الحمد لله ... وبعد
من ذكر قصة الغرانيق من المفسرين فإنما يذكرها تفسيرا لقوله تعالى في سورة الحج : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }
وقد اختُلف في ثبوتها اختلافا عظيما ومن الجدير بالذكر أن البخاري أخرج قصة سجود المشركين مع رسول الله حين قرأ عليهم سورة النجم بدون أي ذكر للغرانيق ... وما ترك البخاري -رحمة الله عليه- الرواية التي فيها ذكر الغرانيق إلا وفيها ما فيها ! ومن أراد الاستزادة في أمر هذه القصة روايةً فليقرأ ما في الرابط : http://majles.alukah.net/showpost.ph...2&postcount=71
والمهم الآن تفصيل وتوضيح كيف أن هذه القصة لا تتفق مع ظاهر الآيات التي تورد تحتها
وتمهيدا أقول إن التفسير الذي يوافق ظاهر الآيات موافقة تامة هو ما فصله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله أن إلقاء الشيطان المقصود به هو: إلقاء الشبهات والشكوك والوساوس العقدية المناقضة لما أخبر الله به كإلقاء الشيطان في قلوب المشركين لما سمعوا قوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ...} لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا : ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ! ومن أراد الاستزادة من كلام العلامة الشنقيطي فعليه بهذه الروابط: http://majles.alukah.net/showpost.ph...4&postcount=97
http://majles.alukah.net/showpost.ph...5&postcount=98
ولنلج الآن في أوجه مخالفة هذه القصة لظاهر الآيات في سورة الحج ... وهي عبارة عن قرائن لغوية لفظية ومعنوية تتفاوت قوة وضعفا ولكني رتبتها حسب ترتيبها في الآيات :
الوجه الأول:
قوله تعالى : {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان...} فهذا التركيب يوحي بتكرار وقوع هذا الأمر ومثل هذا قولك : كان الناس من قبل إذا اشتد عليهم المطر انهدمت بيوتهم . فلو لم يحدث هذا الأمر إلا مرة واحدة كما هو الحال في قصة الغرانيق لما كان من البلاغة أن تقول قولك هذا بل عليك أن تقول: لقد انهدمت بيوت الناس من قبلنا لما اشتد عليهم المطر ... فإذا اتضح هذا فإن قصة الغرانيق ليس لها نظير في شيء من أحداث السيرة النبوية ولا حتى في الموضوعات والواهيات !
وفي الآيات غير هذا قرائن أخرى دالة على معنى تكرار الوقوع وهذا لا يستقيم إلا مع تفسير الإلقاء بأنه إلقائ الشبه والوساوس والشكوك
فمن هذه القرائن قوله تعالى : {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض...} فهنا قال بصيغة المضارع "يُلقي" الذي يفيد تكرار الوقوع ولم يقل سبحانه : "ليجعل ما ألقى الشيطان"
الوجه الثاني :
قوله تعالى : {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} فيتحقق وصفهم بالظلم والشقاق وكونه بعيدا بتفسير الإلقاء بأنه مجرد شكوك ووساوس أكثر من تحققه بتفسير الإلقاء بأنه زيادة سمعوها سماعاً في قراءة الرسول ... أفليس من كفر لمجرد وساوس وشكوك أولى بوصفه بالشقاق البعيد ممن كفر لسماعه بأُذنه زيادةً مناقضة كل المناقضة لما قبلها وما بعدها من آيات ؟!
الوجه الثالث:
قوله تعالى : {وليعلم الذين أوتو العلم أنه الحق من ربك ...} فخص هنا الذين أوتوا العلم وهذا أوفق وأنسب وأقرب اتساقا مع تفسير من يفسر الإلقاء بأنه إلقاء الشبهات والشكوك والوساوس ... فهذا هو ما يختص به أهل العلم دون غيرهم أنه لا تزيدهم إثارة الشبهات إلا يقينا وثباتا
وقد أخبرهم ربهم من قبل أن كتابه منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات فإذا رأوا شيئا من هذا واقعا عمليا أن بعض الآيات تشكل على عامة الناس ويأتيهم فيها وساوس فهو بمثابة مصداق ما أخبرهم الله به من قبل أن كتابه منه آيات متشابهات جعلها الله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ... فيزدادوا إيمانا واطمئنانا إذا رأوا تطابق الواقع مع ما أخبرهم الله به من قبل من أن كتابه فيه آيات متشابهات فيعلموا أنه الحق فيؤمنوا به وتخبت له قلوبهم ...
أما لو سلمنا جدلا بتفسير الإلقاء كما حصل في قصة الغرانيق فلم يظهر لي أنا بعد تأمل طويل وجه كون هذا الأمر فيه زيادة لإيمان المؤمنين وزيادة في علمهم أنه هو الحق من ربهم فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم والإخبات هو الإطمئنان والخشوع
فلم يظهر لي تحقق هذه الحكمة وهي اطمئنان قلوب المؤمنين وزيادة خشوعهم بسبب وقوع هذا الإلقاء في قراءة النبي ثم نسخه وإبطاله وإحكام الله -سبحانه- لآياته الكريمة ...
والله تعالى أعلم
تنبيه :
الأوجه المذكورة ما هي إلا اجتهاد بشري في قرائن النص وسياقه
فمن رآني مصيبا فليدعُ لي ومن رآني مخطئا فليردّ علي بأدب وحلم وسأدعو أنا له كثيرا على أن أوقفني على أوهامي وأخطائي التي لا يسلم منها بشر !
وجزاكم الله خيرا