ما رأيكم في تراجع ابن الصلاح ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وافق ابنُ الصلاح - فيما استقر عليه - كثيرا من الأئمة كمالك وغيره من أهل الحديث والفقه ، وكشيخ الإسلام ابن تيمية أيضا وغيره من المحققين ، وكأن ابن الصلاح رحمه الله لم يطلع على كلام من سبقه فيما ذهب إليه ، والعجب ممن تعقبه كالنووي وغيره ممن تأثر بكلام أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة كالجبائي والرازي والغزالي والباقلاني وغيرهم ، وظن من تعقبه أن ابن الصلاح قد انفرد وشذ عن جمهور العلماء .
قال رحمه الله في مقدمته لعلوم الحديث :
وَإِذَا انْتَهَى الْأَمْرُ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ إِلَى مَا خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ فِي تَصَانِيفِهِمُ الْكَافِلَةِ بِبَيَانِ ذَلِكَ - كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ - فَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى أَقْسَامِهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ .
فَأَوَّلُهُمَا : صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا .
الثَّانِي : صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ ، أَيْ عَنْ مُسْلِمٍ .
الثَّالِثُ : صَحِيحٌ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ ، أَيْ عَنِ الْبُخَارِيِّ .
الرَّابِعُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا لَمْ يُخْرِجَاهُ .
الْخَامِسُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُخْرِجْهُ .
السَّادِسُ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَمْ يُخْرِجْهُ .
السَّابِعُ : صَحِيحٌ عِنْدَ غَيْرِهِمَا ، وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
هَذِهِ أُمَّهَاتُ أَقْسَامِهِ ، وَأَعْلَاهَا الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ كَثِيرًا : "
صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ " . يُطْلِقُونَ ذَلِكَ وَيَعْنُونَ بِهِ اتِّفَاقَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، لَا اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ . لَكِنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ لَازِمٌ مِنْ ذَلِكَ وَحَاصِلٌ مَعَهُ ، لِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى تَلَقِّي مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ .
وَهَذَا الْقِسْمُ جَمِيعُهُ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ وَالْعِلْمُ الْيَقِينِيُّ النَّظَرِيُّ وَاقِعٌ بِهِ . خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ نَفَى ذَلِكَ ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي أَصْلِهِ إِلَّا الظَّنُّ ، وَإِنَّمَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ ، وَالظَّنُّ قَدْ يُخْطِئُ .
وَقَدْ كُنْتُ أَمِيلُ إِلَى هَذَا وَأَحْسَبُهُ قَوِيًّا ، ثُمَّ بَانَ لِي أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّحِيحُ ، لِأَنَّ ظَنَّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ لَا يُخْطِئُ . وَالْأُمَّةُ فِي إِجْمَاعِهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمُنْبَنِي عَلَى الِاجْتِهَادِ حُجَّةً مَقْطُوعًا بِهَا ، وَأَكْثَرُ إِجْمَاعَاتِ الْعُلَمَاءِ كَذَلِكَ .
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ نَفِيسَةٌ نَافِعَةٌ ، وَمِنْ فَوَائِدِهَا : الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَبِيلِ مَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابَيْهِمَا بِالْقَبُولِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ مِنْ حَالِهِمَا فِيمَا سَبَقَ ، سِوَى أَحْرُفٍ يَسِيرَةٍ تَكَلَّمَ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ النَّقْدِ مِنَ الْحُفَّاظِ ، كَالدَّارَقُطْن ِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .اهــ