بسم الله الرحمن الرحيم
هذه بعض المختارات العلمية المتنوعة التي تمر بي ، وأجد أن صاحبها أجاد في توضيح مسألة تخطر ببال كثير من طلبة العلم أو غيرهم ، فأنقلها لتعم الفائدة ، ولكي أستفيد من تعليقات الإخوة الكرام :
قال الشيخ عبدالله رمضان في " الرد على الجديع " ، ص 111-115
عن مقولة الإمام أحمد : " من ادعى الإجماع فهو كاذب " التي احتج بها الجديع :
" الجواب الأول:
إثبات أن الإمام أحمد صرح بحجية الإجماع، وقال به في مسائل:
لقد صرح الإمام أحمد بحجية الإجماع وتحريم مخالفته، واحتج به في مسائل كثيرة:
وبيانه كما يلي:
1-فهذا القاضي أبو يعلى الفراء: وهو إمام الحنابلة في عصره، وكان عالم عصره في الأصول والفروع، ولد 380هـ، قال في كتابه (العدة في أصول الفقه): (الإجماع حجة مقطوع عليه، يجب المصبر إليها، وتحرم مخالفته.. وقد نصَّ أحمد –رحمه الله- على هذا في رواية عبدالله -ابنه- وأبي الحارث: "في الصحابة إذا اختلفوا لم يُخرج عن أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا: له أن يخرج من أقاويلهم؟! هذا قولٌ خبيث قول أهل البدع، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا"). انتهى
وقول الإمام أحمد هذا قد ذكره أيضاً الإمام ابن تيمية في "المسودة في أصول الفقه"، (ص282).
2-وقال القاضي أبو يعلى الفراء أيضاً عن الإمام أحمد: (وادعى الإجماع في رواية الحسن بن ثواب، فقال: أذهب في التكبير من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟
قال: بالإجماع، عمر وعلي وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس). انتهى
وعلّق القاضي أبو يعلى على ذلك قائلاً: (جعله إجماعاً، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه، وقد صرح به أبو حفص البرمكي فيما رأيته بخطه على ظهر الجزء الرابع من شرح مسائل الكوسج، فقال: قال أحمد بن حنبل في رواية محمد بن عبيد الله بن المنادى: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المصحف".
قال أبو حفص: فبان بهذا أن الصحابة إذا ظهر الشيء من بعضهم ولم يظهر من الباقين خلافهم: أنه عنده إجماع). انتهى كلام القاضي أبو يعلى.
وذكر هذه الرواية أيضاً الإمام ابن تيمية في "المسودة في أصول الفقه"، (ص283).
3-وقال الإمام داود في مسائله عن الإمام أحمد: (سمعت أحمد قيل له: إن فلاناً قال: قراءة فاتحة الكتاب –يعني: خلف الإمام- مخصوص من قوله: ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له) [الأعراف:204] فقال: عمن يقول هذا؟! أجمع الناس أن هذه الآية في الصلاة). انتهى.
وقال الإمام ابن تيمية: (فإنه –أي الإمام أحمد- قال في القراءة خلف الإمام: أدعي الإجماع في نزول الآية، وفي عدم الوجوب في صلاة الجهر). انتهى
قلت: وهذا إسناد صحيح بفضل الله تعالى، وهو صريح في أن الإمام أحمد يحتج بالإجماع، وينكر على من اخترع قولاً يخالف ما نقل عن الذين سبقوه.
4-قال عبدالله ابن الإمام أحمد، في مسائله التي رواها عن أبيه (ص443): (قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟ قال أبي: ينظر ما عمل به الصحابة، فيكون ذلك معنى الآية.
فإن اختلفوا: ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله، يكون العمل عليه). انتهى قلت: وهذا إسناد صحيح بفضل الله تعالى، وهو صريح في أن الإمام أحمد قطع وجزم بأن ما بلغنا من عمل الصحابة يكون هو معنى الآية، ولا يجوز الخروج عما بلغنا من عملهم، ويتعين تفسير الآية به والعمل بما يترتب على ذلك من أحكام شرعية.
5-وقال القاضي أبو يعلى في كتابه "العدة" في أصول الفقه: (إجماع أهل كل عصر حجة.. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية المروزي، وقد وصف أخذ العلم، فقال - القائل هو الإمام أحمد-: "ينظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن: فعن أصحاب، فإن لم يكن: فعن التابعين). انتهى
وذكر الإمام ابن تيمية قول الإمام أحمد في: "المسودة في أصول الفقه"، (ص285).
