بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسعد الله أوقاتكم بكل خير :



شرح (( الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف لأبي محمّد عبد الله بن محمّد بن السيد البطليوسي الأندلسي ))
لصاحب الفضيلة شيخنا العلامة
عبد الله بن عبد الرحمن بن غُدَيَّان
- سلّمه اللهُ -


الدَّرْسُ الأَوَّلُ [ 7-4-1428 هـ ] :


http://liveislam.net/browsearchive.php?sid=&id=35517


قال أبو محمّد عبد الله البطليوسي - رحمه الله تعالى - :
ذكر الأسباب الموجبة للخلاف كم هي ؟
أقول وبالله أعتصم واليه أفوض في جميع أمري وأسلم إن الخلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنها .
الأول : منها اشتراك الألفاظ والمعاني .
والثاني : الحقيقة والمجاز .
والثالث : الإفراد والتركيب .
والرابع : الخصوص والعموم .
والخامس : الرواية والنقل .
والسادس : الإجتهاد فيما لا نص فيه .
والسابع : الناسخ والمنسوخ .
والثامن : الإباحة والتوسع .
ونحن نذكر من كل نوع من هذه الأنواع أمثلة تنبه قارئ كتابنا هذا على بقيتها إذ كان استيفاء جميع ذلك من المتعذر على من حاوله وبالله التوفيق لا رب غيره .


الباب الأول :
في الخلاف العارض من جهة اشتراك الألفاظ واحتمالها للتأويلات الكثيرة

هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : اشتراك في موضوع اللفظة المفردة .
والثاني : اشتراك في أحوالها التي تعرض لها من إعراب وغيره .
والثالث : اشتراك يوجبه تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض .
فأما الاشتراك العارض في موضوع اللفظة المفردة فنوعان :
اشتراك يجمع معاني مختلفة متضادة واشتراك يجمع معاني مختلفة غير متضادة .
فالأول كالقرء ذهب الحجازيون من الفقهاء الى أنه الطهر وذهب العراقيون الى أنه الحيض ولكل واحد من القولين شاهد من الحديث ومن اللغة

أما حجة الحجازيين من الحديث فما روي عن عمر وعثمان وعائشة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا الأقراء الأطهار .
وأما حجتهم من اللغة فقول الأعشى ... وفي كل عام انت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا ... مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا

وأما حجة العراقيين من الحديث فقول النبي للمستحاضة اقعدي عن الصلاة أيام أقرائك .
واما حجتهم من اللغة فقول الراجز ... يا رب ذي ضغن علي فارض ... له قروء كقرء الحائض ... .
وقد حكى يعقوب بن السكيت وغيره من اللغويين أن العرب تقول :
أقرأت المرأة اذا طهرت وأقرأت اذا حاضت وذلك أن القرء في كلام العرب معناه الوقت فلذلك صلح للطهر والحيض معا .
ويدل على ذلك قول الشاعر ... شنئت العقر عقر بني شليل ... اذا هبت لقارئها الرياح ... .
وقد احتج بعض الحجازيين لقولهم بقوله تبارك وتعالى : ﴿ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [ سورة البقرة الآية 228 ] فأثبت الهاء في ثلاثة فدل ذلك على أنه أراد الأطهار ولو أراد الحيض لقال ثلاث قروء لأن الحيض مؤنثة
وهذا لا حجة فيه عند أهل النظر وانما الحجة ما قدمناه وانما لم تكن فيه حجة لأنه لا ينكر أن يكون القرء لفظا مذكرا يعنى به المؤنث ويكون تذكير ثلاثة حملا على اللفظ دون المعنى كما تقول العرب جاءني ثلاثة أشخص وهم يعنون نساء .
والعرب تحمل الكلام تارة على اللفظ وتارة على المعنى ألا ترى الى قراءة القراء : ﴿ بَلَى قد جاءتك آيَاتِي فكذّبت بها واستكبرت ﴾ [ سورة الزمر الآية 59 ] بكسر الكاف والتاء وفتحهما .
ووقوع الأسماء على المسميات في كلام العرب ينقسم أربعة أقسام :
أحدها : أن يكون المسمى مذكرا واسمه مذكر كرجل يسمى بزيد أو عمرو .
والآخر : أن يكون المسمى مؤنثا وأسمه مؤنث كإمرأه تسمى فاطمة
والثالث : أن يكون المسمى مؤنثا واسمه مذكر كإمرأة تسمى جعفر وزيد قال الشاعر ... يا جعفر يا جعفر يا جعفر ... ان أك دحداحا فأنت أقصر ... أو أك ذا شيب فأنت اكبر ... غرك سربال عليك أحمر ... ومقنع من الحرير أصفر وتحت ذاك سؤاة لو تذكر ... .
والرابع أن يكون المسمى مذكرا واسمه مؤنث كرجل يسمى طلحة وحمزة .
وهذا لا يخص الأسماء الأعلام دون الأجناس والأنواع .
وهكذا مذهب العرب في الصفة والموصوف فربما كان الموصوف مطابقا لصفته في التذكير والتأنيث كقولهم هذا رجل قائم و هذه امرأة قائمة .
وربما كان مخالفا لصفته في التذكير والتأنيث كقولهم : رجل ربعة وعلامة ونسابة .
وفي المؤنث: امرأة حاسر وعاشق .
قال ذو الرمة ... ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه مي حاسرا كاد يبرق ... فقد تبين أنه لا حجة في دخول الهاء في ثلاثة .
ومن الألفاظ المشتركة الواقعة على الشيء وضده قوله تعالى فأصبحت كالصريم .
قال بعض المفسرين معناه كأنهار المضيء بيضاء لا شيء فيها .
وقال آخرون كالليل المظلم سوداء لا شيء فيها .
وكلا القولين موجود في اللغة أما من قال كالنهار المضيء فحجته قول زهير:
بكرت عليه غدوة فرأيته ... .
قعودا لديه بالصريم عواذله ... يعني الصباح .
وأما من قال كالليل فحجته قول الراجز تهوي هوي أنجم الصريم .
وقال آخر ... كأنا والرحال على صوار ... برمل خزاق أسلمه الصريم ... .
وقال بعضهم معناه انحسر عنه الرمل وقال قوم معناه خرج من الليل وانجلى عنه كما قال النابغة ... حتى غدا في بياض الصبح منصلتا ... يقرو الأماعز من لبنان والأكما
وانما سمي كل واحد منهما صريما لأنه ينصرم اذا وافى الآخر .
والمعنى أيضا يشهد لكل واحد من القولين لأن العرب تقول لك بياض الأرض وسوادها يعنون بالبياض ما لا عمارة فيه وبالسواد ما فيه العمارة فهذا ما يحتج به لمن ذهب الى معنى البياض .
ومن ذهب الى معنى السواد فانما أراد أنها احترقت بريح صر أو نار كقوله تعالى : ﴿ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ﴾ [ سورة البقرة الآية 266 ] .
ومن هذا النوع قول أبي بكر رضي الله عنه : طوبى لمن مات في النأنأة فانه يحتمل أن يريد أول الاسلام عند قوة البصائر قبل وقوع الخلاف ويحتمل أنه يريد به آخر الإسلام اذا ضعفت البصائر وكثرت البدع والخلاف
ويدل على صحة المعنيين جميعا قوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الأسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء )) .
والنأنأة عند العرب الضعف لا يخص الصغر دون الكبر .
قال امرؤ القيس في ذلك ... لعمرك ما سعد بخلة آثم ... ولا نأنأ يوم الحفاظ ولا حصر ... .
وتأوله أبو عبيد على أنه أراد به أول الأسلام وليس في لفظ الحديث ما يقتضي ذلك على أن بعض الرواة قد روى في النأنأة الأولى فان كان هذا محفوظا فالقول ما قال أبو عبيد .
ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم : (( قصوا الشوارب وأعفوا اللحى ))

قال قوم معناه وفروا وكثروا وقال آخرون قصروا وانقصوا وكلا القولين له شاهد من اللغة .
أما من ذهب الى التكثير فحجته قوله تعالى : ﴿ حَتَّى عَفَوْا ﴾ [ سورة الأعراف الآية 95 ]
وقول جرير ... ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات اللحم كوم ... .
طزك ... .
وأما من ذهب الى الحذف والتقصير فحجته قول زهير ... تحمل أهلها منها فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء ... .
فهذه جملة من اللفظ المشترك الواقع على معان مختلفة متضادة
...إلخ.

يتبع - إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى - .