بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فقد أوجدنا الله عز وجل في دار الدنيا خلائف، كلما ذهب جيل خلفه جيل، وابتلانا بالاستخلاف لنكون معتبرين بمن قبلنا وعبرة لمن بعدنا، كما قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)، وقال سبحانه: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم)، فالاستخلاف نفسه-على ما يبديه ظاهره من تمكين اللاحق بعد السابق-من عيون ابتلاء الله لعباده، واختبارهم بما يلقون من شؤون زمانهم مما لم يكن فيمن كان قبلهم.
ولما بعث الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه عنوان دورة الزمان، واستئنافا جديدا لتاريخ البشر الذي لوثته أيدي العابثين، وحرفته أقلام الحاقدين، فأدرك الله عز وجل عباده برحمته إذ أرسل إليهم رسولا يرد به الأمور إلى نصابها الحق الذي خلقها عليه الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، كما قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)، وعليه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض[1]، إيذانا منه عليه الصلاة والسلام بأن تاريخا للبشر سيكتب من جديد على نور من هداية الله تعالى العباد إلى توحيده والاستمساك بعهده وعقده وهو القرآن الكريم[2].
ثم مضت السنون والقرون على ما دلت عليه سنة خير المرسلين من أسبقية الخير في صدر هذه الأمة، وذلك قوله عليه الصلاة والسلام: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم[3]. ثم رجع الناس إلى نقص بعد زيادة، وإلى منقصة بعد فضل، يذهب علماؤهم، ويتصدر جهالهم، ويؤخر عقلاؤهم، ويقدم سفهاؤهم، وتندرس فيهم السنن، وتفشو فيهم البدع، ويتنافسون بينهم الرذائل كما تنافس آباؤهم الفضائل.
ذاك هو الزمن الصعب، الذي حكم الله العدل بأن نكون من أبنائه، وأن نعيش في أثنائه، وأن ننسب إليه نسبة انتماء وإن هربنا منه هروب البراء، وهو لعمري زمان طالعتنا به الأسفار قبل أن يطالع الأنظار، وأخبرنا به الأعلام قبل أن تكاشفنا به الأيام، وكأنما كان القوم ينظرون إليه من سجف الغيب فيخبرون بما يرون، لا يخطئون منه علامة، ولا تفوتهم منه أمارة، ولا والله ما هو من علم الغيب، فقد استأثر به علام الغيوب، ولكن القوم كانوا على قدر من العقل عظيم، وعلى بصر من الفراسة حديد، يقيسون الأمور بأشباهها، ويحملون الأعيان على نظائرها، ففهموا نواميس الكون وقوانين دورة الزمان، واستبصروا بنور من السنة والقرآن، وعلموا مراد الله تعالى من قوله: (فاعتبروا يا أولي الأبصار).
فمما رأوه من ذاك الزمن البعيد انقلاب الموازين، واختلال المعايير في اعتبار صالح الأعمال من فاسدها، ومعروفها من منكرها، حتى إن أهله ليعصون وهم يحسبون أنهم يطيعون، ويفجرون من باب ما يظنون أنهم يبرون، أخرج الخطيب بإسناده عن إبراهيم الحربي قال: منكر زماننا معروف زمانٍ ما أتى، ومعروف زماننا منكر زمان ٍ قد مضى، ولئن نقص غيرنا منا كما نقصنا من غيرنا، ينزل الناس حتى يصيروا بمنزلة القردة والخنازير[4]. رحمك الله أبا إسحاق، قد صار الناس-والله-إلى ما ذكرت، فمنهم اليوم القردة الذين يرون الفضل في تمثل الفاسدين، ومحاكاة العابثين، همّ أحدهم في شهوتيه، فهو يومه دائب بين نزوة فحشاء ومذلة استجداء، ومنهم الخنازير الذين لم يتركوا بابا تعافه الأنفس الأبية والفطر السوية إلى طرقوه واستمرؤوه، كخنزير يرى جنانه وسط العفن، ولا يشعر بخنزيريته إذا لم يكن ديوثا دنيئا، سلمنا الله من أحوال أهل النار.
ومما رأوه من وراء أستار الماضي البعيد أن يكون حكم الناس في جهلهم، واحتكامهم إلى جاهلهم، لا يعرفون إلى أهل العلم دليلا، ولا يهتدون إلى أرباب العقل سبيلا، بل إذا اختلفوا ففزعهم إلى سيوف العدوان، ورماح الطغيان، ذكر التوحيدي عن الإمام عامر الشعبي قال :تعايش الناس زمانا بالدين، حتى ذهب الدين، وتعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم يعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زمنا طويلا[5]. غفر الله لك أبا عمرو، أكنت ترانا إذ وصفتنا، قد أقصدتنا والله فأصبتنا. ما بين الناس من يحتكم إلى دين ويرد الخلف إلى شرعة رب العالمين، ولا من تدعوه المروءة إلى الإنصاف، ولا من ينهاه الحياء عن الإسراف، ولا من يحمله الوعد والوعيد على الانكفاف، ما بقي من عامة الناس إلى من ركب مركب الجهل هائجا جموحا، يضرب الناس عن اليمين والشمال، إن لم يكن ظالما بالفعل، فهو ظالم بالقوة، عاقد النية إن مُكِّن أن يكون الظلم شعاره والجهل دثاره، ولم ينج من هذه الأوصاف إلى من رحم الرحمن، نسأل الله أن يجعلنا من أهل رحمته وعصمته.
ومما رأوه بصائب الأنظار وإن لم تدركه منهم الأبصار، طيش العقول وسفه الأحلام، وذهاب الرزانة عن العقول والأفهام، حتى إن من بقي فيه مسكة عقل وعقدة حجى ليحار بعقله إلى أن تسوقه الحيرة إلى الشك في فهمه، لا يكاد يجد من يعقل عنه إذا هو تكلم بما يقتضيه الشرع وتمليه الفطرة، فلا يكاد يجد لكلماته موقعا، ولا على فكره موافقا، أخرج أبو نعيم بإسناده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: يأتي على الناس زمان يُعرج فيه بعقول الناس حتى لا تجد فيه أحدا ذا عقل[6]. رضي الله عنك يا أبا العباس، والله لا نشك في علمك وأنت ترجمان القرآن، ولا في عقلك وأنت ابن حكم العرب، ولا ينقضي عجبنا من صدق فراستك كأنك رأيت عقول القوم يعرج بها، يبيت الرجل عاقلا لبيبا، فتحمه الفتنة، فيصبح طائشا سفيها، ويقوم في الناس واعظا بالحق قائما بالقسط، فتدور به المحنة فتتركه هازئا بموعظته كافرا بمقالته، وإلى الله المشتكى من سوء المنقلب.
ومما رأوه رأي الألمعي، السبق بالجهل والعدوان، وأن تحل الإساءة محل الإحسان، وأن تحسن إليهم فلا يجزوك إلا مساءة، وتتركهم فلا يصِلوك إلا حقدا ودناءة، وهذا داء في الناس قديم، "إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي"[7]، وقد أربى عليهم أهل الزمن الصعب بأن عدوا على من تركهم، ذكر ابن الملقن عن الفضيل بن عياض قال: يأتي على الناس زمان إن تركتهم لم يتركوك[8]، غفر الله لك أبا علي، هذه والله التي لا نستطيعها إلا بعون من الله وعصمة، فمن تعرض للبلاء فقد أساء، ومن اجتهد في اعتزال الفتنة، فلم تزل تصيبه من الجهال محنة بعد محنة فليحتسب عند الله أعظم الحسب فهذه حال الزمن الصعب.
وهذا لعمر الله بعض ما رأوه، ولو ذهبنا نستقصيه لطال بنا المقام، ولا أحب أن أرسل الكلام في هذه المقالة داء بلا دواء، فلا مناص من بيان يشفي بعض ما يقذي عيون الصالحين من بيان أحوال هذا الزمان. فأول ذلك أن يعلم المؤمن أن السلف رحمهم الله ما حدثوا بهذه الأخبار والفراسات ليؤيسوا من بعدهم من صلاح الحال، بل ليحذروهم وينبهوهم إلى ما يستقبلهم من الفتن العظيمة، حتى يكونوا منها على ذُكر واحتراس، وهذا أصل عظيم في فهم أحاديث الفتن المروية عن رسول رب البرية، وإليه أرشد عليه الصلاة والسلام بقوله: وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي..[9]، فلم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم الخبر بالداء حتى أتبعه عاجلا بالدواء، رحمة بأمته وإرشادا لما فيه عصمة جماعتهم من الفتنة.
والبيان الثاني أن يعلم المرء أن فساد عموم الخلق في آخر الزمان ليس مدعاة لمجاراتهم على سفاهتهم، ومتابعتهم في غوايتهم، بل المؤمن حجيج نفسه، ومن علم الحق وعقله فقد لزمته الحجة بالمتابعة، قال عبد الله بن مسعود: لا يكون أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن؟ قال: يقول: إنما أنا مع الناس، إن اهتدوا اهتديت، وإن ضلوا ضللت، ألا ليوطن أحدكم نفسه على إن كفر الناس ألا يكفر[10]. وليعلم أنه ما طاب ظاهر عيش جاهل بجهله إلا طاب مثله للعاقل بعقله، أخرج الخطيب بإسناده عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج قال: جمعتنا أمنا فاطمة بنت الحسين بن علي فقالت: يا بَني، إنه والله ما نال أحد من أهل السفه بسفههم شيئا، ولا أدركوه من لذاتهم إلا وقد ناله أهل المروءات بمروءاتهم، فاستتروا بجميل ستر الله عز وجل[11].
والبيان الثالث أن يعلم المسلم أن العصمة من الفتن بيد الواحد الأحد سبحانه، فلا يكل نفسه إلى عقل مظنون، ولا صبر مرجوّ، وليكن لجوءه إلى ربه أن يعصمه من الفتن كل حين، ولا يكله إلى نفسه طرفة عين فيضل، قال أبو الشيخ الأصبهاني: حدثنا محمد بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن أورمة يذكر أن رجلا قال عند سفيان الثوري: اللهم لا تخلِّفنا في الأشرار، فقال سفيان: قد خلفت في الأشرار، فادع الله ألا يجعلك منهم[12]. وأخرج الخطيب بإسناده عن أبي جعفر الحذاء قال: قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا يتكلم في القدر، أعني إبراهيم بن أبي يحيى، قال: عرفوا الناس بدعته، وسلوا ربكم العافية[13].
اللهم إن أخرتنا إلى زمن هذه صفاته، فأحينا فيه صابرين محتسبين، واقبضنا إليك منه غير مفتونين ولا فاتنين، سلم الله ديننا من الفتن، وعصمنا بفضل رحمته من البدع المضلة والأهواء المستزلة، هو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.



[1]-أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.

[2]-ما أبدع الكلمة التي قالها الداعية الشيخ أحمد ديدات رحمه الله: إذا كانت التوراة هي العهد القديم، والإنجيل هو العهد الجديد، فإن القرآن هو العهد الأخير.

[3]-أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.

[4]-الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (3/473).

[5]-أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، (8/88).

[6]-أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، (1/328).

[7]-من حديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.

[8]-ابن الملقن، طبقات الأولياء، ص45.

[9]-أخرجه أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية.

[10]-أخرجه الطبراني في الكبير، وبنحوه أبو نعيم في الحلية، وقد أخرجه الترمذي من حديث حذيفة مرفوعا، ولا يصح كما ذكر الألباني في غير موضع من كتبه.

[11]-الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (3/375).

[12]-أبو الشيخ الأصبهاني، طبقات المحدثين بأصبهان، (3/191).

[13]-الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (3/415).