بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه , وبعد :
فإن هُناك _ وللأسف _ حقيقةٌ تاريخيةٌ مغلوطةٌ , يُرددها كثيرٌ من العُلماء ؛ إما عن جهلٍ _ ولا أظُن ذلك _ وإما تبعًا لأهواء النفس , وهي أن جوهر الشجار بين الصحابيين الجليلين أمير المؤمنين و خليفة المسلمين علي بن أبي طالب " رضي الله عنه " ووالي الشام مُعاوية بن أبي سُفيان " رضي الله عنه وعن أبيه " هو حول أمر الخلافة , وأن مُعاوية " رضي الله عنه " أرادها لنفسه وقاتل عليها , وللأسف ردد كثيرٌ من طلبةِ العلم فضلاً عن العوام هذه الكلام , دون التثبت والتحري من ذلك , والله المُستعان ! .
وفي هذا المقال المتواضع _ بإذن الله جل وعلا _ سأوضح حقيقة الشجار الذي دار بينهما " رضي الله عنهما " وغفر الله لهما ولجميع المُسلمين ؛ وإليك البيان أخي الكريم :
_ بدأت أحداث الشجار بعد استشهاد أمير المؤمنين عُثمان بن عفان " رضي الله عنه " يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة [ الطبقات الكبرى / ابن سعد / ( 3 / 31 ) ] .
حيثُ أن مُعاوية " رضي الله عنه " كان يرى أن عليه مسؤولية الانتصار لعُثمان " رضي الله عنه " والقود _ القصاص _ من قاتليه , فهو ولي دمه , والله يقول : " ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سُلطاناً فلا يُسرف في القتل إنه كان منصوراً " [ الإسراء : 33 ] .
فمُعاوية " رضي الله عنه " يُريد القود _ القصاص _ من قتلة عُثمان " رضي الله عنه " , فإذا صح ذلك , فإن الشجار بين أمير المؤمنين علي ووالي الشام مُعاوية " رضي الله عنهما " [ لم يكن سببه و منشؤه القدح في خلافة أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " وأحقيته بالخلافة والولاية على المُسلمين , فقد كان هذا محل إجماع بينهم ] [ الدولة الأموية / / ص99 _ 100 ] .
إذاً ؛ فمسألة الخلافة التي يُرددها البعض , حقيقةٌ باطلةٌ , اسمع ماذا يقول ابن حزم " رحمه الله " يقول : " ... ولم يُنكر مُعاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة , ولكن اجتهاده أدّاه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عُثمان على البيعة , ورأى نفسه أحق بطلب دم عُثمان ... وإنَّما أخطأ في تقديمه _ أي تقدم القود على المُبايعة _ ذلك على البيعة فقط " ا.ه [ الفصل في الملل والأهواء والنحل / (4 / 160 ) ] .
فالمسألة ؛ هي أن مُعاوية " رضي الله عنه " رأى أنهُ أحق الناس بالمُطالبة بدم عُثمان " رضي الله عنه " , وبالمُقابل رأى أن مُبايعة أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " لن تتم حتى يُنفذ الحد في القتلة , ويُسانده في ذلك أهل الشام .
فمُعاوية " رضي الله عنه " لم يدَّعي الخلافة _ كما يقول البعض _ بل هو مُقِرٌ أنَّها من حق أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " ؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية " رحمه الله " : " ... ومُعاوية لم يّدعِ الخلافة , ولم يُبَايع لهُ بها حين قاتل عليًا _ يقصد الخلافة _ , ولم يُقاتل _ أي مُعاوية _ على أنهُ خليفة , ولا أنهُ يستحق الخلافة , ويقرون لهُ بذلك _ أي أن جُند مُعاوية مقرون بالخلافة لعلي _ , وقد كان مُعاوية يُقر بذلك لمن سأله عنه ... " ا.ه [ مجموع الفتاوى / ( 35 / 72 ) ] .
فعن أبي مُسلم الخولاني " رحمه الله " أنهُ قال لمُعاوية " رضي الله عنه " : أنت تُنازع عليًا أم أنت مثلهُ ؟ , فقال : لا والله إني لأعلمُ أنَّهُ أفضل منّي وأحق بالأمر منّي , ولكن ألستم تعلمون أن عُثمان قُتل مظلُومًا , وأنا ابن عمه والطالبُ بدمه , فاتوه فقولوا لهُ , فليدفع إليَّ قتلة عُثمان , وأسلم لهُ _ أي أُبايعه _ , فأتوا عليًا , فكلموه فلم يدفعهم إليه _ أي لم يُرسل القتلة لمُعاوية _ ا.ه [ سير أعلام النبلاء / الذهبي / ( 3 / 140 ) ] .
_ فهذا دليل قاطع وجازم على أن مُعاوية " رضي الله عنه " لم يكن طالبًا للخلافة , وإنَّما اجتهد في قضية القود .
ولا يظن ظان من النص السابق أن أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " لم يُسلّم القتلة لمُعاوية " رضي الله عنه " , لأنهُ متواطئ مع القتلة أو ليَغيظ مُعاوية " رضي الله عنه " ...الخ , حاشا لله , ولكن السبب في ذلك أن الأمور غير مُستقرة في المدينة , كما أن القتلة كُثر وليس لأمير المؤمنين " رضي الله عنه " القُدرة على السيطرة عليهم , فهو ليس بأقل حرص من مُعاوية " رضي الله عنه " على إقامة الحد على القتلة , ولكن الوضع خارج عن السيطرة والأمن غير مُستتب والموازين ليست في أنصابها , وهُنالك ما يُدلل على كلامي هذا . ففي أول يوم من خلافته " رضي الله عنه " , ذهب إليه طلحة والزُبير " رضي الله عنهما " , وطالباه بإقامة الحد على القتلة , وهو نفسه يُريد ذلك ومُقتنع به , ولذلك قال لهما : " يا إخوتاه إني لستُ أجهل ما تعلمون , ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم ؟! _ يقصد القتلة _ , ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم , وهم خلالكم _ أي يعيشون بينكم _ يسمونكم ما شاءوا _ أي مُسيطرون عليكم _ فهل ترون موضعًا لقُدرةِ على شيءٍ مما تُريدون ؟ قالوا : لا , قال : فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه أبدًا " [ الكامل في التاريخ / ابن الأثير / ( 3 / 195 ) ] .
هذا أولاً ؛ ثم ثانيًا أن تنفيذ الحدود هو من خُصوصيات أمير المؤمنين " رضي الله عنه " , وليس لوالي الشام مُعاوية " رضي الله عنه " أن يتدخل في شؤون الخلافة إلا بالنُصح والمشورة , والله أعلم .
وأعتقد , والله أعلى وأعلم , أن أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " لو حاول تنفيذ حد القصاص من القتلة في ذلك الوقت بناءً على رغبات المُطالبين , لاستُبيحت مدينة رسول الله " صلى الله عليه وسلم " أكثر مما اُستبيحت عند مقتل أمير المؤمنين عُثمان " رضي الله عنه " , والذي يُعارضني في هذا القول , فليتأمل النص السابق ويُدقق في الكلمات , وسيخرج بنتيجة مُفادُها والله أعلم , أنهُ لو فعل ذلك أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " _ يعني أقام الحد على القتلة _ لحدثت مصائب أعظم مما حدث في وقعة الجمل وصفين .
_ ونستكمل حديثنا , يقول إمام الحرمين الجويني " رحمه الله " : " إن مُعاوية و إن قاتل عليًا , فإنهُ لا يُنكر إمامته ولا يدَّعيها لنفسه , وإنَّما كان يطلب قتلة عُثمان ظانًا أنهُ مُصيب , وكان مُخطئًا " ا.ه [ لمع الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة / ص115 ] .
_ إذاً ؛ [ منشأ الخلاف لم يكن قدحًا في خلافة أمير المؤمنين علي , وإنَّما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عُثمان , ولم يكن خلافهم في أصل المسألة , وإنَّما في الطريقة التي تُعالج بها هذه القضية , إذ كان أمير المؤمنين علي موافقًا من حيثُ المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عُثمان , وإنَّما كان رأيه أن يُرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور, واجتماع الكلمة , وهذا هو الصواب ] ا.ه [ مجموع الفتاوى / ( 35 / 72 ) ] .
_ فجوهر أو حقيقة الشجار لم يكن حول الخلافة , وقد أثبتنا ذلك بالأدلة القاطعة الجازمة , فنقطة الشجار أو الخلاف الأولى هي حول القود من القتلة , أما النقطة الثانية وهي مُبايعة والي الشام مُعاوية " رضي الله عنه " وأهل الشام معه , لأمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " .
يقول ابن كثير " رحمه الله " : [ والصحيح أن الخلاف بين علي ومُعاوية " رضي الله عنهما " كان حول مدى وجوب بيعة مُعاوية وأصحابه لعلي قبل توقيع القصاص على قتلة عُثمان أو بعده , وليس هذا في أمر الخلافة في شيء , فقد كان رأى مُعاوية ومن حوله من أهل الشام أن يقتص علي من قتلة عُثمان , ثم يدخلون بعد ذلك في البيعة ] ا.ه [ البداية والنهاية / ( 8 / 129 ) ] .
فالسبب في الخلاف بين أهل الشام والعراق , يرجع إلى اختلاف المواقف بينهما ؛ يقول القاضي ابن العربي " رحمه الله " : " ... فهؤلاء _ أي أهل العراق _ يدعون إلى علي بالبيعة , وتأليف الكلمة على الإمام , وهؤلاء _ أي أهل الشام _ يدعون إلى التمكين من قتلة عُثمان , ويقولون : لا نُبايع من يأوي القتلة " ا.ه [ العواصم من القواصم / ص 162 ] .
_ فيتضح لنا جليًا , أن حقيقة الشجار الذي دار بين الأخوين الصحابيين الجليلين أمير المؤمنين علي ووالي الشام مُعاوية " رضي الله عنهما " , لم يكن بسبب الخلافة _ فهي من حق علي باعتراف مُعاوية " رضي الله عنهما " _ , ولكن السبب الأول هو القصاص من القتلة وإقامة الحد , والكل مُقر بذلك حتى أمير المؤمنين " رضي الله عنه " , لكنه يُفضل التريث حتى تهدأ النفوس وتجتمع الكلمة وتستقر الأمور , ويتم بعد ذلك تنفيذ القصاص , والسبب الثاني هو رفض معاوية " رضي الله عنه " وأصحابه , إعطاء البيعة لأمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " , إلا بعد أن يقتص من القتلة , فجعلوا شرط المُبايعة تنفيذ القصاص , وهذا لا يجوز والله أعلم . ولذلك قاتل أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " والي الشام مُعاوية " رضي الله عنه" وأصحابه , لرفضهم البيعة وجعلِها شرطًا للقود , ثم رفض مُعاوية " رضي الله عنه " التنحي عن ولاية الشام عندما عزله أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " _ وذلك ضمن سياسة اتبعها مع ولاة الأقاليم الإسلامية _ , فقاتله أمير المؤمنين " رضي الله عنه " باعتباره واليًا باغيًا خارجًا عن طاعة الخليفة , وخصوصًا عندما أدرك أمير المؤمنين علي " رضي الله عنه " أن حمل مُعاوية " رضي الله عنه " على البيعة سلمًا أمر غير ممكن , فأخذ يُعد العُدة لحمله على البيعة بالقوة . [ عصر النبوة والخلافة الراشدة / د. عبد الشافي عبد اللطيف / ص508 ] .
_ فكان من الأفضل والله أعلم لسيدنا مُعاوية " رضي الله عنه " وأصحابه معه , أن ينضموا لسيدنا علي " رضي الله عنه " , مما سيزيد من قوة وتماسك المسلمين , وبالتالي سيؤدي إلى استتباب الأمن , والمقدرة على مُلاحقة القتلة و إقامة حد القصاص عليهم , ولكن قدر الله وما شاء فعل .
_ وفي الختام ؛ أود أن أُشير إشارة بسيطة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحب الكريم " رضي الله عنهم أجمعين " ؛ يقول ابن حجر العسقلاني " رحمه الله " : " ... أن أهل السنة اتفقوا على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة , بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عُرف المُحقُ منهم , لأنهم لم يُقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد بل ثبت أنهُ يُؤجر أجرًا واحدًا المُخطئ , والمُصيب يُؤجر أجرين " ا.ه [ فتح الباري / ( 13 / 634 ) ] .
كما أن " أهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة بعد قتل عُثمان , والترحم عليهم , وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم و نشر محاسنهم _ رضي الله عنهم وأرضاهم _ " ا.ه [ عقيدة أهل السنة والجماعة / د. ناصر الشيخ / ( 2 / 740 ) ] .
هذا والله أعلم ، وصلى الله على رسوله الكريم وأصحابه الكرام الميامين ...
_ كتبه : أبو الليث الصنهاجي ...
21 / 4/ 2014 م .