لما تسول المتكلمون في سؤال أدوات فهم أصول الدين على الفلاسفة بعد مشروع الترجمة غير المشروع الذي تولى كبره المأمون- سامحه الله- كان من جراء ذلك نشوء معركة جبرية بين الوحي والعقل
فتفتقت عبقرية الغزالي عن "قانون التأويل" (!) والذي عبر فيه عن ضرورة التأويل لوجود التصادم بين المنقول والمعقول..وتبعه على التقنين في حل هذه المعضلة المصطنعة تلميذه ابن العربي فصاغ قانوناً آخر للتأويل ثم جاء خاتمة المتكلمين ورأسهم المهذب لما سبقه من "كلام"
وما أكثر "الكلام"! فكتب قانونه الكلي الذي احتفى به من بعده من الأشاعرة ونحوهم..
وهذا القانون الكلي هو الذي دكدكه الإمام الحبر :شيخ الإسلام ابن تيمية..بقلمه السيال
حتى أتى على أركانه من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم..
وقد جعل الرازي القسمة في قانونه رباعية..في حال تخالف العقل والنقل
1-إما أن يجمع بينهما وهو محال لكونه جمعا بين النقيضين
2-وإما أن يردا جميعا لأنه رفع للنقيضين معا وهو محال!
3-وإما أن يقدم النقل وهو محال..لأن العقل مقدم عليه لكونه الأصل الذي به عرف النقل
4-فلم يبق إلا تقديم العقل!
قال الإمام ابن تيمية معلقا على قوانيهم التي خالفت بين الوحي والعقل"يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيا جاءت به الأنبياء عن الله فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه"
وإليك الرد على هذه الأعجوبة..بأمر يسير معقول لا يتطلب فلسفة ولا منطقا
شبه العلماء من المتكلمين -كالغزالي- وممن هم على جادة السلف-كابن تيمية-
الوحي مع العقل..كالنور مع العين..وهذا التشبيه وجيه ودقيق وله من كلام الله شاهد
كما في قوله تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
فسمى ضلالة القلوب عمى..تشبيها للعقل بالعين..ووصف سبحانه وحيه بأنه نور كما في قوله "قد جاءكم من الله نور"
فمن ألغى دلالة العقل..كأنه عمد إلى عينه وفقأها..
ومن ألغى دلالة النص كأنما هو في ليل حالك إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور..ومن كان كذلك-أعني في هذا الليل الحالك- أنى لعينه أن تبصر ولو كانت عين زرقاء اليمامة
فإذا أبصرت العين جسما ليس له مُثل سابقة لم تكذّب نفسها
بل صدقت بالشيء على ما هو عليه دون اتهام للنور الساقط عليه بأنه موهم
وبهذا تدرك أن حكاية تقديم العقل على النقل أي تطويع الوحي ليكون موافقا للعقل قسرا
بتأويل أو غيره..هي كالقول بتقديم العين على النور!..وقد علمت أن العين لا قيمة لها من غير نور..أما النور فيبقى نورا يسترشد به من أراد..
فالعين آلة للإدراك..والعقل آلة للفهم..
ولا يقال لا قيمة للنور من غير عين..لأن النور واحد والأعين كثيرة
فمن عميت عينه ..كان هو المعمي وحده..
وفي تشبيه العقل بالعين دقة تظهر في أن تشبيهه بالسمع لا يستقيم
لأن العين لها اختيار في ما تبصره..كما العقل تماما..
ولهذا قال تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم "
فإذا علمت هذا..أدركت أن لا تخالف بين العقل والنقل..وهذا حاصل رد ابن تيمية عليهم..
فقال لهم :من قال لكم إن العقل السليم يخالف النقل الصحيح؟..هذا غير وارد أصلا
والحمد لله من قبل ومن بعد