بسم الله وبعد :
فهذا مبحث يتعلق بتبرئة الصحابة رضي الله عنهم من قتل عثمان رضي الله عنه ، وسنتناول في هذا المبحث ترجمة رجل خارجي على عثمان رضي الله عنه، وهِم بعض العلماء فزعم أنه صحابي، وليس كذلك ، كما سنثبته في هذا المبحث الذي قسمته إلى المطالب التالية :
المطلب الأول : حدّ الصحابي من هو :
المطلب الثاني : أمثلة تطبيقية :
المطلب الأول : حدّ الصحابي من هو :
تعتبر هذه المرحلة بالغة الأهمية والخطورة لما يترتب عليها من أمور : إحداها أن للصحبة درجة رفيعة ومنزلة كبيرة عند الله تعالى ثم عند المسلمين , والثاني : في معرفة درجة الحديث هل هو متصل صحيح إن ثبتت الصحبة ، أو هو مرسل ضعيف إن لم تثبت ، والثالث : في تبرئة الصحابة رضي الله عنهم ممن ليس هو منهم خاصة في أحاديث المشاركة في الفتن أو الخروج عن عثمان رضي الله عنه، لأن القاعدة هي تبرئة الصحابة رضي الله عنهم عن البدع وهذه المخالفات ، وهذا ما يتضح بالتمثيل بالجهجاه الخارجي الذي كان أول من تسبب في قتل عثمان رضي الله عنه وفي كسر عصا النبي عليه السلام التي كان يخطب عليها هو والخلفاء من بعده، حيث وهم بعضهم فجعله من الصحابة، وقد أعاذ الله الصحابة رضي الله عنهم من هذه البدع المتمثلة في الخروج عن عثمان أو من تبديع حمل العصا التي كانت من سنن الله والأنبياء والمرسلين والخلفاء الراشدين .
ولذلك كان حريا على طالب العلم التثبت في هذا الأمر الخطير ، وقد رأيت الكثيرَ من عوام الطلبة
يخطئون في دعواهم بأن الصحابي هو كل من له ذكر في كتب الصحابة لأبي نعيم أو ابن عبد البر أو ابن الأثير أو ابن حجر ونحوهم ، لأن هؤلاء يذكرون جميع الطبقات :
بدءا من طبقة الصحابة الحقيقيين بمختلف طبقاتهم ، كما يذكرون كل من اختلف في صحبته ، وكذا كل من قيل أو رُوي بأنه صحابي سواء صح الإسناد إليه أو ضعف ، بل قد يذكرون الرجل بمجرد روايته عن النبي عليه السلام ولو كان من مجهولي التابعين ، وعليه فإنه يجب التثبت وطلب الدليل والحق خاصة في هذه الطبقات الثلاث الأخيرة ، ولن يكون هذا التثبت إلا بمعرفة حقيقة الصحبة وحدّها ، فيا تُرى متى تثبت الصحبة ومتى نقول عن شخص أنه صحابي حديثه صحيح، أو أنه تابعي حديثه مرسل ؟
وهذه مسألة اختلف السلف فيها على أقوال :
القول الأول : قاله يحيى بن صالح المصري :" أن الصحابيَّ هو كل من عاصر النبيَّ صلى الله عليه وسلم "، وإن لم يلقه ، وهذا قول ضعيف لأن العلماء ذكَروا قيسَ بنَ أبي حَازمٍ وأمثالَهُ مِمن لَم يَلق النَبيَّ صلى الله عليه وسلم من طبقة المخضرمين من كبار التابعين .
القول الثاني : قال بعض الأصوليين أن الصحابي هو من طالت مجالسته على طريق التتبع، أو التخصص به عليه السلام "، قاله الماوردي ، وورد مثل ذلك عن سعد بن المسيب حيث قال: لا يعد صحابياً إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أوْ سنتين وغزا معه غزوة أو غزوتين"، وقد تعقبه الإمام النووي في التقريب فقال :" فإن صح عنه فضعيف، فإن مقتضاه أن لا يعد جرير البجلي وشبهه صحابياً ولا خلاف أنهم صحابة "، بل إنه يخرج الكثير من الصحابة عن حد الصحبة .
القول الثالث : قال الإمام النووي في التقريب :" اختلف في حد الصحابي، فالمعروف عند المحدثين أنه كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وقد ورد عن شيخ الشافعية القاضي شرف الدين أبو البركات الأنصارى الشافعي أنه قال : حد الصحابيّ كل من رأى النبى صلى الله عليه وآله وسلم"، فقيل له : فاليهود والنصارى رأوا النبى صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فأجاب بأن ذلك بشرط كون الرائي مسلما ".
وقد تَعقّبَ هذا القولَ الإمامُ السيوطي فقال في التدريب : وأُورِد عليه: إن كان فاعل الرؤية الرَّائي الأعمى, كابن أمِّ مَكْتُوم ونحوه, فهو صحابي بلا خلاف, ولا رؤية له، ومن رآه كافرًا, ثمَّ أسلم بعد موته, كرسول قَيْصر, فلا صُحبة له، ومن رآه بعد موته صلى الله عليه وسلم قبل الدَّفن, وقد وقع ذلك لأبي ذؤيب خُويلد بن خالد الهذلي فإنَّه لا صُحبة له .. وأُوردُ عليه أيضًا: من صحبه ثمَّ ارتدَّ, كابن خطل ونحوه ".
القول : من لَقِي النَّبي صلى الله عليه وسلم مُسْلمًا وثبت على إسْلامهِ حتى مات"، وبهذا يخرج المرتدون عن حد الصحبة لأن الردة تبطل العمل، وهو قول بعضهم، لِظَاهر مذهب الشافعي وأبي حنيفة .
القول الثالث : قَاله السيوطي : من لَقِي النَّبي صلى الله عليه وسلم مُسْلمًا ومات على إسْلامهِ وإن تخللته ردّة "، ويُشكل عليه أيضا الأطفال الذين حنَّكهُم فإنهم لاقَوْه ، ولم يرَوْه أبدًا بعد التَّمييز ، فإنهم ليسوا بصحابة عند الأكثرين , فقد قال ابن حجر في النُّكت : ظاهر كلام الأئمة ابن مَعِين, وأبي زُرْعة, وأبي حاتم, وأبي داود, وغيرهم اشتراطه - التمييز-, فإنَّهم لم يُثْبِتُوا الصُّحْبة لأطفال حنَّكهم النَّبي صلى الله عليه وسلم, أو مسح وجوههُم, أو تفلَ في أفواههم, كمُحمَّد بن حاطب, وعبد الرَّحمن بن عُثمان التَّميمي, وعُبيد الله بن مَعْمر ونحوهم ".
وذكر العلائي في المراسيل أن عبد الله بن الحارث بن نوفل وعبد الله بن أبي طلحة الأنصاري: حنَّكهما النَّبي صلى الله عليه وسلم ودعا لهما , ولا صحبة لهما , بل ولا رؤية أيضًا ",
إلا أن هذا الصنف يعتبر حديثه من أقوى المراسيل على الإطلاق والله أعلم .
القول الجامع : والأولى أن يقال في الصحابيّ :" أنه كل مكلّف مسلم مميّزٍ ثبتَتْ لقياه للنَّبي صلى الله عليه وسلم حيًّا ، بنقل العدل المتصل السند "، وهذا التعريف متضمن لجميع شروط الصحبة التي ذكرها العلماء وهي :
1- الإسلام والتكليف : بأن يكون الشخص الذي لاقَى النبيَّ عليه السلام مسلمًا ، وقد مات على إسلامه ، وإن تخللته ردّة على الأرجح .
فمن الأول مثلا : خروج التنوخي رسول هرقل عن حد الصحبة لأنه قدم على النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك وهو كافر، ولم يُسلم إلا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ، إلا أنَّ ما سمعه أو رآه من النبي عليه السلام فهو صحيح متصل ، وما منعنه هو وأمثاله فهو مرسل ومن أقوى المراسيل أيضا على الإطلاق .
ومن الثاني : جواز دخول الأشخاص الذين ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام في حد الصحابة أمثال ابن سرح وغيره .
2- أن يكون مميزا : وهذا قيد يُخرج به المحنكون وأمثالهم من حد الصحبة أمثال مُحمَّد بن حاطب, وعبد الرَّحمن بن عُثمان التَّميمي, وعُبيد الله بن مَعْمر وعبد الله بن الحارث وعبد الله بن أبي طلحة ...
كما لا يُشْترط به البُلوغ أيضا , لدخول صغار الصحابة في اسم الصحبة بالاتفاق أمثال عبد الله بن عباس والحسن والحسين وابن الزُّبير ونحوهم.
3- ثبوت اللقيا للنبي عليه السلام : وهذا قيد يدخل فيه الأعمى كابن مكتوم ، كما يدخل فيه أيضا كل من وقع في سند صحيح أنه صحابي عن طريق سبب نزول أو مساءلة أو نحو ذلك .
كما يخرج به كل من عاصروا النبي عليه السلام ولم يلقوه أمثال عبد الله بن مالك الجَيْشاني ، فإن أحاديثهم مرسلة قوية .
4- أن يكون المُلَاقى وهو النبي عليه السلام حيًّا : فقد قال السيوطي: من رآه بعد موته صلى الله عليه وسلم قبل الدَّفن, وقد وقع ذلك لأبي ذؤيب خُويلد بن خالد الهذلي, فإنَّه لا صُحبة له ".
5- أن يكون السند صحيحا متصلا بنقل العدل : حيث تعرف الصحبة بإحدى أمور:
أولاها بالتواتر أو بالاستفاضة والشهرة كالخلفاء والعشرة وغيرهم ...
والثاني: بقول صحابي أو شهادته أو أن يقع في طريق صحيح أنه سأل النبي عليه السلام أو نزلت فيه كذا وكذا ونحو ذلك .
والثالث : أن يصح السند بنقل الثقة المعدل عن التابعي بروايته عن الصحابي أنه سمع النبي عليه السلام أو رآه ونحو ذلك ، وقيل بل برواية تابعيين ، والأول أولى كما قال ابن حجر .
المطلب الثاني : أمثلة تطبيقية :
المثال الأول : جهجاه الخارجي صاحب بدعة تكسير العصا التي كان يخطب عليها النبي عليه السلام والخلفاء، ورأس قتلة عثمان وكاسر العصا عليه :
وهذا جزء من بحث لي تحت عنوان:" استحباب حمل العصا على المنبر وفي كل الخطب "، على هذا الرابط : http://majles.alukah.net/showthread....%D8%B2%D8%A1-1
فقد قال البخاري في الصحيح عن العصا : باب ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك"، قال ابن حجر في الفتح: وكان قضيبه صلى الله عليه وسلم من شوحط وكانت عند الخلفاء بعده حتى كسرها جهجاه الغفاري في زمن عثمان"، وقال ابن كثير في البداية (7/196) :"واستمر عثمان يصلي بالناس... فلما كان في بعض الجمعات وقام على المنبر وفي يده العصا التي كان يعتمد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من بعده، فقام إليه رجل من أولئك فسبه ونال منه وأنزله عن المنبر :
كما قال الواقدي: حدثني أسامة ابن زيد عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه قال: بينا أنا أنظر إلى عثمان يخطب على عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخطب عليها وأبو بكر وعمر فقال له جهجاه: قم يا نعثل، فانزل عن هذا المنبر، وأخذ العصا فكسرها على ركبته اليمنى، فدخلت شطيَّة منها فيها؛ فبقي الجرح حتى أصابته الأكلة، فرأيتها تدود، فنزل عثمان وحملوه وأُمر بالعصا فشدّوها، فكانت مضبّبة.."، وقد ذكرته هنالك طرق هذا الأثر الصحيح التي تصل إلى حد التواتر،
وما خرجه الطبري ـ في تاريخه 2/662ـ : حدثني أحمد بن إبراهيم ثنا عبد الله بن إدريس عن عبيد الله بن عمر عن نافع أنّ جهجاهاً الغفاري أخذ عصاً كانت في يد عثمان فكسرها على ركبته، فرمي في ذلك المكان بأكلة"، وهذا حديث مرسل مشهور صحيح كل رجاله ثقات، وقد ذكر جمع من أهل العلم كالبلاذري وابن عبد البر بالتمريض وغيرهم أن جهجاها هذا صحابي شهد بيعة الرضوان، وتبعه على ذلك ابن حجر وهو خطأ بَين من وجوه، ويجب التنبيه عليه حتى لا يُتهم الصحابة بقتل عثمان ، ولا بإنكار العصا التي أجمع عليها الخلفاء :
أحدها أن الله تعالى قد أعاذ جميع الصحابة رضي الله عنهم من المشاركة أو التحريض على قتل عثمان رضي الله عنه، وكلام السلف مشهور وكثير في هذا الباب.
والأمر الثاني: إجماع السلف على أن الركب الذين توجهوا لقتل عثمان ليس فيهم صحابي واحد.
والأمر الثالث: بما أن هذه المسألة خطيرة جدا تتعلق إما بتبرئة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من التحريض على الشر والفتنة ، أو قذفهم بها من غير تثبت ، لذلك يجب التثبت فيها أكثر حتى لا يُطعن فيمن سبقت لهم من الله الحسنى والرضوان.
والأمر الرابع: أن من المتقرر في علم المصطلح كما أسلفنا أن الصحابي من ثبت صحيحا أنه لقي النبي عليه السلام مؤمنا به، وقد اختلف السلف في عدد الشهود على إثبات صحبة الرجل ، أصحها أنه تكفي شهادة صحابي واحد ولو على نفسه إذا روى ذلك تلميذه العدل عنه وشهد له به، وبناءا عليه فقد نظرنا في دعوى من ادعى أن الجهجاه صحابي فوجدناها دعوى بينة الخطأ ، ليس ينطبق عليه شئ من شروط الصحبة التي بينا ، فقد بحثنا عنه فلم نجدْ له ذكرا أصلا ، لكن وجدنا شبيها لهذه التسمية في خبرين أحدهما مرسل، والآخر باطل لم يصح :
أما المرسل فرواه محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى بن حبان قال: كلّ قد حدثني بعض حديث بني المصطلق، قالوا:" بلغ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن بني المصطلق يجمعون له..، وفيه:" وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جَهْجَاه بن سعيد يقود له فرسه، فازدحم جَهْجاه وسنان الجُهْنِيُّ على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنيّ: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.."، وهذا الحديثُ على ضعفه فليس فيه أي دليل على أن هذا الجهجاه هو نفُسه الذي حرض على قتل عثمان .
وأما الحديث الثاني فقد تفرد به مُوسَى بْنِ عُبَيْدَة وهو ضعيف ثنِي عُبَيْد بن سلمان الأَغَر عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار عَنْ جَهْجَاهٍ الْغِفَارِي وكان رجلا عظيما طويلا، ـ وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم واستضافته له وشربه سبع حلاب، فلما أسلم شرب حلاب شاة واحدة، فقال له :" الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِد"، كذا قال موسى عن عطاء بن يسار وهو باطل شبه الموضوع، فيه علل كثيرة أولاها تفرد موسى الربذي بهذا الطريق، وهو ضعيف جدا، حتى قال أحمد: لا يكتب حديثه، والعلة الثانية أنه اضطرب، فقال مرة عن عبيد بن سلمان وقال أخرى عن عبيد الله بن سلمان، وعبيد الأول مختلف في توثيقه، والعلة الثالثة أن عطاء بن يسار لا تُعرف له روايةٌ ولا سماعٌ من الجهجاه، والعلة الرابعة وهي النكارة والمخالفة: فقد اختلف في اسم صاحب هذه القصة فقيل أبو بصرة أو أبو نضرة الغفاريان، وقيل هو سكين النضري أو رجل جهني وهذان الأصح، لأن هذا الحديث ليس فيه للجهجاه أصلٌ، وإنما هو لسكين الضمري فقد رواه فُهَيْرُ بْنُ زِيَاد ومخلد بن يزيد عن ابْن جُرَيْج أُخْبِرْتُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَار سَمِعْتُ سِكِّينًا الضَّمْرِي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ "، خرجه عنهم البخاري وابن أبي خيثمة وأبو نعيم، وهذا أصح لأن ابن جريج أوثق، لذلك قال البخاري ونقله ابن عبد البر في ترجمة سكين:" ولا يصح جهجاه الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم"،
ومما يؤكد أن الحديث لسكين الضمري ما خرجه الطحاوي في مشكله 5/254 بإسناد صحيح قال: ثنا يُونُس نا ابْن وَهْب أَنّ مَالِكا أَخْبَرَه عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيه عَن أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَافَهُ ضَيْفٌ كَافِر, فَأَمَر له بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَشَرِبَهُ, حَتَّى شَرِبَ حِلَابَ سَبْعِ شِيَاهٍ , ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ فَأَسْلَم, فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ فَحُلِبَتْ فَشَرِبَ حِلَابَهَا , ثُمَّ أَمَرَ بِأُخْرَى فَلَمْ يَسْتَتِمَّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمُؤْمِنُ يَشْرَبُ فِي مِعًى وَاحِد, وَالْكَافِرُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ "، وقد رواه صَفْوَانَ بْنِ هُبَيْرَة عَنِ ابْنِ جُرَيْج عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِيه عَنْ سُكَيْنٍ الضَّمْرِي مثل متنه، وهو الأصح، على أن سكينا من بني ضمرة، وغفار أيضا من بني ضمرة لأن غفار هو ابن مليل بن ضمرة،
والعلة الخامسة أن حديثَ موسى الربذي الضعيف عن عطاء بن يسار عن الجهجاه الغفاري، قد رواه نفسُه عمرو بن يحيى الثقة عن سعيد بن يسار فقال فيه: عن رجل من جهينة مبهم، وأظنه هو سكين الضمري نفسه، لأن بطونهم متقاربة متداخلة فقد ذكر الزبيدي في تاج العروس مادة: بدر أنه اسم لمكان قيل أنه لبئر حفره رجل من غفار وسكنها قومه، وقيل: بل موضع سكنه رجلٌ مِن بَنِي ضَمْرَةَ فنُسِبَ إليه، وقال الشَّعْبِي: كانت بَدْرٌ بِئْراً لرجل من جُهَيْنةَ فسُمِّيت به"، ولا مانع من سكنها من طرف البطون الثلاثة ثم صارت بلدة واحدة، وعليه قد يكون الرجل الجهني هو نفسه سكين الضمري حتى تتوافق الأحاديث والله أعلم،
خرج رواية الجهني أبو يعلى وابن أبي عاصم في الآحاد من ترجمة جندب الجهني قالا: حدثنا إبراهيم بن حجاج السامي حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن سعيد بن يسار قال: رأيت رجلا من جهينة لم أر رجلا قط أعظم منه ولا أطول منه فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في أزمة أو لزبة أصابت الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توزعوهم، فكان الرجل يأخذ بيد الرجلين وكان القوم يتحاموني لما يرى من عظمي وطولي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي وذهب بي إلى منزله فحلب لي شاة فشربت لبنها حتى حلب لي ثم حلب لي أخرى فشربت لبنها ثم حلب لي أخرى فشربت لبنها حتى حلب لي سبعا قال : فذهبت ، فلما كان من الغد أسلمت ثم جئت ثم حلب لي شاة واحدة فشبعت ثم رويت فقلت : والله يا رسول الله ، ما شبعت قط ، ولا رويت قبل اليوم فقال:« المؤمن يشرب في معي والكافر يشرب في سبعة أمعاء"، وكذلك رواه سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى وهو حديث صحيح كل رجاله أئمة ثقات، والعجب بعد هذا لمن سيترك أحاديث الثقات، ويتبعُ روايةً من الواهيات، ليُثبِت الطعن في الصحابة الذين رضي عنهم رب السماوات.
ولئن كان الحديثُ لغفاريٍّ فإنه لأبي بصرة أو نضلة الغفاريان وليس للجهجاه فيه أصل:
فقد رواه محمد بن معن عن أبيه معن بن نضلة عن [أبي نضلة] نضلة بن عمرو الغفاري رضي الله عنه أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه شوائل له.. والأشبه أنه مرسل، بينما رواه ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي الهيثم عن أبي بصرة الغفاري في قصة إسلام غفار فذكر نحوه، وابن لهيعة ليِّن وقد اختلف عنه، ويحتمل أن أبا بصرة الغفاري تصحيف صوابه أبو نضلة الغفاري وهو نضلة نفسه الذي سبق والله أعلم، وكلا الطريقين أقوى من حديث موسى الربذي، وإن كان الصحيح أن صاحب القصة هو سكين الضمري والجهني كما تبين والله أعلم.
فدل كل ذلك على وَهْمِ ونكارة رواية موسى الربذي على ضعفه البين، وأن ليس للجهجاه فيه أصل، فقد قال ابن عدي في ترجمة عبيد: قال البخاري: عبيد الأغر القرشي عن عطاء بن يسار لا يصح حديثه، قال ابن عدي: وهذا الذي أشار إليه البخاري إنما هو حديث واحد يروي عنه موسى بن عبيدة"، وذكر في ترجمة موسى أنّ حديثه غير محفوظ وهو بَيِّنُ الضعف، وقال البخاري: ولا يصح جهجاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الأزدي في الضعفاء من ترجمة: جهجاه بن سعيد الغفاري من بني جروة بن غفار:" لا نحفظ أن أحدا روى عنه إلا عطاء بن يسار وحده"، وقال ابن حبان في الثقات: جهجاه بن سعيد الغفاري يقال إن له صحبة ولكن في إسناد خبره رجل ضعيف يقال له موسى بن عبيدة الربذي"، فدل ذلك أن جهجاها ليس بصحابي أصلا، وحتى لو ثبت حديث الربذي ـ ولن يثبت أبدا ـ فإنه لا يوجد أي دليل على أنه هو نفسه الذي حرض على قتل عثمان، بل هو مغاير له، لأن من أثبت ذلك لم يجزم باسمه فإنه قال: جهجاه الغفاري مدني وهو جهجاه بن مسعود ويقال ابن سعيد بن حرام بن غفار"، فيكونان متغايرين والله أعلم.
وأما قاتل عثمان فهو رجل آخر مجهول قال عنه الفيروز ابادي في القاموس: "وجَهْجاهٌ الغِفارِي ممَّنْ خَرَجَ على عثمان رضي الله تعالى عنه، كَسَرَ عَصَا النبي صلى الله عليه وسلم بِرُكْبَتِه"، وقد تتبعت طرق حديثه، فلم أجد منها شيئا يدل على صحبته ، إلا ما جاء في المدرجة التالية :
وهي ما خرجه ابن شبة في تاريخه (3/1112) عن علي بن محمد عن عبد الله بن مصعب عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرج عثمان رضي الله عنه من داره يوم الجمعة...، فناداه بعضهم: أنت السامع العاصي، وقام جهجاه بن سعد الغفاري – وكان ممن بايع تحت الشجرة - فقال: هلم إلى ما ندعوك إليه ، قال: «وما هو؟» قال: نحملك على شارف جرباء ونلحقك بجبل الدخان، لست هناك لا أم لك، وتناول جهجاه عصا كانت في يد عثمان رضي الله عنه، وهي عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها على ركبته، ودخل عثمان داره، وصلى بالناس يوم الجمعة سهل بن حنيف، ووقعت في رجل جهجاه الأكلة ".
والإدراج ظاهر فيها ، فإنَّ كل الرواة قالوا فيه كما سيتبين:" فقام إليه رجل"، إلا ما ورد في هذه الجملة الاعتراضية ولعلها من بعض النسَّاخ حيث أدرجها من فهمه ليُبَيِّنَ من هو الجهجاه ، كما أن في هذا الإسناد علي وعبد الله بن مصعب وهو ضعيفان، والزيادة مدرجة منكرة لا شك فيها لخلوها من سائر أحاديث الثقات،
وإذ ذلك كذلك فجهجاه هذا هو القاتل النعثل الحقير، وليس هو الصحابي الكبير، وهل يفرح أحد لقومٍ سلفهم جهجاه اللعين، الذي عاقبه رب العالمين، بالآكلة لكسره عصا النبي الأمين، على الخليفة الكريم، وقد أنكر عليه صنيعه كل المسلمين ، من الصحابة والتابعين ، كما بينت ذلك في المبحث المذكور وذكرت عشرات الطرق لهذا الحديث المتواتر عن هذا النعثل الحقير كاسر عصا النبي الكريم على هذا الخليفة الأمين ، وقد عاقب الله هذا النعثل بأن دخلت عليه شظية من هذه العصا في ركبته فوقعت فيه الأكلة فمات ألما والجزاء من جنس العمل ، وقد شاء الله أن ضببت تلك العصا واستمر العمل عليها في الخطب بين الخلفاء والتابعين والحمد لله رب العالمين .