القول الفصل في عدم مشروعية وصل النافلة بالفرض :
الأحاديث الواردة في النهي عن وصل النافلة بالفرض دون خروج أو كلام :
(1) أخرج مسلم في صحيحه (3/601) حديث (883) :
عن عُمَرَ بن عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ ، أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ، ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلاَةِ . فَقَالَ : نَعَمْ . صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ . فَلمَّا سَلَّمَ الاْمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي . فَصَلَّيْتُ. فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ : لاَ تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ. إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلاَ تَصِلْهَا بِصَلاَةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ . فَإِنَّ رَسُولَ اللّهِ أَمَرَنَا بِذلِكَ . " أَنْ لاَ تُوصَلَ صَلاَةٌ بِصَلاَةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ " .
قال البيهقي ـ رحمه الله ـ في السنن الكبرى (2/191) : " وهذه الرواية تجمعُ الجمعةَ وغيرَها حيث قالَ : « لا تُوْصَلُ صلاةٌ بصلاة ٍ» ، ويجمعُ الإمامَ والمأمومَ " . أهـ
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/429) :
" ففي هذا ارشاد إلى طريق الأمن من الالتباس ، وعليه تحمل الأحاديث المذكورة . ويؤخذ من مجموع الأدلة أن للإِمام أحوالاً ؛ لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا يتطوع ، الأول اختلف فيه هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور ثم يتطوع ؟ وهذا الذي عليه عمل الأكثر ، وعند الحنفية يبدأ بالتطوع . وحجة الجمهور حديث معاوية .
ويمكن أن يقال : لا يتعين الفصل بين الفريضة والنافلة بالذكر ، بل إذا تنحى من مكانه كفى .
فإن قيل : لم يثبت الحديث في التنحي ، قلنا : قد ثبت في حديث معاوية « أو تخرج » ويترجح تقديم الذكر المأثور بتقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة .
وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام ، وتعقب بحديث « ذهب أهل الدثور » فإن فيه : « تسبحون دبر كل صلاة » وهو بعد السلام جزماً ، فكذلك ما شابهه . وأما الصلاة التي لا يتطوع بعدها فيتشاغل الإِمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان بل إن شاؤوا انصرفوا وذكروا ، وإن شاؤوا مكثوا وذكروا " . أهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في مجموع الفتاوى(24/202 ، 203) : " والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل في الجمعة ، وغيرها . كما ثبت عنه في الصحيح : « أنه ـ صلى الله عليه وسلّم ـ نهى أن توصل صلاة بصلاة ، حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام » فلا يفعل ما يفعله كثير من الناس ، يصل السلام بركعتي السنة ، فإن هذا ركوب لنهي النبـي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ، وفي هذا من الحكمة التمييز بين الفرض وغير الفرض ، كما يميز بين العبادة وغير العبادة .
ولهذا استحب تعجيل الفطور، وتأخير السحور، والأكل يوم الفطر قبل الصلاة ، ونهى عن استقبال رمضان بيوم أو يومين ، فهذا كله للفصل بين المأمور به من الصيام ، وغير المأمور به ، والفصل بين العبادة وغيرها . وهكذا تمييز الجمعة التي أوجبها الله من غيرها .
وأيضاً فإن كثيراً من البدع كالرافضة وغيرهم لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر، ويظهرون أنهم سلموا، وما سلموا، فيصلون ظهراً ويظن الظان أنهم يصلون السنة ، فإذا حصل التمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة ، وهذا له نظائر كثيرة ، والله سبحانه أعلم ". أهـ
وقال القشيري في كتابه السنن والمبتدعات ص (70) تحت باب ( في بدع ما بعد التسليم ) : " ووصل السنة بالفرض من غير فصل بينهما منهيٌّ عنه كما في حديث مسلم : فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج ، وظاهر النهي التحريم " . أهـ
(2) أخرج عبد الرزاق في مصنفه (2/432) حديث (3973) ، وأحمد في مسنده (5/368) ، وأبو يعلى في مسنده (13/107) حديث (7168) من طريق الأزرق بن قيس ، عن عبد الله بن رباح ، عن رجل من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ صلى العصر ، فقام رجل يصلي ، فرآه عمر فقال له : اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ : " أحسنَ ابنُ الخطاب ".
والأزرق بن قيس ، هو الحارثي البصري ، ثقة . التقريب (302) .
وعبد الله بن رباح ، هو الأنصاري المدني ، ثقة . التقريب (3307) .
قال الهيثمي في المجمع (2/489) : " رواه أحمد ، وأبو يعلى ، ورجال أحمد رجال الصحيح " .
وقال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/1/105) حديث (2549) ، و (7/1/522) حديث (3173) : " إسناده صحيح ، رجاله ثقات " .
وقال في (6/1/105) : " والحديث نص في تحريم المبادرة إلى صلاة السنة بعد الفريضة دون تكلم أو خروج " . أهـ
قلت : ولعل نهي عمر للرجل أنه أراد أن يتطوع بعد العصر وهو وقت نهي ، ولكن الشاهد هو قوله : " اجلس ، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل " . والله أعلم .
(3) أخرج أبو داود في سننه (1/611، 612) حديث (1007) وغيره ، عَنِ الأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : صَلَّى بِنَا إِمَامٌ لَنَا ، يُكْنَى أَبَا رِمْثَةَ ، فَقَالَ : صَلَّيْتُ هَذِهِ الصلاَةَ ، أَوْ مِثْلَ هَذِهِ الصلاَةِ ، مَعَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قَالَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ رضي الله عنهما ـ يَقُومَانِ فِي الصَّفِّ الْمُقَدمِ عَنْ يَمِينِهِ ، وَكَانَ رَجُلٌ قَدْ شَهِدَ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى مِنَ الصلاَةِ ، فَصَلَّى نَبِيُّ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ثُمَّ سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ، حَتى رَأَيْنَا بَيَاضَ خَدَّيْهِ ، ثُم انْفَتَلَ كَانْفِتَالِ أَبِي رِمْثَةَ ، يَعْنِي نَفْسَهُ ، فَقَامَ الرجُلُ الَّذِي أَدْرَكَ مَعَهُ التكْبِيرَةَ الأُولَى مِنَ الصلاَةِ يَشْفَعُ ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ فَهَزَّهُ ، ثُم قَالَ : اجْلِسْ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ صَلَوَاتِهِمْ فَصْلٌ ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَصَرَهُ ، فَقَالَ : " أَصَابَ اللهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ".
وإسناده ضعيف .
لكن صح من وجه آخر ـ كما تقدم ـ .
أنظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/1/325 ، 524) حديث (3173) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في تهذيب سنن أبي داود (7/429) : " قالوا : فمقصود عمر ، أن اتصال الفرض بالنفل إذا حصل معه التمادي وطال الزمن ظن الجهال أن ذلك من الفرض ، كما قد شاع عند كثير من العامة : أن صبح يوم الجمعة خمس سجدات ولا بد ، فإذا تركوا قراءة ( الم تنزيل ) قرأوا غيرها من سور السجدات ... " .
وفي وصل النافلة بالفريضة دون فصل تفويت لسنة أخرى وهي الأذكار التي تقال دبر الصلوات المكتوبة :
ومنها : حديث أهل الدثور ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : وفيه : ( تسبحون ، وتحمدون ، وتكبرون ، خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ) قال أبو صالح الراوي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، لما سئل عنكيفية ذكرهن ، قال : يقول : سبحانالله ، والحمد لله ، والله أكبر ، حتى يكون منهنكلهن ثلاثاً وثلاثين . أخرجه البخاري (843) في الأذان ، وفي (6329) في الدعوات ،ومسلم (595) ، (143) .
وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أيضاً ، قال:قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ،وحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين وقال تمام المائة : لا إلهإلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياهوإن كانت مثل زبد البحر " . رواه احمد في المسند (2/371) ، ( 2/483) ، ومسلم (597) .
وحديث كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ ، عن رسول الله ـ صلى اللهعليه وسلم ـ : قال : " معقبات لا يخيب قائِلُهن ـ أو فاعلهن ـ دبر كل صلاة مكتوبة :ثلاثاً وثلاثين تسبيحةً ، وثلاثاً وثلاثين تحميدةً ، وأربعاً وثلاثين تكبيرة ) رواهمسلم (596) ، والترمذي(2/249) ، والنسائي (3/75) .
وحديث زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال : " أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ،ويحمدوا ثلاثاً وثلاثين ، ويكبروا أربعاً وثلاثين، فأتى رجل من الأنصار فيمنامه ، فقيل له : أمركم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تسبحوا دبر كلصلاة ثلاثاً وثلاثين ، وتحمدوا ثلاثاً وثلاثين ، وتكبروا أربعاً وثلاثين ؟ قال:نعم . قال : فاجعلوها خمساً وعشرين ، واجعلوا فيها التهليل ( يعني : خمساً وعشرين)، فلما أصبح ؛ أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فذكر ذلك له ؛ قال:اجعلوها كذلك " . أخرجه الأمام احمد (5/184) ، والنسائي (3/76) ، والترمذي (3413) ،والحاكم (1/253) وقال : " صحيح الإسناد ".. وله شاهد من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ نحوه .
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ص (1/1/ 210 ، 211 ) .
وغيرها من الأحاديث :
قال ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث (3/267) : " سُمِّيت مُعَقّباتٍ لأنَّها عادَتْ مرَّة بعد مرَّة ، أو لأنَّها تقال عَقِيب الصَّلاة . والمُعقِّب من كلِّ شيء : ما جاءَ عَقِيبَ ما قبله ".
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/1/211) بعد أن خرج عدة أحاديث في الذكر بعد المكتوبة آخرها حديث كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ المتقدم الذكر : " قلت : الحديث نصٌّ على أن هذا الذكر إنما يقال عقب الفريضة مباشرة ، ومثله ما قبله من الأوراد وغيرها ، سواء كانت الفريضة لها سنة بعدية أو لا . ومن قال من المذاهب بجعل ذلك عقب السنة ـ فهو مع كونه لا نصَّ لديه بذلك ـ فإنه مخالف لهذا الحديث وأمثاله مما هو نصٌّ في المسألة ، والله ولي التوفيق " . أهـ
يتبع .. (2) ..