الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،، فهذه هي الحلقة الثالثة من سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. وكان آخر ما تكلمنا عنه في الحلقة الماضية:ذكر مولده صلى الله عليه وسلم. يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَىٰ عِيسَىٰ، رَأَتْ أُمِّي حين حملت بي كأن نُورًا خرج منها أَضَاءَتْ له قُصُورُ بُصرىٰ من أرض الشَّامِ».
فقوله: أنا دعوة إبراهيم:
حيث دعا إبراهيم عليه السلام ربه بأن يبعث في العرب رسولًا منهم فقال:{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك أنت العزيز الحكيم} [البقرة: 129].
وقوله: وبشرىٰ عيسىٰ:
وبشر به عيسىٰ بن مريم عليه السلام فقال: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6].
وقوله: رأت أمي حين حملت بي كأن نورًا خرج منها أضاءت له قصور بُصرىٰ من أرض الشام:
هذا لفظ الحاكم، وابن إسحاق، أما لفظ ابن سعد ففيه: رأت أمي كأنه خرج منها نورٌ أضاءت منه قصور الشام. ولذلك اختُلِف في وقت خروج هذا النور، أكان عند الحمل أم عند الولادة؟.
وفسر ابن رجب الحنبلي هذا النور بأنه إشارة إلىٰ ما يجيء به من النور الذي اهتدىٰ به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالىٰ: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه ويهديهم الى صراط مستقيم} [المائدة: 15- 16].اهـ.
وقال ابن كثير رحمه الله:
"وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلىٰ استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلًا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسىٰ بن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَىٰ الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا من خالفهم حَتَّىٰ يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَذَلِكَ» وفي «صحيح البخاري»: (وهم بالشام)".اهـ.
ومما وقع في يوم مولده أيضًا ما رواه ابن إسحاق عن حسان بن ثابت قال: والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلىٰ صوته علىٰ أطمة( أي: مكان عال ) يثرب: يا معشر يهود حتىٰ إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك ما بك؟! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به.
هذا ما صح من الآيات التي حدثت يوم ولادته صلى الله عليه وسلم ولا يصح بعد ذلك شيء.
قال الألباني رحمه الله:
"ذكر ارتجاس الإيوان، وسقوط الشرفات، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، وغير ذلك من الدلالات ليس فيه شيء".
وقد أرضعته صلى الله عليه وسلم: حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية،وظهر بوجوده عندها من البركات ما ظهر. وقد ثبت رضاع النبي صلى الله عليه وسلم منها بأحاديث صحيحة منها:
ما أخرجه الحاكم في «مستدركه» عن عتبة بن عبد السلمي: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كيف كان شأنك يا رسول الله؟ قال: «كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بني سَعْدِ بن بَكْرٍ ... الحديث» وبنو سعد بن بكر هم قوم حليمة السعدية.
وحديث عبد الله بن جعفر الذي يرويه عن حليمة السعدية والتي تحكي فيه ما ظهر من بركاته صلى الله عليه وسلم، حيث قالت: خرجت مع زوجي وابن لي صغير في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء. قال: وذلك في سنة شهبًا( أي: مجدبة، ليس فيها خضرة ولا ماء). لم تُبصر لنا شيئًا، قالت: فخرجت علىٰ أتان لي قمراء( أي: بيضاء) ومعنا شارف( وهي الناقة المسنة ) لنا، والله ما تبضُّ( بض الماء: أى: سال قليلا قليلا ) بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجوا الغيث والفرج، فخرجت علىٰ أتاني تلك، فلقد أذمَّت(أذمت:أي: أبطأت وحبست) بالركب حتىٰ شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتىٰ قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجوا المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم، وما عسىٰ أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلىٰ ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسىٰ الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه وأخذته، وما حملني علىٰ أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلىٰ رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتىٰ روي، وشرب معه أخوه حتىٰ روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلىٰ شارفنا تلك، فإذا هي حافل(أي:ممتلئة باللبن) فحلب منها فشرب وشربت معه حتىٰ انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتاني، وحملته عليها معي، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتىٰ إن صواحبي ليقلن لي: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! اربعي( أي: أرفقي ) علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلىٰ والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنًا( لبنا: أي: ممتلئة باللبن ) فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتىٰ كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبضُّ بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعًا لبنا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتىٰ مضت سنتان وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتىٰ كان غلامًا جفرًا( أي: قويا شديدا ).
قالت: فقدمنا به علىٰ أمه ونحن أحرص علىٰ مكثه فينا، لما كنا نرىٰ من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابنك عندي حتىٰ يغلظ، فإني أخشىٰ عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتىٰ ردته معنا.
واخُتلف في صحة هذا الحديث بين المحدثين، فمن مصحح له ومضعف، كابن عساكر حيث قال: هذا حديث غريب جدًا وفيه ألفاظ ركيكة لا تشبه الصواب، وكذلك أعرض عنه الألباني في «صحيح السيرة» فلم يذكره، أما الذهبي فقال: هذا حديث جيد الإسناد.
وقد أرضعته صلى الله عليه وسلم أيضًا ثويبة مولاة أبي لهب وكان ذلك قبل ذهابه إلىٰ السعدية.
روي الإمام البخاري: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله أَنْكِحْ أُخْتِي بنتَ أبي سُفْيَانَ، فَقَالَ: «أَوَ تُحِبِّينَ ذَلِكَ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ وَأَحَبُّ مَنْ يشَارِكُنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ ذلك لَا يحل لِي»، فَقُلْتُ: فإِنَّا نَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بنتَ أبي سَلَمَةَ. قَالَ: «بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّهَا لم تكن رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لَابْنَة أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بناتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ».
قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأبي لَهَبٍ كَانَ أبو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا مَاتَ أبو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أبو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ .
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنوات أتاه ملكان فشقا صدره وغسلا قلبه ثم أعاداه.
روىٰ الإمام مسلم في «صحيحه»: أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذِهِ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثم غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، قَالَ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَىٰ أُمِّهِ – يَعْنِي: ظِئْرَهُ- فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوه ُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ: وَكُنْتُ أَرَىٰ أَثَرَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ.
قال ابن سعد:
وكان عمره حينها أربع سنوات.
وروىٰ الحاكم في «مستدركه»: عَنْ عُتْبَةَ بن عبد السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِكَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بني سَعْدِ بن بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا وَلَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يَا أَخِي اذْهَبْ فَأْتِنَا زادًا مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا، فَانْطَلَقَ أَخِي وكنت عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أَبْيَضَانِ كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي للْقَفَا فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ، فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حِصْهُ – يعني: خطه- وَاخَتَتمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ وَاجْعَلْ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِهِ فِي كِفَّةٍ، فَإِذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَىٰ الْأَلْفِ فَوْقِي أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ عَلَيَّ، فَقَالَا: لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمَالَ بِهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَا وَتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَىٰ أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُهُ فَأَشْفَقَتْ أَنْ يَكُونَ التبس بِي، فقَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ، فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَهَا فَجَعَلَتْنِي عَلَىٰ الرَّحْلِ وَرَكِبَتْ خَلْفِي حَتَّىٰ بَلَغْنَا أُمِّي، فَقَالَتْ: أَوَأَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثَتْهَا بِالَّذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ».
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ست سنوات ماتت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة فكفله جده عبد المطلب.
قال ابن إسحاق:
"توفيت آمنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ست سنين بالأبواء، بين مكة والمدينة: كانت قد قدمت به علىٰ أخواله من بني عدي بن النجار، تُزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلىٰ مكة".
قال ابن القيم:"ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة بالأبواء منصرفها من المدينة من زيارة أخواله، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين".فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم، وكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتىٰ يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر، حتىٰ يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب، إذا رأي ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنًا؛ ثم يجلسه معه علىٰ الفراش، ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع. وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم