قُصَّاص العصر: «مراتبهم، وظيفتهم، حاجة الناس إليهم، الاحتساب في الإنكار على أخطائهم، والتحذير من بعضهم»:
الحمدلله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه ... أما بعد
• فقد استفاض تحذير السلف رضي الله تعالى عنهم عن جنسٍ من القُصَّاص برزوا في زمانهم (وأي شيءٍ كان زمانهم!) اشتغلوا بوعظ عامة الناس وتتوِيْبِهم، فنفع الله بهم نفعاً عظيماً في أماثل وطوائف من دهماء الناس والنساء والفسقة وأصحاب الجاه والمال وغيرهم.
• نعم .. لكن ذلك لم يمنع السلف من التحذير من أخطائهم وزجرهم ، ثم التنفير عنهم.
ذلك لما وقع في كثيرٍ منهم من خروجٍ عن جادة العلم والهدي الصحيح في الوعظ (القص على الناس)؛ كالاستهانة بأحاديث رسول الله ، بذكر مالا يُعرف صحَّتها منها من ضعيفها، أوالتهوين في بعض المعاصي أوالتهرُّب من الإنكار عليها؛ لاستمالة الناس عما هو أعظم منها –زعموا-!
ثم ما قد يتبع ذلك من توابع مفسدة للقلوب والبواطن من تسلُّط (شهوة الرِّئاسة وحبِّ الظهور) على بعض هؤلاء المساكين، والترفُّع عن الحقِّ، وعدم التذلُّلِ لطلبه من أهله.
• وقد كان لهذه الشهوة العارمة (شهوة الظهور) توابع خطيرة أفسدت فضيلة القاصَّ وأثره، من تجرُّؤٍ على الفُتْيَا فيما لا يحسن، بل الخوض في كلِّ ما لا يحسنه أمثاله ممَّن هم عامَّةٌ عند أهل التَّحقيق والمعرفة بالعلم الصَّحيح، والتَّهوين من أمر العِلْم وأهله، والعقيدة، والفقه والحديث... إلى غير ذلك من توابع فاسدة.
لكن... في مقابل ذلك كان بعض أئمة السَّلَف يشيدون ببعض هؤلاء في قصصهم ووعظم؛ من جهة شدَّة أثرهم على النَّاس، وتذكيرهم إيَّاهم بالآخرة والصِّراط والحشْر، وحاجة النَّاس لمثل هذا، ممَّا لا ينكره منصفٌ.
ومع هذا كلِّه... فلم يحسن السكوت عن بعض هؤلاء الذين يتعدُّون ما يحسنون إلى مالا يحسنون.
• ابتداءاً .. فالقصُّ والوعظ والدَّعوة أسماء ووظائف قد جاءت به الشَّريعة، وطريقة الوعظ بالقصص والتخويف من النار، والترهيب من المعاصي ووعيدها =ليست خارجة عن هدي السلف؛ بل ليست خارجة عن منهج الأصلين، الكتاب والسنة؛ إذ كتاب الله وسنة النبي مليئان بالتربية، والوعظ، والدعوة بالقصص، والنُّصح، والتخويف، والترغيب، ونحو ذلك.
ولم يذمَّ القُصَّاص السلفُ ((بإطلاقٍ))؛ فلم يذمُّونهم والقصص والوعظ والدعوة والنصح (ممن بضاعته في العلم قليلة) =ليس منهياً عنها لذاتها، بل كان ذمُّهم لهم لما قد يحصل بسببه من محاذير تقدَّم الكلام عليها.
وإنما كان تحذيرهم والتحذير منهم على أخطاء وقعوا فيها، وهي التي وقع في مثلها أو اختها قُصَّاص العصر.
والسَّلف رحمهم الله لم يكونوا يمنعون من القصص مطلقاً (وهي الوعظ أوالدَّعوة إلى الله أو المحاضرة في مصطلحنا المعاصر)، ولا كانوا يحذِّرون من القُصاَّص لذات القصِّ، والمنقول عنهم في هذا كثيرٌ سيأتي نقله عنهم إن شاء الله في مشاركةٍ تاليةٍ بحوله وقوَّته.
• وثانيًا.. ينبغي تنزيل النَّاس منازلهم، وأن لا يُعطوا من الدرجات ما لا يستحقُّونها، ولا يجوز شرعاً تنصيبهم عليها، بلْه ارتقائهم هم فوقها، جهلًا بأقدار أنفسهم.
وقد كان النَّاس يسمُّونه قديمًا بـ(القاصِّ)، أو (المذكِّر)، ثمَّ حديثًا بـ((الواعِظ)) أو((الدَّاعيَّة إلى الله)).
• وثالثًا.. فإنَّ النَّاس المشتغلون بهذا الباب في ذا العصرأحد ثلاثةٍ؛ جاهلٍ، أوطالب علمٍ لم يبلغ المنزلة، أوعالمٍ.
فقاصٌّ له من العلم نسَب، ومنه سبب، ودفعه رِقَّة قلبه وحسن تربيته لنفسه على الاشتغال بهذا الأمر العظيم، وصانه علمه من الوقوع في الخلط.
وقاصٌّ طالب علمٍ، أوباحثٍ عنه، أومحبٍّ له، وسائلٍ لأهله، هو في الحال قريبٌ من الأوَّل.
وثالثٌ عامِّيٌّ في علم الشَّرع، ثمُّ هو على مراتب.
فشخصٌ جاهِلٌ، جهولٌ، جهَّالةٌ، جهِلٌ، قرأ بعد سنين من حياته أحاديث في الصُّحف والتقميشات وآتاه الله حسن البيان فصار يعظ النَّاس ونبغ وصار فلتةً على غفلةٍ من النَّاس، ولكن.. بما عنده من التَّقميش والقيل والقال، من غير نظر ولا تحقُّقٍ من صحيحه أوسقيمه، وأنَّى له ذلك، وفاقد الشَّيء لا يعطيه!
وشخصٌ (مثقَّف)؛ أوتي من أنواع الفنون والعلوم بطرفٍ، من غيرتأصيل صحيحٍ في علم الشَّرع، وله من البلاغة والبيان سهم، لكنَّه كالأوَّل لا يحقِّق ولا عنده الأهليَّة لذاك، فيخبط خبط عشواء، فيصيب مرَّة ويخطيء أخرى.
والمشاهد في أحوال هؤلاء في هذا العصْر أنَّ كثيرًا منهم قد اشتغل بوعظه ولمَّا يتأهَّل للعلم الشَّرعيِّ، فلمَّا ذاع صيتهم، وراجت بين الدَّهماء بضاعتهم =ظنَّ أنَّ كلَّ من أجاد الكلام والخطب وحسن البيان صار إمامًا للفتوى وحلِّ النِّزاع والخلاف في المعضلات، فتعدَّى ذلك منه إلى الخوض في كلِّ شيءٍ، وزان في نظره الخوض فيما له بريقٌ ورونقٌ عند النَّاس، مع غفلة عن المزالق التي تعترضه لقلِّة بضاعته وضعف نظره.
تصدَّر للتَّدريس كلُّ مهوِّس بليدٍ تسمَّى بالفقيه المدرِّسِوهذه الفتنة ( فتنة جهَّال القصَّاص المفتين) ظهرت جليَّة في هذا العصر في فئامٍ من قُصَّاص الأشرطة المسموعة المرئية والمحاظرات والفضائيَّات.
فحُقَّ لأهل العِلم أن يتمثَّلُوا ببيتٍ قديمٍ شاع في كلِّ مجلسِ:
لقد هزلت -حتَّى بدا من هزالها- كلاها وحتَّى سامها (كلُّ مفلسِ)!
ولا شكَّ ولا ريب ولا مرية أنَّه قد ينفع الله بهؤلاء كثيرًا في وعظهم وقصِّهم، فيتوب على أيديهم جماعة، ويستقيم فئات لا يوصل إليهم وإلى آذانهم إلاَّ من طريقهم (كالممثِّلات والرَّاقصات! والدَّهماء في الشَّارع) =كلُّ ذلك صحيحٌ موافقٌ للإنصاف.
وأيضًا.. قد نحسب –ولا نزكِّي على الله أحدًا- أنَّ كثيرًا من هؤلاء القصَّاص على خيرٍ وصِدْقٍ فيما هم مقبلون فيه.
• لكن..الإشكال والمعْضلة والبلوى حين يُسأل أمثال هؤلاء عن فتوىً لا يحسن جوابها فيفتي، أو يدخل في ضائقةٍ لا يتَّسع لها علمه القليل -إن كان له علمٌ شرعيٌّ مؤصَّلٌ أصلًا-، أويُشغل الناس عن باطلٍ بباطل مثله.
وممَّا سمعته من أحوال بعض هؤلاء من العجب، وما أكثر أعاجيب هذا الزمان؛ أنَّه جُمِعت له الجموع تحت خيمة فملأ (محاضرته) كلها بضحكٍ ومزحٍ وفكاهة وتهريج، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد!
ولم يعرِّج على ذكر آيةٍ من كتاب الله أو حديثٍ عن رسول الله أو كلامٍ لأحدٍ من أهل العلم؛ إلَّا شيئًا لا يكاد يُذكر في ذاك الخضم.
فأيُّ شيءٍ هذا من القصِّ الذي كان في زمن السَّلف؟!
لقد كان قصَّاص السلف يُبكون ويتوِّبون ويدعون إلى الله بذلك، فصرنا إلى زمنٍ نُضحِكُ ونهرِّج، ونتوِّب الناس بذلك!
• نعم.. لا بأس بتقريب الحق لهم بشيءٍ من الطرفة والفكاهة وإلانة الحديث وتبسيطه، أما أنْ تغدو (الدعوة إلى الله) فكاهة وضحكاً وسخرية وتهريجًا فهنا النكرة.
إذن.. لقد كان حقًّا على القاصِّ إذْ منَّ الله عليه ببسط آذان الناس له ورمي أبصارهم إليه =أن يطوِّر من قدراته، ويرفع من كفاءته بالطَّريقة الشَّرعية التي من سلكها فقد نجا وسُدِّد وأصاب.
ألا وهي تعلُّم العلم الشَّرعي الصَّحيح على أربابه، ولو كان ذلك الآن!
وإنِّي لأعلمُ أنَّ هذه طريقة مقلوبة في صعود (سُلَّمِ الأضواء)!؛ لكنَّها ضروريَّةٌ، إذ ما حيلة المضطرِّ إلاَّ ركوبها؛ إذْ كان الأجدر والأصل للقاصِّ قبل أن يتصدَّر ويشتهر أنْ ينهل من العلم ما يسدُّ به جوعة الناس وسؤالاتهم.
وكان الأولى بالقاصِّ أنْ يُصلِح من سلوكه إن كان فيه ما يشين (كحلق لحية وسماع غناءٍ ونحوهما)).. بدل تسويغ ذلك باسم الدَّعوة أوتبريره باسم الخلاف!
يا أيُها الرَّجلُ المعلِّم غيرَه هلَّا لنفسك كان ذا التَّعليم!نعم.. لا شكَّ أنَّ الوعظ ليس خاصًّا بالمعصومين من الخطايا.
فمن ذا الذي ما ساء قطُّ ومن له الحسنى فقط؟!وأيضًا:
ولو لم يعظ في النَّاس من هو مذنب فمن يعظ النَّاس بعد محمَّد؟!ولكن... دليل الفعل أوعظ في النُّفوس من القول.
ثمَّ.. إلى متى وأنت تتباكى وتبكي، وتعظ، وتقصُّ، وترغِّب وترهِّب، وتمرُّ عليك السُنون، وذيع صيتك في العالمين، ثمَّ.. أنت على المعاصي الظَّاهرة ما زلتَ مقيم؟!
أَمَا وقد تصدَّر عن جهلٍ أو قلِّة علمٍ أو تقصيرٍ في جوانب من السُّلُوك والهدي =فقد قامت عليه الحجَّة، وآن وقت الإصلاح للنَّفس قبل الغير!
• ومن أعجب العجب أنَّك تجد من بعض هؤلاء (جهلة القصَّاص المفتين) من يرمي المنْكِر عليهم تلك الأخطاء بالحسَد، أويطعن عليهم بالغيرة؟!
فهَبْ أنَّهم حَسَدَةٌ.. فعلى أيِّ شيءٍ حسدوه؟ آلأضواء الوهَّاجة؟! وغيورون على أيِّ شيءٍ؟! أعلى الشُّهرة والصِّيت السَّيءِ عند المحقِّقين المتبصِّرين!
ثمَّ ..بعد كلِّ هذا فهل ما أنكروه عليهم صحيحٌ أو لا؟!
• وأخيرًا... واجبٌ الإنكار على هؤلاء ونصحهم بالطُّرق الشَّرعيَّة، أو الأخذ بيدهم لمن بيده سلطانٌ عليهم، أو له إشرافٌ أومعرفةٌ لمن له إشرافٌ على موقعٍ أو ((قناة فضائيَّة)).
وكثيرٌ من العامَّة في علم شرع الله المتخصصون في غيره، كالطِّبِّ والهندسة والاقتصاد وغيرها من علوم الحياة =لو تكلَّم في علمهم من ليس بأهلٍ فخبط كخبطهم في علم الشَّرع لأنكروا عليه وسفَّهوه، وأخذوا على يده وحذَّروا منه ومن تخليطاته، والمخلِّط في دين الله وشرعه أولى بالتَّسفيه فيه والإنكار والأخذ على يده من غيره.
قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله: "من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثمٌ عاصٍ، ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضًا، قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: ويلزم ولي الامر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدلُّ الركب وليس له علمٌ بالطَّريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد النَّاس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطِّبِّ وهو يطبُّ الناس.
بل هو أسوأ حالًا من هؤلاء كلِّهم.
وإذا تعيَّن على وليِّ الأمر منْع من لم يحسن التَّطبُّب من مداواة المَرْضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقَّه في الدِّين؟!
وكان شيخنا [يعني ابن تيميَّة] رضى الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء؛ فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أَجُعِلْتَ محتسبًا على الفتوى؟!
فقلتُ له: يكون على الخَبَّازين والطَّبَّاخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسبٌ؟!!". انتهى كلامه رحمه الله.
• فيا أيُّها (القاصُّ أوالداعية أو المحاضر أوالواعظ) بجهلٍ وتخليطٍ: مسؤوليَّتك كبيرةٌ؛ فإمَّا اعتدلت وإلَّا اعتزلت.
أقف عند هذا مصلِّيًا ومسلِّما على النَّبيِّ الأمِّيِّ الأمين، وعلى آله وصحبه وتابعهم أجمعين إلى يوم الدِّين.
______________________________ __________________
تنبيه: آثرت تعميم الخطاب دون ذكر الأشخاص خذرًا من الوقوع والانجرار فيما لا تحمد عقباه، فأرجو من الإخوة موافقتي على ذلك، وعدم سياق الحديث إلى بينيَّات الطَّريق.