الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه وبعد :
فإن خلاف أهل البدع في مسائل الإيمان والكفر والأسماء والأحكام ،قد أخذ منحى مختلفا عما كان في الأزمان السابقة ، إذا كان قبل ذلك خلافا صريحا ، يمكن إدراكه بمجرد الاطلاع على قول المخالف ومقارنته بقول السلف وظاهر النصوص ، كقول الجهمية مثلا : الإيمان هو المعرفة ، أو قول الأشاعرة : الإيمان هو التصديق ، وغير ذلك من الأقوال ، التي تعد ظاهرة في إخراج العمل من الإيمان .
أما الآن فقد أخذ الخلاف شكلا مختلفا ،معقدا نوعا ما ، فقد يحتاج كشفه والوقوف عليه إلى شيء من التعمق والتأمل ، وإنما يدعوا إلى هذا التعمق عدم ترتيب آثار هذه الأقوال على مؤثراتها ، أو ربط الوازم بملزوماتها ، فحينئذ يرجع إلى حقيقة قول هؤلاء بأن الإيمان قول وعمل ، وينظر في تحقيقهم وتفسيرهم لهذا الكلام ، فيتبين بعد ذلك ، أن فهمهم قاصر وتحقيقهم لكلام السلف يؤل بهم إلى قول المرجئة .
وقد يظن البعض أن هذا التعمق من التعمق المذموم ، ولكنه في الحقيقة هو نوع تحقيق للمفهوم ،لا يدخل بوجه في التعمق المذموم ، لا سيما ونحن في زمن التبست فيه كثير من الفاهيم الشرعية بالمصطلحات المنطقية والفلسفية والعقلية ، وغير ذلك من الأفهام القاصرة عن الوقوف على دقيق فهم السلف رحمهم الله .
وفيما يلي بيان نوع دقيق من مخالفة البعض لمفهوم السلف في الإيمان .
فقد نقل الشافعي رحمه الله إجماع الصحابة على أن : ( الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر )
والمخالف هنا لا يخالف في صحة هذا الإجماع ، ولا يناقش في ثبوته ، بل هو ممن يحتج به وينقله في تقريره وتأليفه ، ولكن الإشكال عنده ليس في تقريره ، ولا ثبوته ، بل في تحقيقه وتفسيره !
فهو يقسم هذا الإجماع إلى جزأين :
الأول القول بأن الإيمان قول وعمل ونية .
فيزعم أن العمل شرط في كمال الإيمان ، فلما انتقد بأن هذا خروج صريح عن إجماع السلف وتقريرهم أن العمل من الإيمان ، زعم أن الشرط هنا ليس الشرط الإصطلاحي ، فلما حوقق في كلامه أبان عن سوء فهمه لحقيقة الإيمان فقال : الإيمان المقصود في كلام السلف هو الإيمان المطلق ، الكامل بالمستحبات ، وهذا يعني أن أصل الإيمان يكون لا عمل ، بل يكون بالقول والإعتقاد دون العمل ...
وهذه في حد ذاتها مخالفة صريحة لكلام السلف كما سيأتي .
أما الجزء الثاني من الإجماع :
فزعم أن قول السلف : ( لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بلآخر ) يعني لا يتم ولا يكمل ، أو لا يجزئ عن العقوبة !
وهكذا اضطر لتحرف المفهوم بالكلية ليخرج به ورطة القول بأن العمل شرط كمال في الإيمان ، أو لعله ابتداءا قد قرر بأن العمل شرط كمال بناءا على هذا الفهم لكلام السلف في الإيمان وكلاهما لازم للأخر .
بينما كلام السلف رحمهم الله بعيد كل البعد عن هذا الفهم ، فكما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن السلف لم يكن مقصودهم بيان مراتب الإيمان ولا صفات الأفعال و وإنما كان مرادهم بيان جنس ما يتركب منه الإيمان ويتحقق به الدين ، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) فلا إيمان بلا عمل في أي إطلاق كان أصل أو فرع أو كمال ، فهذا شأن الحقيقة المركبة من أجزاء فهي تنتفي بانتفاء أحد أجزاءها بالكلية ، لذا فما يقال في عمل الجوارح يقال في اعتقاد القلب يقال في قول اللسان ، أن انتفاء أي من هذه الأجزاء تنتفي معه الحقيقة بالكلية ، وهذا المأخذ يختلف عن مأخذ حكم بعض الأقوال وبعض الأفعال وبعض الإعتقادات ، للأن الكلام عن الحقيقة مأخذا مختلف فهو ينظر للعمل والقول والإعتقاد كجزء محقق للماهية والحقيقة ، انتفاءه بالكلية يعني انتفاء الحقيقة ، ومن لم يفهم هذا ، يقرر حقيقة مختلفة لكل مرتبة من مراتب الإيمان ، فيزعم أصل الإيمان له يجزئ فيه القول والإعتقاد بينما الإيمان الواجب والكامل له حقيقة مختلفة يزيد فيها العمل الظاهر ، كل هذا خلط وعد فهم لكلام السلف الصحيح ، وهذا هو ما عليه الكثير من المعاصرين ، ممن يكون ظاهرهم الإلتزام بمنهج السلف بينما هم في الحقيقة مخالفون له في هذاغ الأصل الأصيل ، خارجين به إلى مذهب الإرجاء وهم يشعرون أو لا يشعرون .
ومن هؤلاء الذي وقعوا في هذه المخالفة ،الشيخ عدنان عبد القادر ،والشيخ على الزهراني ،والشيخ على الحلبي ، وكلهم قد ردت عليهم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والالإفتاء وقررت بدعية أقوالهم وخروجها عن أقوال أهلالسنة وأن القول بأن العمل شرط في كمال الإيمان وانه يجزئ القول والإعتقاد دون العمل بدعة الإرجاء في القديم والحديث ، ولا شك أنه يلحق بهؤلاء بعض الشيوخ في مصر والعالم العربي والإسلامي ،ممن وقع في هذه المخالفة ووافق هؤلاء على بدعتهم والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .