بداية الأمر وتوالي الأحداث ودواعيها:
في سنة 655هـ حصل نزاع شديد وفتنة مهولة ومحاربة بين السنة والروافض، السنة ممثلة بأهل باب البصرة، والروافض ممثلة بأهل الكرخ، وكان فيه جماعة من الأشراف، وكانت الفتن لا تزال بينهم وبين أهل باب البصرة، على جاري عادتهم.
فشكى أهل باب البصرة وهم سنية، إلى ركن الدين الدوادار، والأمير أبي بكر ابن الخليفة، فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ، فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم، وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش.
وبحكم التعصب للمذهب الرافضي، عظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، فشكى أهل الكرخ ذلك إلى الوزير، فأمرهم بالكف والتغاضي واضمر هذا الأمر في نفسه. وحصل عنده بسبب ذلك الضغن على الخليفة، مما دعاه وحمله على مكاتبة التتر وأطمعهم في ملك بغداد.
وظن المخذول أن الأمر تم، وانه يقيم خليفة علويا، فأرسل أخاه ومملوكه إلى هولاكو، وسهل عليه أخذ بغداد وملك العراق، وطلب أن يكون نائبا لهم عليها، فوعدوه بالأماني[1].
ويخبر ابن تغري بردي، أن من أسباب الخيانة؛ أنه ظهر من الخليفة تغير عليه، ففطن ابن العلقمي إلى ذلك[2].
يقول الديار بكري: وكان قصد الوزير بمجيء هولاكو أشياء؛ منها:
أنه كان رافضيا خبيثا و أراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين فلم يتم له ذلك من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم، فأفكر أن هولاكو إذا قدم يقتل المستعصم واتباعه ثم يعود إلى حال سبيله، وقد زالت شوكة بني العباس، وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة، فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانع لضعف العساكر ولقوته، ثم يضع السيف في أهل السنة. فهذا كان قصده لعنه الله[3].
ويخبر العلامة ابن خلدون عن أحداث جديدة في وصول ابن العلقمي إلى هولاكو، فيقول: إن هولاكو
لما قصد قلعة الموت، وبها صاحبها علاء الدين، فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد، في كتاب ابن الصلايا صاحب اربل يستحثه للمسير إلى بغداد، ويسهل عليه أمرها.
حيث دس ابن العلقمي إلى ابن الصلايا بإربل، وكان صديقا له بان يستحث التتر لملك بغداد[4].
وكان الذي حمله على مكاتبة العدو عداوة الدويدار الصغير وأبى بكر ابن الخليفة وما اعتمده من نهب الكرخ، وأذية الروافض، وفيهم أقارب الوزير وأصدقاؤه وجماعة علويين.
فكتب إلى نائب اربل تاج الدين محمد بن صلايا العلوي الشيعي الرسالة التي يقول فيها: كتب بها الخادم من النيل إلى سامي مجدك الأثيل، ويقول فيها: إنه قد نهب الكرخ المكرم، وقد ديس البساط النبوي المعظم، وقد نهبت العترة العلوية، واستؤسرت العصابة الهاشمية، وقد حسن التمثل بقول الشاعر من غزية:
أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب
فلهم أسوة حسنة بالحسين حيث نهب حريمه وأريق دمه ولم يعثر فمه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وقد عزموا لا أتم الله عزمهم، ولا أنفذ أمرهم، على نهب الحلة والنيل[5]، بل سولت لهم أنفسهم أمرا، فصبر جميل. وإن الخادم قد أسلف الإنذار وعجل لهم الإعذار.
أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام
وان لم يطفها عقلاء قوم يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام
فان يك قومنا أضحوا نياما فقل هبوا لقد حان الحمام
فكان جوابي بعد خطابي: لابد من الشنيعة، ومن قتل جميع الشيعة، و من إحراق كتاب "الوسيلة" و "الذريعة"، فكن لما نقول سميعا، وإلا جرعناك الحمام تجريعا، فكلامك كلام، وجوابك سلام، ولتتركن في بغداد أحمل من المشط عند الأصلع، والخاتم عند الأقطع، ولتنبذن نبذ الفلاسفة بحظورات الشرائع، وتلقى لقاء أهل القرى أسرار الطبائع، فلأفعلن بلبي كما قال المتنبي:
قوم إذا أحدوا الأقلام من غضب ثم استمدوا بها ماء المنيات
نالوا بها من أعاديهم وان بعدوا ما لا ينال بحد المشرفيات
ولآتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولأخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون.
ووديعة من سر آل محمد أودعتها إذا كنت من أمنائها
فإذا رأيت الكوكبين تقاربا في الجدى عند صباحها ومساءها
فهناك يؤخذ ثار آل محمد لطلابها بالترك من أعدائها
فكن لهذا الأمر بالمرصاد، وترقب أول النحل وآخر صاد[6] والخير يكون إن شاء الله[7].
وكان استطماع ابن العلقمي لهولاكو بقتل أهل بغداد أنه توافق في نفس هذه السنة، أعني سنة 655هـ من شهر شوال، رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد، وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولا إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد أن يسير ولم يقدر ولم يمكنه، فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولا آخر إلى الخليفة وعاتبه على إهماله تيسير النجدة[8].
الوزراء والأمراء؛ وقالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجا إلى نجدتنا وإنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة.
[1] انظر ذيل مرآة الزمان 1/86، المختصر في أخبار البشر 3/233، العبر في خبر من عبر 3/277، سير أعلام النبلاء 23/362، تاريخ ابن الوردي 2/189، مآثر الإنافة 2/90، عقد الجمان 1/170، تاريخ ابن سباط 1/374، تاريخ الخميس 2/376، شذرات الذهب 7/468، طبقات الشافعية الكبرى 8/263.
[2] انظر المنهل الصافي 7/127.
[3] انظر تاريخ الخميس 2/377.
[4] انظر تاريخ ابن خلدون 10/1149.
[5] النيل هنا: بليدة في سواد الكوفة. معجم البلدان 4/861.
[6] في تاريخ ابن الوردي: وتأول أول النجم واحرص.
[7] انظر تاريخ الإسلام وفيات سنة 656هـ ص291، تاريخ ابن الوردي 2/190، طبقات الشافعية الكبرى 8/263.
[8] انظر تاريخ مختصر الدول ص269.