وذنوبي؟
‏أنا إنسان يتكرر منه الذنب والعودة منه، لكني تعبت من ذنوب معينة أحاول التوبة منها منذ ثمانية أو تسعة أعوام، يئست من نفسي ومن محاولاتي، الانتكاسة كانت تقتلني حرفيًّا، وعند الانتكاس أترك كل شيء، فلا أدرس ولا أقابل أحدًا، فقط أحافظ على صلاتي والحمد لله، ثم تأتيني وساوس: لماذا خلقنا الله، وهو لا يحتاج عبادتنا سبحانه وتعالى، وأودع فينا هذه الشهوات؟ أصبحت أخاف من نفسي، الشهوات تقتلني، والموت عندي أيسر من الانتكاسة، ‏وبعد محافظتي على الصلاة تأتيني وساوس أُخر بأن أترك بعض الفروض لعلي أتعظ، فإذا جعلني الذنب أترك الصلاة، فلعلني أقلع عن الذنب، ولكن تفاقم الأمر، وأضعت الصلوات، لكن الحمد لله لم تطل تلك الفترة، وعدت للصلاة برحمة الله، ثم ندمت على ما فرطت من الصلاة وعلى ذنوبي، فما لبثت إلا أن عدت لذنوبي، صلب سؤالي هو الندم، تشتتت أفكاري، لم أعد أستطيع النوم دون كوابيس، أخاف وأندم أكثر مما أتنفس، ومن ثَمَّ أعود للذنب بسبب الندم، ولا أعلم ماذا أفعل، أندم على كل شيء - كل شيء حرفيًّا - صغيرًا كان أم كبيرًا، أندم إذا نمت كثيرًا ندمًا يجعلني لا أدرس، ولا أستطيع الفرح بشيء، أندم إن لم أدرس كما أريد، ‏تعبت من الندم وكرهته، أخاف أن أترك الإسلام؛ لذلك ما عدت أريد الندم على شيء، أريد أن يكون كل شيء عاديًّا، ليس هناك حرام، ولا صح ولا خطأ، ولكن عندها أكون خسرت الدنيا والآخرة، أرجو الدعاء لي بالمغفرة والهداية والرحمة من الله الرحمن الرحيم، أرشدوني، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، ونسأل الله لنا ولك الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: الغاية الكبرى والهدف الأعظم من خلق الخلق بيَّنها الله بأوضح عبارة، وأوجز بيان؛ في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وإذا كان الله هو الخالقَ، فله الحق أن يُعبَد، إذا كان الله هو الخالقَ، فهو المستحق للعبادة، ونحن نعبد الله؛ لأنه خلقنا وأمَرنا أن نعبده؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
ثالثًا: لا يشك عاقل أن من مَلك شيئًا لا يُسأل عن تصرفه فيه، فالكون كونه سبحانه، والخلق خلقه؛ لذا ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
وقد سُئل الشيخ البراك عن سؤال نحو هذا فأجاب: "قد بيَّن سبحانه وتعالى حكمته من خَلقِ السماوات والأرض، وخلقِ ما على الأرض، وخَلقِ الموتِ والحياة، وهي الابتلاء للجن والإنس؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
فعُلم من هذه الآياتِ أن الله خلق ما خلق لابتلاء العباد ليتبين من يكونُ منهم أحسنَ عملًا، ويظهرُ ذلك في الواقع حقيقة موجودة، بل بيَّن سبحانه في كتابه أن ما يجري في الوجود من النعم والمصائب لنفس الحكمة؛ وهي الابتلاء، الذي يُذكر أحيانًا بلفظ الفتنة؛ قال الله تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35].
وقال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3].
فبهذا الابتلاءِ يتبينُ الصادقُ من الكاذبِ، والمؤمن من الكافر مما هو معلوم للرب قبل ظهوره في الواقع، وقد أخبر سبحانه وتعالى في موضع من القرآن أنه خلقَ الناسَ ليختلفوا، ويكون منهم المؤمن والكافر، ويترتب على ذلك ما يترتب من ابتلاء الفريقين بعضهم ببعض؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [هود: 118، 119].
وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53].
وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [محمد: 4].
وبين سبحانه وتعالى أن من حكمته في القتال بين المؤمنين والكافرين ومداولة الأيام ما ذكره في قوله: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 140، 141].
وأما قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فقد قيل: إن المعنى لآمرهم وأنهاهم فيعبدوني، وأمره ونهيه سبحانه وتعالى هو ما بعث به رسله، وفي هذا ابتلاء للعباد يكشف به حقائقهم حتى يميز الله الخبيث من الطيب؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 4].
وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 179]، وقد ذكر سبحانه أن من حكمته من خلق السماوات والأرض أن يعلم العباد كمال علمه وقدرته؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].
ولم يكن خلق الله لآدم أو للجن والإنس لحاجة به إليهم، ولا لحاجة إلى عبادتهم - كما توهم السائل - بل لا حاجة به إلى عبادة الملائكة ولا غيرهم؛ لأنه الغني بذاته عن كل ما سواه، لكنه تعالى يحب من عباده أن يعبدوه ويطيعوه، وعبادته هي محبته والذل لـه والافتقار إليه سبحانه، ونفع ذلك عائد إليهم؛ كما قال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر))؛ [رواه مسلم (2577)].
وقول السائل: (إذا كانت الملائكة قد عبدت الله عز وجل قبل خلق البشر، فلماذا خلق البشر؟).
جوابه في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
فقوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، يتضمن أن لـه حكمة في خلق آدم واستخلافه في الأرض، وإن كان يحصل من بعض ذريته ما يحصل من الإفساد وسفك الدماء؛ قال تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ إلى قوله عن الملائكة: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 30، 32]، ففوضت الملائكة الأمر إلى علمه وحكمته، ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
فقد تبين مما تقدم أن قول السائل: "نحن – المسلمين - نعلم أن الإنسان خُلق لسبب واحد وهو عبادة الله وحده" - ليس بصحيح؛ لأن الله بيَّن أنه خلق الجن والإنس لعبادته، وليبتليهم بأنواع الابتلاء، وليعرفوه بأسمائه وصفاته كما تقدم ذكر ما يدل على ذلك كله، والله أعلم.
رابعًا: فلا ينبغي لك البحث وكثرة السؤال والاسترسال مع وساوس الشيطان الذي يريد أن يفسد بها دين المرء ودنياه وأخراه.


وأنصح بمطالعة استشارتنا:
• لماذا خلقنا الله؟
• وساوس قهرية وخوف مستمر
• وساوس قهرية مستمرة
• ضياع الصلاة والحياة بسبب الوسواس القهري
• الإجابة على أسئلة الملاحدة حول الغاية من الخلق



هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz7O18HEdHL