وكلام الإمام أحمد صريح في وجوب الالتزام بما نقل إلينا من أقوال الصحابة –رضي الله عنهم- وعدم جواز الخروج عنه، وصريح أيضاً في وجوب الالتزام وعدم الخروج عما نقل إلينا من أقوال التابعين؛ إذا لم نجد في المسألة قولا للصحابة رضي الله عنهم.
وهناك نصوص أخرى صريحة عن الإمام أحمد، احتج فيها بالإجماع، ولكن فيما ذكرنا الكفاية لمن عقل وتدبر.
الجواب الثاني: بيان معنى قول الإمام أحمد : (من ادعى الإجماع فهو كاذب) .
قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم). انتهى
وهنا نسأل ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل الإمام أحمد قصد بقوله هذا عدم جواز الإجماع في مسألة ما؟
الجواب: الإمام أحمد لم يقصد ذلك قطعاً؛ لأنه هو نفسه قد صرح بالإجماع في مواضع كثيرة، ذكرنا بعضها هنا.
السؤال الثاني: هل الإمام أحمد قصد أنه يمكننا مخالفة ما بلغنا من أقوال السابقين والخروج عنها؟
والجواب: أن الإمام أحمد لم يقصد ذلك قطعاً؛ لأنه هو نفسه صرح بأنه لا يجوز الخروج عن أقاويل الصحابة التي بلغتنا.
السؤال الثالث: إذا فماذا قصد الإمام أحمد بقوله: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم).
الجواب: واضح من كلام الإمام أحمد أنه وجّه النقد إلى دعوى الإجماع الصادرة من مثل بشر المريسي والأصم.
فهل تعلمون من هو "بشر المريسي" ؟!!
قال الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان": (بشر بن غياث المريسي مبتدع ضال، لا ينبغي أن يروى عنه ولا كرامة..
قال الخطيب: حكي عنه أقوال شنيعة أساء أهل العلم قولهم فيه، وكفره أكثرهم لأجلها.. قال أبو زرعة الرازي: بشر المريسي زنديق.. وكان إبراهيم بن المهدي لما غلب على الخليفة ببغداد حبس بشرا وجمع الفقهاء على مناظرته في بدعته.. وقال هارون الرشيد أنه قال: بلغني أن بشراً يقول: القرآن مخلوق، علي إن أظفرني الله به أن أقتله. ونقل عنه أنه كان ينكر عذاب القبر وسؤال الملكين والصراط والميزان). انتهى
وأما الأصم: فهو أبو بكر الأصم، شيخ المعتزلة.
قال الحافظ ابن رجب في آخر (شرح الترمذي): (وأما ما روي من قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فقد كذب" فهو إنما قال إنكارا على فقهاء المعتزلة الذين يدّعون إجماع الناس على ما يقولونه، وكانوا أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين). انتهى
وقال الإمام ابن تيمية: (إنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين). انتهى
وقال الإمام ابن الهمام في "التحرير في أصول الفقه" مع شرح تلميذه العلامة ابن أمير الحاج- : (ويحمل قول أحمد: "من ادعاه –أي الإجماع- كاذب" على استبعاد انفراد اطلاع ناقله عليه؛ إذ لو لم يكن كاذباً؛ لنقله غيره أيضاً، كما يشهد به لفظه في رواية ابنه عبدالله.. لا إنكار تحقق الإجماع في نفس الأمر؛ إذ هو أجل أن يحوم حوله، قلت: ويؤيده ما أخرج البيهقي عنه، قال:"أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة" يعني ( وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) [الأعراف:204] ، فهذا نقل للإجماع، فلا جرم أن قال أصحابه: إنما قال هذا على جهة الورع لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأن أحمد أطلق القول بحجة الإجماع في مواضع كثيرة). انتهى
وقال الإمام محمد بن الحسن البدخشي في شرحه على "منهاج الوصول إلى علم الأصول"، (2/613): (وأما قول أحمد: "من ادّعى الإجماع فهو كاذب" كأنه استبعد الاطلاع عليه ممن يدعيه دون أن يعلمه غيره، لا إنكار حجته). انتهى
قلت: والإمام أحمد عندما عَلِمَ أقوال الصحابة والتابعين نجده صرّح بالإجماع، ولم يجد حرجا في ذلك، كما سبق بأسانيد صحيحة عنه رحمة الله تعالى. وبذلك نفهم كلام الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة ".