قال صاحب كشف الخفا :
أحيا أبوي النبي صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به
أورده العسكري عن عائشة وقال في التمييز تبعا للمقاصد أورده الخطيب في السابق واللاحق وكذا السهيلي عن عائشة وقال في إسناده مجاهيل وقال ابن كثير إنه منكر جدا وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى ولكن ثبت في الصحيح ما يعارضه انتهى وأقول الترجمة المذكورة ليست بلفظ الحديث وإنما لفظه ما سيأتي وقوله ثبت في الصحيح ما يعارضه هو ما رواه مسلم عن أنس بلفظ إن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال في النار فلما قفى دعاه فقال إن أبي وأباك في النار
وكذا ما رواه مسلم أيضا وأبو داود عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم استأذن بالاستغفار لأمه فلم يؤذن له وقد وقع في كلام بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى { ولا تسأل عن أصحاب الجحيم } ما لا يليق أخذا بظاهر ما في الصحيح المار ويمكن الجواب بأن ما في الصحيح كان أولا ثم أحياهما الله تعالى حتى آمنا به صلى الله عليه وسلم معجزة له وخصوصية لهما في نفع إيمانهما به بعد الموت على أن الصحيح عند الشافعية من الأقوال أن أهل الفترة ناجون وقد ألف كثير من العلماء في إسلامهما شكر الله سعيهم منهم الحافظ السخاوي فإنه قال في المقاصد وقد كتبت فيه جزءا والذي أراه الكف عن هذا إثباتا ونفيا وقال في الدرر أخرجه بعضهم بإسناد ضعيف وما أحسن قول حافظ الشام ابن ناصر الدين :
حبا الله النبي مزيد الفضل ... على فضل وكان به رؤوفا
فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا
ومنهم الحافظ السيوطي فإنه ألف في ذلك مؤلفات عديدة منها مسالك الحنفا في إسلام والدي المصطفى وحاصل ما ذكره في ذلك ثلاثة مسالك :
المسلك الأول أنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقد أطبقت الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيا وإنه لا يقاتل حتى يدعى إلى الإسلام وأنه إذا قتل يضمن بالدية والكفارة كما نص عليه الشافعي وسائر الأصحاب بل قال بعضهم إنه يجب في قتله القصاص لكن الصحيح خلافه لأنه ليس بمسلم حقيقي وشرط القصاص المكافأة
المسلك الثاني: إنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه السلام كما كان على ذلك طائفة من العرب كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وذهب إلى هذا المسلك طائفة منهم الإمام الرازي بل قالوا إن سائر آبائه صلى الله عليه وسلم لهم هذا الحكم فليس فيهم كافر وأما آذر فليس بوالد إبراهيم بل عمه على الصحيح
المسلك الثالث : أن الله أحيا له أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من حفاظ المحدثين وغيرهم منهم ابن شاهين والحافظ أبو بكر البغدادي والسهيلي والقرطبي والمحب الطبري وغيرهم واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن شاهين والخطيب البغدادي والدارقطني وابن عساكر بسند ضعيف عن عائشة قالت حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فنزل فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح متبسم قلت له فقال ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحيها فأحياها فآمنت بي وردها الله وهذا الحديث ضعيف باتفاق الحفاظ بل قيل إنه موضوع لكن الصواب ضعفه وأورده السهيلي في روضته بسند فيه مجهولون عن عائشة بلفظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له ثم آمنا به ثم أماتهما
قال السهيلي بعد إيراده : والله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يختص بما شاء من فضله وينعم عليه بما شاء من كرامته
وقال القرطبي لا تعارض بين حديث الإحياء وحديث النهي عن الاستغفار فإن إحياءهما متأخر عن الاستغفار لهما بدليل حديث عائشة أن ذلك كان في حجة الوداع ولذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار
وقال العلامة ابن المنير المالكي في المقتفى في شرف المصطفى قد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم إحياء الموتى نظير ما وقع لعيسى بن مريم إلى أن قال وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من الاستغفار للكفار دعا الله أن يحيي له أبويه فأحياهما له فآمنا به وصدقاه وماتا مؤمنين
وقال القرطبي فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل تتوالى وليس إحياؤهما وإيمانهما به ممتنع عقلا ولا شرعا فقد ورد في القرآن إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يديه جماعة من الموتى وإذا ثبت هذا فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته صلى الله عليه وسلم
وقال ابن سيد الناس بعد ذكر قصة الإحياء : والأحاديث الواردة في التعذيب ذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيا في المقامات السنية صاعدا في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه وأزلفه إلى ما خصه لديه من الكرامة حين القدوم فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرين عن تلك الأحاديث فلا تعارض انتهى
ثم قال السيوطي وقد سئلت أن أنظم هذه المسألة أبياتا أختم بها هذا التأليف فقلت
إن الذي بعث النبي محمد ... نجى به الثقلين مما يجحف
ولأمه وأبيه حكم شائع ... أبداه أهل العلم فيما صنفوا :
فجماعة أجروهما مجرى الذي ... لم يأته خبر الدعاة المسعف
والحكم فيمن لم تجئه دعوة ... أن لا عذاب عليه حكم يؤلف
فبذاك قال الشافعية كلهم ... والأشعرية ما بهم متوقف
وبسورة الإسراء فيها حجة ... وبنحو ذا في الذكر آي تعرف
ولبعض أهل الفقه في تعليله ... معنى أرق من النسيم وألطف
إذ هم على الفطر الذي ولدوا ولم ... يظهر عناد منهم وتخلف
ونحا الإمام الفخر رازي الورى ... معنى به للسامعين تشنف
قال : الأولى ولدوا النبي المصطفى ... كل على التوحيد إذ يتحفف
من آدم لأبيه عبد الله ما ... فيهم أخو شرك ولا مستنكف
فالمشركون كما بسورة توبة ... نجس وكلهم بطهر يوصف
وبسورة الشعراء فيه تقلب ... في الساجدين فكلهم متحنف
هذا كلام الشيخ فخر الدين في ... أسراره هطلت عليه الذرف
فجزاه رب العرش خير جزائه ... وحباه جنات النعيم تزخرف
فلقد تدين في زمان الجاهلية فرقة دين الهدى وتحنفوا
زيد بن عمر وابن نوفل هكذا الصديق ما شرك عليه يعنف
قد قرر السبكي بذاك مقالة ... للأشعري وما سواه مزيف
إذ لم تزل عين الرضا منه على الصديق وهو بطول عمر أحنف
عادت عليه صحبة الهادي فما ... في الجاهلية للضلالة يعرف
فلأمه وأبوه أحرى سيما ... وارت من الآيات ما لا يوصف
وجماعة ذهبوا إلى إحياءه ... أبويه حتى آمنا لا خوف
وروى ابن شاهين حديثا مسندا ... في ذاك لكن الحديث مضعف
هذي مسالك لو تفرد بعضها ... لكفى فكيف بها إذ تتألف
وبحسب من لا يرتضيها صمته ... أدبا ولكن أين من هو منصف
صلى الإله على النبي محمد ... ما جدد الدين الحنيف محنف
انتهى
وقال الشهاب الخفاجي في آخر كتابه " المجالس " : لما قرأت ما قاله علماء الحديث في الخصائص النبوية
أنه لا تلج النار جوفا فيه قطرة من فضلاته عليه الصلاة والسلام فقال : من كان عندنا إذا كان هذا فكيف تعذب أرحام حملته ؟ فأعجبني كلامه ونظمته بقولي :
لوالدي طه مقام علي ... في جنة الخلد ودار الثواب
فقطرة من فضلات له ... في الجوف تنجي من أليم العقاب
فكيف أرحام له قد غدت ... حاملة تصلى بنار العذاب ؟
انتهى
" إن أبي و أباك في النار " .
قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 6 / 177 :
أخرجه الطبراني في " الكبير " ( 3552 ) : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا
أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن العباس بن عبد الرحمن عن
عمران بن الحصين قال : جاء حصين إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : أرأيت
رجلا كان يصل الرحم ، و يقري الضيف مات قبلك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : فذكره : فما مضت عشرون ليلة حتى مات مشركا . قلت : و هذا إسناد رجاله
كلهم ثقات غير العباس بن عبد الرحمن ، و هو مولى بني هاشم ، لا يعرف إلا برواية
داود عنه كما في " تاريخ البخاري " ( 4 / 1 / 5 ) و " الجرح و التعديل " ( 3 /
211 ) و لم يذكرا فيه جرحا و لا تعديلا ، فهو مجهول ، و قول الحافظ في "
التقريب " : " مستور " سهو منه لأنه بمعنى : " مجهول الحال " ، و ذلك لأنه نص
في المقدمة أن هذه المرتبة إنما هي في " من روى عنه أكثر من واحد و لم يوثق " .
قلت : و ذهل عنه الهيثمي ، فقال في " المجمع " ( 1 / 117 ) : " رواه الطبراني
في " الكبير " ، و رجاله رجال ( الصحيح ) " ! و ذلك لأن العباس هذا لم يخرج له
الشيخان ، و لا بقية الستة ، و إنما أخرج له أبو داود في " المراسيل " و "
القدر " ، و حديثه في " المراسيل " يشبه هذا في المعنى ، فقد أخرجه فيه ( برقم
508 ) من طريق داود أيضا عنه قال : جاء رجل إلى العباس فقال : أرأيت الغيطلة -
كاهنة بني سهم - في النار مع عبد المطلب ؟ فسكت : ثم قال : أرأيت الغيطلة .. ،
فوجأ العباس أنفه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " ما بال أحدكم يؤذي أخاه في الأمر و إن كان حقا ؟! " و كذا
رواه ابن سعد في " الطبقات " ( 4 / 24 - 25 ) بأتم منه . و الحديث أخرجه
الجورقاني <1> في " الأباطيل و المناكير " ( 1 / 235 ) من طريق أخرى عن داود بن
أبي هند في جملة أحاديث أخرى تدل كلها - كهذا - على أن من مات في الجاهلية
مشركا فهو في النار ، و ليس من أهل الفترة كما يظن كثير من الناس ، و بخاصة
الشيعة منهم ، و من تأثر بهم من السنة ! و من تلك الأحاديث ، ما رواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال : في النار .
فلما قفى دعاه ، فقال : فذكر حديث الترجمة حرفا بحرف . أخرجه مسلم ( 1 / 132 -
133 ) و أبو عوانة ( 1 / 99 ) و أبو داود ( 4718 ) و الجورقاني ( 1 / 233 ) و
صححه ، و أحمد ( 3 / 268 ) و أبو يعلى ( 6 / 229 / 3516 ) و ابن حبان ( 578 -
الإحسان ) و البيهقي ( 7 / 190 ) من طرق عن حماد بن سلمة به . و منها سعد بن أبي وقاص المتقدم في المجلد الأول برقم ( 18 ) بلفظ : " حيثما مررت بقبر كافر
فبشره بالنار " . فراجع سببه هناك ، فإنه بمعنى حديث الترجمة لمن تأمله .
و إن مما يتصل بهذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم لما زار قبر أمه : " استأذنت
ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، و استأذنته في أن أزور قبرها ، فأذن لي ..
" الحديث . رواه مسلم و غيره ، و هو مخرج في " أحكام الجنائز " ( ص 187 - 188 )
من حديث أبي هريرة و بريدة ، فليراجعهما من شاء . و الأحاديث في هذا الباب
كثيرة ، و فيما ذكرنا خير كبير و بركة .
و اعلم أيها الأخ المسلم أن بعض الناس اليوم و قبل اليوم لا استعداد عندهم لقبول هذه الأحاديث الصحيحة ، و تبني ما فيها من الحكم بالكفر على والدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل إن فيهم من يظن
أنه من الدعاة إلى الإسلام ليستنكر أشد الاستنكار التعرض لذكر هذه الأحاديث و
دلالتها الصريحة ! و في اعتقادي أن هذا الاستنكار إنما ينصب منهم على النبي صلى الله عليه وسلم الذي قالها إن صدقوا بها . و هذا - كما هو ظاهر - كفر بواح ، أوعلى الأقل : على الأئمة الذين رووها و صححوها ، و هذا فسق أو كفر صراح ، لأنه
يلزم منه تشكيك المسلمين بدينهم ، لأنه لا طريق لهم إلى معرفته و الإيمان به ،إلا من طريق نبيهم صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على كل مسلم بصير بدينه ،فإذا لم يصدقوا بها لعدم موافقتها لعواطفهم و أذواقهم و أهوائهم - و الناس فيذلك مختلفون أشد الاختلاف - كان في ذلك فتح باب عظيم جدا لرد الأحاديث الصحيحة
و هذا أمر مشاهد اليوم من كثير من الكتاب الذين ابتلي المسلمون بكتاباتهم كالغزالي و الهويدي و بليق و ابن عبد المنان و أمثالهم ممن لا ميزان عندهم لتصحيح الأحاديث و تضعيفها إلا أهواؤهم !
و اعلم أيها المسلم - المشفق على دينهأن يهدم بأقلام بعض المنتسبين إليه - أن هذه الأحاديث و نحوها مما فيه الإخبار بكفر أشخاص أو إيمانهم ، إنما هو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها و
تلقيها بالقبول ، لقوله تعالى : *( ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين .
الذين يؤمنون بالغيب )* ( البقرة : 1 - 3 ) و قوله : *( و ما كان لمؤمن و لا
مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. )* ( الأحزاب
: 36 ) ، فالإعراض عنها و عدم الإيمان بها يلزم منه أحد أمرين لا ثالث لهما - وأحلاهما مر - : إما تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، و إما تكذيب رواتها الثقات كما تقدم . و أنا حين أكتب هذا أعلم أن بعض الذين ينكرون هذه الأحاديث أو يتأولونها تأويلا باطلا كما فعل السيوطي - عفا الله عنا و عنه - في بعض رسائله ، إنما يحملهم على ذلك غلوهم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحبهم إياه ، فينكرون أن يكون أبواه صلى الله عليه وسلم كما أخبر هو نفسه عنهما
، فكأنهم أشفق عليهما منه صلى الله عليه وسلم !! و قد لا يتورع بعضهم أن يركن
في ذلك إلى الحديث المشهور على ألسنة بعض الناس الذي فيه أن النبي صلى الله
عليه وسلم أحيا الله له أمه ، و في رواية : أبويه ، و هو حديث موضوع باطل عند
أهل العلم كالدارقطني و الجورقاني ، و ابن عساكر و الذهبي و العسقلاني ، و
غيرهم كما هو مبين في موضعه ، و راجع له إن شئت كتاب " الأباطيل و المناكير "
للجورقاني بتعليق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي ( 1 / 222 - 229 ) و قال ابن الجوزي في " الموضوعات " ( 1 / 284 ) : " هذا حديث موضوع بلا شك ، و الذي وضعه قليل الفهم ، عديم العلم ، إذ لو كان له علم لعلم أن من مات كافرا لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة ، لا بل لو آمن عند المعاينة ، و يكفي في رد هذا الحديث قوله
تعالى : *( فيمت و هو كافر )* ، و قوله صلى الله عليه وسلم في ( الصحيح ) : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي " . و لقد أحسن القول في هؤلاء بعبارة ناصعة وجيزة الشيخ عبد الرحمن اليماني رحمه الله في تعليقه على " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة " للإمام الشوكاني ، فقال ( ص 322 ) : " كثيرا
ما تجمح المحبة ببعض الناس ، فيتخطى الحجة و يحاربها ، و من وفق علم أن ذلك مناف للمحبة الشرعية . و الله المستعان " .
قلت : و ممن جمحت به المحبة السيوطي عفا الله عنه ، فإنه مال إلى تصحيح حديث الإحياء الباطل عند كبار العلماء كما
تقدم ، و حاول في كتابه " اللآلىء " ( 1 / 265 - 268 ) التوفيق بينه و بين حديث الاستئذان و ما في معناه ، بأنه منسوخ ، و هو يعلم من علم الأصول أن النسخ لا يقع في الأخبار و إنما في الأحكام ! و ذلك أنه لا يعقل أن يخبر الصادق المصدوق
عن شخص أنه في النار ثم ينسخ ذلك بقوله : إنه في الجنة ! كما هو ظاهر معروف لدى العلماء .
و من جموحه في ذلك أنه أعرض عن ذكر حديث مسلم عن أنس المطابق لحديث الترجمة إعراضا مطلقا ، و لم يشر إليه أدنى إشارة ، بل إنه قد اشتط به القلم و غلا ، فحكم عليه بالضعف متعلقا بكلام بعضهم في رواية حماد بن سلمة ! و هو يعلم أنه من أئمة المسلمين و ثقاتهم ، و أن روايته عن ثابت صحيحة ، بل قال ابن المديني و أحمد و غيرهما : أثبت أصحاب ثابت حماد ، ثم سليمان ، ثم حماد بن زيد ، و هي صحاح .
و تضعيفه المذكور كنت قرأته قديما جدا في رسالة له في حديث
الإحياء - طبع الهند - و لا تطولها يدي الآن لأنقل كلامه ، و أتتبع عواره ، فليراجعها من شاء التثبت .
و لقد كان من آثار تضعيفه إياه أنني لاحظت أنه أعرض
عن ذكره أيضا في شيء من كتبه الجامعة لكل ما هب و دب ، مثل " الجامع الصغير " و" زيادته " و " الجامع الكبير " ! و لذلك خلا منه " كنز العمال " و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . و تأمل الفرق بينه و بين الحافظ البيهقي الذي قدم الإيمان و التصديق على العاطفة و الهوى ، فإنه لما ذكر حديث :
" خرجت من نكاح غير سفاح " ، قال عقبه : " و أبواه كانا مشركين ، بدليل ما
أخبرنا .. " ، ثم ساق حديث أنس هذا و حديث أبي هريرة المتقدم في زيارة قبر أمه
صلى الله عليه وسلم .
والحمدلله رب العالمين
أبوزكريا المهاجر