الشيخ/ صالح بن علي الوادعي
مسجد أبي بكر الصديق - صنعاء
16/8/1433هـ - 6/7/2012م
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله.. أيها الناس!
إني تأملت أحوال الناس؛ فوجدتهم إذا نزلت بهم النازلة، وإذا حلَّت بهم المصيبة لجئوا في دفعها وإزالتها إلى من ليس له قدرة في دفع ضُرٍّ عن نفسه، ولا رفع مصيبة ألمَّت به.. اتجهوا إلى الفقير، وطرقوا باب الضعيف، وتسارعوا إلى الحريص الشحيح {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء:100]، حرصوا على سؤال من يغضب إذا سُئل، وبُنَيَ آدم حين يُسّأل يغضب.
أحببت في هذه الجمعة أن أوجه نفسي وإخواني وأحبابي إلى الكريم الغني، المجيد الحميد، الذي خزائنه تعالى لا تنضب، وكرمه لا يُحرم منه مخلوق: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَه َا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].. {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].
أعيش معكم في هذه الجمعة مع اسم عظيم من أسماء ربنا الحسنى تبارك وتعالى، نَمر عليه كثيراً، وندعو به ربنا كثيراً؛ إنه اسم الكريم لربنا تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وقال الله جل وتعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6-8]، وقال الله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:3].
إن الله تعالى هو الكريم، صاحب الخير الكثير؛ فمن أكثر خيراً من الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].
هو الكريم الذي يسهل خيره، ويقرب تناول ما عنده؛ فليس بينه وبين عباده حجاب، وهو قريب لمن استجاب، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
هو الكريم الذي يعطي لغير سبب، بدأ خلقه بالنِعم، وختمها بالنِعم، العطاء منه، والتوفيق منه، لا يبالي ما أعطى، يعطي من احتاج ومن لا يحتاج، يعطي ويزيد، ويرزق من يشاء بغير حساب.
لا يعظم عليه كبير، ويعطي على القليل الكثير، «إن الرجل إذا تصدق من كسب طيب، ولا يقبل الله تعالى إلا الطيب؛ فإن الله تبارك وتعالى يتقبلها بيمينه، ثم يربيها كما يربي أحدكم فُلُّوه، حتى تصير كالجبل العظيم».
هو الكريم الذي إذا وعد وفَّى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
هو الكريم الذي لا يضيَّع من التجأ إليه، ولا يُضيِع عمل عامل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112].. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94].
إذا أعطى زاد على المُنى، أعطى أهل الجنة مناهم، زادهم تبارك وتعالى رضواناً، ولذذهم بالنظر إلى وجهه الكريم، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
يعطي قبل السؤال ويزيد: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
الأجواد والكرماء يتفاضلون؛ فمنهم من يعطي جِبلة، ومنهم من يعطي مراعاة لحق المتوسِل، والله تعالى يعطي بغير وَسيلة، ولكن يمنُّ على من يشاء من عباده، سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: «أرأيت إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني» [رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
من كرمه تبارك وتعالى: أنه يستحيي أن يرد يدي عبده صفراً إذا رفعها إلى ربه ومولاه تبارك وتعالى، جاء في الحديث عن سلمان رضي الله عنه قال: «إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم؛ يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً» [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، وقد روي مرفوع وموقوف، والموقوف أصح، ومثله لا يقال من قِبل الرأي]. يستحيي أن يرد يدي عبده صفراً، ولكن التفريط منا وفينا؛ فكم نلجأ إلى المخلوقين، وكم نطرق أبواب المخلوقين، ولا نطرق أبواب الله سبحانه وتعالى، وهو يتحبب إلينا تبارك وتعالى، ويتودد إلينا أن ندعوه، ويحبُّ ذلك منا جلَّ وتعالى؛ فإن من أعظم العبادات، ومن أعظم القربات أن يتضرع العبد لله تبارك وتعالى، وأن يَسكب دمعاته حين يسأل ربه، ويناجي ربه تبارك وتعالى.
لا خير إلا خير الله.. لا فضل إلا فضل الله تبارك وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام في دعاء التطير أن يقول العبد: «اللهم لا خير إلا خيرك».
عمَّ الجميع تبارك وتعالى بعطائه وفضله، فمن كرمه أمهل المكذب له، واستمرت عليه نعمته، وبكرمه جل وتعالى أَنظر إبليس وتركه وما اختار لنفسه، من كرمه ستر الذنب وغفره. بل بدل السيئات حسنات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
في الحديث القدسي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روى عن ربه تبارك وتعالى قال: «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات ثم بَين ذلك؛ فمن همَّ بحسنة؛ فمل يعملها كتبها الله حسنة كاملة، ومن عملها كتبها الله سبحانه وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف. وإذا همَّ بسيئة فلم يعملها -تركها من أجلِّ الله تبارك وتعالى- كتبها الله حسنة، وإن عملها كتبها الله سيئة، ثم يَسترها ويغفرها؛ فلا يهلك على الله إلا هالك»، لا يهلك على الكريم إلا هالك.
وانظر إلى هذا الكرم العظيم، والفضل المديد من الله تبارك وتعالى؛ إنه الغني الحليم الكريم، روى مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها؛ فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، ويوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم. -لا يستطيع أن ينكر- وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة؛ فيقول: يا رب! قد أعملت أشياء لا أراها هاهنا!! فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه»، وفي الحديث الآخر: «أن الله تبارك وتعالى يقول له: تمنَّى. فيتمنى حتى تنقطع به الأماني، فيذكره الله سبحانه وتعالى، وهو يقول: رضيت ربِّ.. رضيت ربِّ.. رضيت ربِّ، فيقال له: إنك لك مثلها ومثلها ومثلها ومثلها ومثلها -خمس مرات-». أيها الأحباب في الله! إنه كرم الكريم تبارك وتعالى.
من كرمه تبارك وتعالى: أنه يكتب الحسنات للصغير المميز، ولا يكتب عليه السيئات؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لقي رجلاً بالروحاء، فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت امرأة صبياً لها، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم. ولك أجر»، أما السيئات فقد جاء في الحديث: «رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يبلغ».
قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى في اسم الكريم: "إنه الذي يبدأ النعمة قبل الاستحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير استتابة، ويغفر الذنب، ويعفو عن المسيء، ويقول الداعي في دعائه: يا كريم العفو! فقيل: إن من كرم عفوه أن العبد إذا تاب عن السيئة محاها عنه، وكتب له مكانها حسنة".
من كرمه تبارك وتعالى: أنه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ومن كرمه أنه هو الذي يَمنُّ بالتوبة، ويتفضل بها، ثم يقبلها: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]؛ فمن الذي يهديك إلى التوبة؟ إنه الله، ثم يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].
يَمنُّ بها، ويتمنن على عباده بقبولها، ثم يتفضل بفرحه تبارك وتعالى بتوبة عبده: «إن الله تبارك وتعالى أشد فرحاً بتوبة أحدكم من رجل بأرض فلاة أضل فيها راحلته، وعليها طعامه وشرابه»، الله أشد فرحاً من هذا العبد الذي قال من شدة الفرح بعد أن رأى راحلته وقد أيس من الحياة: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح»، وهذا من كرمه تبارك وتعالى وفضله.
أيها الأحباب في الله!
تأملوا حديث الكرب، ما هي الأسماء التي يتوسل بها العبد إلى ربه عندما ينزل به الكرب؟!
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله الحليم الكريم.. لا إله إلا الله رب العرش العظيم.. لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم».
وعند الترمذي بسند صحيح عن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك، وإن كنت مغفوراً لك؟ قل: لا إله إلا الله العلي العظيم.. لا إله إلا الله الحليم الكريم.. لا إله إلا الله سبحان ربِّ العرش العظيم».
أسأل الله تبارك وتعالى الحليم الكريم أن يغفر ذنوبنا، وأن يَستر عيوبنا، وأن يُعاملنا بلطفه وكرمه ورحمته.
أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والسالكين طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون!
بعد أن تطوفنا في هذا الاسم العظيم؛ فما هو أثر هذا الاسم على العبد المؤمن؟
أول هذه الآثار: أن هذه الأسماء الحسنى تدعوا العبد إلى محبة ربه تبارك وتعالى، فهو ذو الجلال والجمال والكمال تبارك وتعالى؛ فإن النفوس السوية جُبِّلت على محبة من أَنعم عليها، ومن أَسدى إليها معروفاً، فهل أحد أسدى إلينا نعماً أعظم من الله سبحانه وتعالى؟ أفلا يحب هذا الكريم تبارك وتعالى؟
ثم السعي إلى شكره جلَّ وتعالى، وإفراده جل وعلا بالعبادة، وألا يكون من العبد إلا ما يرضاه مولاه، والمبادرة إلى التوبة.
ومن لوازم محبته تبارك وتعالى: الدعوة إلى محابِّه ومرضاته، والنهي عما يسخطه.
ومن لوازم ذلك أيضاً: محبة أوليائه، وبغض أعدائه.. كل ذلك من دلائل محبته.
ومن الآثار أيضاً التي يحققها هذا الاسم: أن تتعلق القلوب بالله وحده تبارك وتعالى، وأن تتوكل عليه، وتفوض أمورها إليه، وتطلب الحاجات منه وحده: «إذا سألت فاسأل الله».
أيها الناس!
لماذا لا نُعود أنفسنا أنه إذا ألمَّت بنا نازلة أن نلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ونترك العباد الفقراء؟!
هذا الأمر لا يفعله إلا القليل منا، كان بعض السلف يدعو الله تبارك وتعالى في كل شيء حتى إذا انقطع شِسْع نعله، فالجئوا إلى الله الكريم، وفوضوا أموركم إلى الله الحليم الغني.
هو الكريم الذي لا نهاية لكرمه، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض؛ سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الحي الذي لا يموت، ولذا يقول الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]؛ لأن كل المخلوقات تموت، وهو الحي الذي لا يموت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27].. {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219]، يسمع دعاءك، ويسمع صيحاتك، ويستجيب لأنَّاتك؛ إنه الله تبارك وتعالى الكريم. إذا اعتقدت ذلك وتيقنت أَورثك طمعاً فيما عنده تبارك وتعالى، وطمعاً في كرمه تبارك وتعالى، ينقطع رجاؤك من كل أحد إلا من الله تبارك وتعالى.
كما أنه يورث عند العبد كثرة دعاء الله سبحانه وتعالى في طلب حاجاته، حتى ولو منعت الإجابة فاعلم أنك على خير، وما منعك الله الإجابة إلا لخير يعلمه الله تبارك وتعالى لك؛ فقد يمنعك لحفظ دينك، وحفظ دنياك، وحفظ ولدك، لما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما من داع يدعو الله تبارك وتعالى إلا أعطاه إحدى ثلاثة: إما أن يستجيب له، وإما أن يدفع عنه من البلاء مثل ذلك، وإما أن يدخرها له يوم القيامة، ففرح الصحابة بهذا فقالوا: إذاً يا رسول الله نكثر، قال: الله أكثر!»، إذا أكثرتم فسوف يكثر الله تبارك وتعالى.
ينبغي إحسان الظن بالله سبحانه وتعالى، ولا تيأس من الدعاء؛ فإن من أعظم موانع الاستجابة الاستعجال، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يتعجل»، في طلب المخلوقين لا نتعجل، والمعاملة تبقى لسنوات، وطرق أبواب المسئولين يستمر لسنوات، والذلة للمخلوق تبقى سنوات، أما مع الله تبارك وتعالى فالأمر يختلف!!
وكيف يعجل؟ قال عليه الصلاة والسلام: «يقول: قد دعوت فلم أرَ يستجاب لي؛ فيترك الدعاء!»، لا تيأس من الدعاء؛ فإنك كلما ازددت دعاء لربك ازددت قرباً منه تبارك وتعالى؛ فالله قريب من الذي يدعوه.. الله قريب من الذي يلجأ إليه، ولن يخيب الله تعالى من دعاه ولجأ إليه تبارك وتعالى.
أيها الناس!
من أعظم ما يُكرم به العبد الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وهذا من كرم الله تعالى بعباده.
كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقولون وهم يحفرون الخندق:
"اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا"
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، وأي إهانة أعظم من المعصية! وأي إهانة أعظم من الفسوق! وأي إهانة أعظم من الكفر! نسأل الله تعالى أن يَمنَّ علينا بالهدى والإيمان: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15-16].
أيها الأحباب في الله!
تأملوا معي اقتران اسم الغني بالكريم تبارك وتعالى؛ فإنه كَرم من غني.. كَرم من حليم.. كَرم من عليم تبارك وتعالى؛ فهو محسن عزَّ وجل إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر؛ إن قُرب العبد من ربه لا يجلب له تعالى منفعة، ولا يدفع عنه الضر جل وعلا؛ لأنه هو الغني، فهو لم يخلقنا ليتكثر بنا تبارك وتعالى، ولم يخلقنا جل وعلا من ذِلةٍ، ولا لندفع عنه ضراً، ولا لنجلب له نفعاً تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56- 58].. {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111].. {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]؛ فإحسان العبد إنما هو إحسان لنفسه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7].. {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
واسمعوا إلى أشرف حديث لأهل الشام: «يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعونني، ولن تبلغوا ضري فتضرونني. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
الدعاء:...
منبر علماء اليمن: