الحمد لله عالم الغيب والشهادة ، يعلم السر وأخفى ، فلا تخفى عليه خافية ، وصلى الله صلاة زاكية باقية على من خصه الله بالرتبة العالية في هذه الدار وفي الدار الثانية خير الورى نبينا محمد ، وعلى صحبه الكرام صدور الرواة العالية وبدور الثقات المتلالية ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما ، وبعد .
فلا يخفى على ذي فهم وإتقان وإنصاف من طلبة علم الحديث في هذا العصر أن أكثر وأكبر توسع وتسهُّلٍ وقع فيه المتأخرون والمعاصرون في نقد الحديث إنما كان في باب تقوية الأحاديث الضعيفة والواهية ، بمجموع طرقها ؛ وأن الدراسات التي كتبت في تأصيل علم هذا الباب وتفصيل قواعده وبيان ضوابطه لا ترتقي - بجملتها - إلى قدر الحاجة ، ولا تفي بالمطلوب ؛ وليس بخافٍ على هذا الصنف المشار إليه من الطلبة أن هذا الباب من علم النقد الحديثي (أعني باب التقوية بكثرة الطرق) يعدُّ واحداً من أصعب أبوابه وأخطرها أثراً .
ولما وجدت في هذا المنتدى المبارك ثلة طيبة من طلبة العلم النابهين وأهله المحققين رأيت أن من المناسب جداً أن أطرح عليهم هنا - شيئاً فشيئاً - ما جمعته في هذا الباب ، وأنا أعلم أنه لا جديد عندي في هذا الموضوع ، اللهم إلا أن يكون ذلك هو جمع أصول وفروع هذا العلم في موضع واحد - على قدر الإمكان والطاقة - معروضةً على هؤلاء المحققين الفضلاء ليحققوا كل ما أكتبه ، ويضيفوا كل ما أُغْفله ، ويردوا إلى الصواب كل ما شطح فيه القلم ، ويُبطلوا بالحق كل ما اصطنعه الوَهَم ، وكفى بهذا المطلب غاية ومقصدا .
وأنتظر من إخواني في هذا الموضوع الاعتناء الذي يستحقه - بسبب خطورته - ، وأرجو من الله أن يسددنا ويوفقنا إلى الحق في كل ما نسطره هنا وفي أي موضوع آخر ، وما توفيقنا إلا بالله .
وهذا موضع الشروع بالمقصود ، فأقول سائلاً الله التسديد والقبول :
التنبيه الأولافتقار منهج أكثر المتأخرين والمعاصرين إلى تأصيل مسألة التقوية تأصيلاً دقيقاً كافياًإن من طريقة أئمة الحديث وجهابذة علم العلل أنهم يقوون أحياناً حديث الراوي الضعيف إذا ورد من طرق وتدبروا تلك الطرق وفحصوها بثاقب نظرهم وعميق خبرتهم وواسع اطلاعهم وشديد فطنتهم، ثم علموا بذلك أن تلك الطرق ليست راجعة إلى أصل واحد، وليس تعددها ناشئاً عن وهم بعض الضعفاء، وليس فيها ما يمنع من تقوية الحديث بمجموعها، بل فيها ما يقتضي التقوية.
وهذا كما ترى أمر يعجز عنه الناس كل الناس إلا من وهبه الله علماً غاية في السعة والدقة والإتقان، وفطنة نهاية في الحذق والنباهة وقوة الملاحظة.
وهذا الأمر إنما هو في الحقيقة اختصاص علماء العلل؛ فإن لوظيفتهم مجالين ولفروسيتهم ميدانين؛ وكلاهما خروج عن الأصل العام العريض والقاعدة الأولية الواسعة، لقواعد تقتضي ذلك الخروج وقرائن توجبه.
أما أول الميدانين فتضعيف حديث الثقة، لمعرفة أنه واهم فيه.
وأما ثانيهما فتقوية حديث الضعيف لاكتشاف أنه حفظه.
ولكن ما الذي حصل في الأعصر المتأخرة في مرويات الضعفاء؟ أو ما الذي صنعه المتساهلون من المتأخرين فيها؟
الذي حصل هو تساهل في تقوية الحديث الضعيف بمجموع طرقه، وجرأة في الحكم على الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانتحال لمقام ومنصب أئمة الحديث وكبار علماء العلل؛ وتكلف في الارتقاء إلى مقام رفيع بعيد.
ولقد كاد الأمر أن يكون سهلاً وأوشك الخطب أن يكون يسيراً، لو كان لهؤلاء ضوابط معلومة وقواعد مقررة، في هذا الباب؛ أعني باب التقوية بكثرة الطرق؛ سواء كانت هذه القواعد والضوابط على طريقة المتأخرين، أو على منهج المتقدمين؛ فالمهم أن يكون هناك قواعد تضبط المسألة حتى لو كان في هذه القواعد نظر !.
ولكن الغريب أن ترى كثرة من يتجشم عناء هذا الأمر فيقوي بكثرة الطرق بلا قواعد محررة عنده، لا من اجتهاده ، ولا من تقليده لغيره ؛ أليست هذه جرأة عجيبة أو غفلة غريبة؟!
المطالع لأكثر التخريجات اليوم يقرأ تخريجاً مطولاً للحديث، فيتابع الكاتب في تخريج ذلك الحديث فيراه منضبطاً في أكثر ما يقوله ، ولو على طريقة المتأخرين ، في الأقل ؛ ثم يستمر الأمر على هذه الوتيرة المشتملة على قدر طيب من الانضباط العلمي - بل العزْويّ! - إلى أن يصل إلى مقصد الأمر وغايته وثمرته ونهايته ، ويدنو من أخطر مرحلة في البحث ، وهي مرحلة الحكم على الحديث ، فتراه هنا – وهذا موطن الاستغراب – يتحلل من قيوده السابقة ويتخلص من ضوابطه المتقدمة ، إلا قليلاً مما لا يكاد يذكر ، فيقفز ويقول بكل جرأة : فالحديث حسن بمجموع طرقه على أقل أحواله ؛ أو يقول : فالحديث صحيح بمجموع طرقه ، أو نحو ذلك من عبارات تثبيت الحديث بمجموع أسانيده ؛ فلا هو يذكر دليلاً للتقوية ولا هو يحيل على قاعدة أو قواعد لهذا الأمر الخطير ؛ ولا هو يبين كيف توصل إلى هذا الحكم؟!
ترى لو قال بدلاً من عبارة التقوية المذكورة : (فالحديث ضعيف ولا تصلح طرقه المذكورة لتقويته، كما يظهر لمن تدبرها من أهل هذا الفن)، أقول لو قال هذا الكلام وذهب هذا المذهب فهل سيختلف الأمر عند القارئ المقلد شيئاً؟
إن ذلك القارئ يقرأ في الحالتين حكماً لا يدري كيف تم التوصل إليه ! .
بل لو حوقق مثل ذلك المخرِّج نفسه - فضلاً عن ذلك القارئ - واستُفسِر عن كيفية توصله إلى ذلك الحكم فإنه يندر أن يوجد عنده من علم تفاصيل هذا الباب ما فيه مقنع ! ، والله المستعان .
يــُـتــبع بـغـيره بإذن الله وتــوفــيــقه--------------