شذرات من السير ة النبوية المعطرة

بقلم – فالح الحجية

15

في ليلة الاثنين الاول من ربيع الاول من العام الرابع عشر من النبوة ركب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم راحلته صحبة ابي بكرالصديق والدليل ( عبد الله بن اريقط الليثي ) وصحبهم عامر بن فهيرة مولى ابي بكرالصديق وتحرك الركب من غار ثور متجها الى يثرب وسلك بهما الدليل طريقا غير مسلوك الا قليلا باتجاه الجنوب نحو اليمن حتى ابعد كثيرا اخذ بهم الى الغرب نحو البحر- وهذه اول خطوات البعثة النبوية المعطرة – ثم اتجه الركب الى الشمال على مقربة من ساحل البحر وسلكت القافلة المهاجرة طريقا لم يسلكه احد من قبلهم الا قليلا . وكان هذا العام العام الهجري الاول في التقويم الاسلامي القمري الذي يبدأ باول محرم الحرام وينتهي بانتهاء ذي الحجة من كل عام .
وقالت اسماء بنت ابي بكر : لما خرج والدي اخذ معه كل ماله فدخل علينا جدي ابو قحافة وكان فاقد البصر فقال :
-اني والله لأراه فجعكم بماله مع نفسه
فقلت له: كلا والله لقد ترك لنا خيرا
واخذت حجارة فوضعتها في كوة البيت وقلت له:
- ضع يدك على المال.
فوضعها وقال : لا باس ان كان قد ترك لكم هذا فقد احسن
وقالت : والله ماترك لنا شيئا وانما اردت ان اسكت الشيخ .

والت القافلة سيرها الليل كله وانتصف النهارالتالي واصبح الطريق قفرا خاليا عندئذ نزل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليستريح تحت ظل صخرة بينما راح ابو بكرالصديق يستكشف ما حوله فشاهد راع يرعى فاستحلب منه ابو بكر فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم سقاه ابو بكر حتى شبع ثم ارتحلوا.
في اليوم الثاني من هجرتهم الميمونة مروا على خيمة ام معبد وام معبد هذه امراة من كعب وفي رواية اخرى من خزاعة وزوجها يسكنون في موضع يسمى ( المشلل) في ناحية قرية ( القديد) التي تبعد عن مكة بحوالي\ 130 كم وكانت تطعم من مر بها وتسقيه يعرفها القاصي والداني فنزلوا عندها وسألوها ان كان عندها شيء ياكلونه فاعتذرت عن اقرائهم واخبرتهم ان الشياه عازب – بعيد المرعى والكلا . فشاهد النبي صلى الله عليه وسلم نعجة قرب الخيمة اجهدها الهزال والضعف ولم يكن فيها قطرةمن لبن فاستاذن ام معبد بحلبها فحلبها فبارك الله فيها ودرت لبنا كثيرا سائغا طيبا ملأ الاناء الكبير وفاض منه . فسقى النبي صلى الله عليه وسلم ام معبد حتى رويت ثم سقى اصحابه حتى شبعوا ثم شرب فارتوى ثم حلبها ثانية بملئ الاناء وتركه عندها وارتحلوا . فلماء جاء زوجها يسوق اغناما عجافا وفي رواية اخرى عنوزا عجافا فتعجب حين شاهد اللبن الكثير فقا ل لها:
- من اين هذا ؟؟؟
قاخبرته القصة بان رجل مبارك مر بها مع اخرين ووصفت النبي صلى الله عليه وسلم من مفرقه الى قدمه فقالت ( انه رجل ظاهر الوضاءة حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزور به صعلة وسيم قسيم في عينيه دعج وفي اشفاره وطف وفي صورته صحل وفي عنقه سطع وفي لحيته كثاثة احور اكحل ازج اقرن شديد سواد الشعر اذا صمت عليه الوقار واذا تكلم علاه البهاء اجمل الناس وابهاه من بعيد واحسنه واحلاه من قريب حلو المنطق لا نذر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدون ربعة لا تقتحمه عين من قصر ولا شنوءة من طول غصن بين غصنين فهو انضر الثلاثة منظرا واحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به اذا قال استمعوا لقوله واذا امر تبادروا الى امره محفود محشود لا عابس ولا مفند)
فقال ابو معبد: والله هذا صاحب - قريش الذي تطلبه ولقد هممت ان اصحبه ولأفعلن ان وجدت الى ذلك سبيلا .
وفي صباح ذلك اليوم صاح صوت بمكة عاليا يسمعه الجميع ولا يرون القائل وهو ينشد:

جزى الله رب الناس خير جزائه
رفيقين حلا خيمتي ام معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به
فافلح من امسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكمو
به من فخار لا يحاذى وسؤدد
ليهن بنو كعب مكان فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا اختكم عن شاتها وانائها
فاكموا ان تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزيد
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
وقدس من يسري اليه ويغتدي
وعن اسماء بنت ابي بكر قالت :
- مكثنا ثلاث ليال لا ندري اين توجه النبي صلى الله عليه وسلم اذ اقبل رجل من الجن من اسفل مكة يتغنى بابيات غناء العرب والناس يتبعونه ويسمعون منه ولا يرونه حتى خرج من اعلى مكة فعرفنا حدسا اين توجه رسول الله .

ثم ساروا حتى جاوزوا ( القديد) فتبعهم سراقة بن مالك بن جهشم المدلجي آملا في جائزة قريش ( مائة بعير لمن ياتي بمحمد وصاحبه حيا اوميتا ) فلما وصل قريبا منهما كبت فرسه حتى سقط عنها ثم نهض فاستقسم بالازلام ايضرهم ام لا يضرهم فخرج الذي لايضرهم لكنه عصى الازلام وركب ثانية هم اللحاق بهم حتى دنا منهم بحيث يسمع ما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت اليه وابو بكر يكثر الالتفات في كل جانب . فساخت ارجل الفرس الامامية حتى ركبتيها فخر عنها الى الارض ثم زجرها فاخرجت يديها من الارض فلما استوت قائمة صار لاثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان عاليا فوقف سراقة استقسم بالازلام ثانية فظهر الذي يكرهه فداخله رعب كبير وفطن ان امر رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد سيظهر فسألهم الامان فوقفوا حتى لحق بهم واخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قرره اهل مكة وعرض عليه الزاد والمتاع فلم يأخذ منه شيئا وطلب منه ان يخفي امرهما ورجاه سراقة ان يستكتبه الامان فكتبه عامربن فهيرة في اديم ودفعه اليه ورجع سراقة. فكان كل من لقيه في الطريق يؤكد له بعد م رؤيته لهم .

و قد لقيهما في الطريق بريدة بن الحصيب الاسلمي في سبعين رجلا فارسا فاسلموا وصلى بهم صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء الاخرة ثم لقيهما الزبير بن العوام في بطن وادي (الريم) في ركب من المسلمين كانوا في تجارة من الشام فكسى الزبير النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه بملابس بيضاء.
ولما بلغ الانصار في يثرب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة قاصدا مدينتهم كانوا يخرجون في كل يوم الى ( الحرة ) ينتظرون قدومه فاذا اشتد حر الشمس رجعوا الى منازلهم وفي يو م الاثنين الثاني عشر من ربيع الاول خرجوا كعادتهم فلما حميت الشمس رجعوا فصعد رجل من اليهود على اطم من آطام المدينة فراى ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه من بعيد يزول بهم السراب بملابس بيضاء فصرخ باعلى صوته :
يابني قيلة ( وهي ام الاوس والخزرج كما سبق واشرنا له ) هذا صاحبكم قد جاءكم من تنتظرونه .

هب الانصار راكضين نحو القافلة بحر الظهيرة الى (السلام) موضع معروف ليلتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعوا التهليل والتكبير في بني عمرو بن عوف فكبرالمسلمون وخرجوا الى لقياه وحيوه بتحية النبوة والاسلام واحدقوا به رافلين بالفرح والسرور . فنزل بهم في بني عمرو بن عوف في (قباء) على مقربة من المدينة المنورة ( يثرب ) التي نورها النبي الحبيب المصطفى بنوره فاصبحت تسمى المدينة المنورة من ذلك الوقت وقد نزل رسول الله في (قباء) على كلثوم بن الهدم وقيل في رواية اخرى على سعد بن خيثمة حيث مكث فيها اربعة ايام وقد اسس في اثنائها مسجد قباء المعروف اليوم وهو اول مسجد اسس وبني في الاسلام. وقد زرناه وتبركنا به هذا العام والحمد لله.
وفي يوم الجمعة اليوم الخامس من وصوله ركب صلى الله عليه وسلم بامر من الله تعالى وابو بكر معه فارسل الى اخواله بني النجار فحضروا متقلدين سيوفهم فسار فيهم نحو المدينة المنورة وادركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلى الجمعة فيهم في بطن الوادي في موضع المسجد الموجود الان في بطن الوادي وهم قرابة مائة رجل .
ثم ركب متجها نحو مركز المدينة وقد زحف الناس لاستقباله وارتجت البيوت والسكك والشوارع بالتحميد والتقديس وخرج النساء والصبان والاولاد وهم يتغنون :

طلع الفجر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ايها المبعوث فينا جئت بالامر المطاع

وكان الانصار كل منهم ياخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون .:
- هلم الى العدد والعدة والسلاح والمنعة
فيجيبهم صلى الله عليه وسلم :
- خلوا سبيلها فانها مامورة
فلما وصلت الناقة الى مكان المسجد النبوي الشريف بركت فلم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلا ثم التفتت ورجعت ثم بركت مرة تخرى في موضع بروكها الاول فنزل النبي صلى الله عليه وسلم عنها . فاخذ الناس يترجونه ويكلمونه في النزول عليهم فاحب ان ينزل على اخواله تكريما لهم . فبادر ابو ايوب الانصاري فادخل رحله الى بيته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
- المرء مع رحله .
واخذ اسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده . فتسابق سراة الانصار الى استضافة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت تاتيه الجفان مليانة . تاتيه منهم في كل ليلة وعلى بابه ثلاث او اربع جفان. واصبح كما قال شاعرهم قيس بن صرمة :

ثوى في قريش بضع عشرة حجة
يذكر لو يلقي حبيبا مواتيا
فلما اتانا واستقر به النوى
واصبح مسرورا بطيبة راضيا
واصبح لايخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الاموال من جل مالنا
وانفسنا عند الوغى والتآ سيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم
جميعا وان كان الحبيب المصافيا
ونعلم ان الله لا رب غيره
وان كتاب الله اصبح هاديا

وقال الشاعر حسان بن ثابت :

قومي الذين هموا آووا نبيهمو
وصدقوه واهل الارض كفار
الا خصائص اقوام همو تبع
في الصالحين مع الانصار انصار
مستبشرين بقسم الله قولهموا
لما اتاهم كريم الاصل مختار
وقال ايضا :
نصرنا وآوينا النبي محمدا
على انف راض من معد وراغم
قال البراء :
اول من جاءنا مصعب بن عمير وابن مكتوم فجعلا يقرآن النا س القرآن ثم جاء عمار بن ياسر وبلال وسعد ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكبا ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم )
فاقام النبي عند ابي ايوب حتى بنى بيته ومسجده .

بعث النبي صلى الله عليه وسلم- وهو مقيم في منزل ابي ايوب الانصاري – زيد بن حارثة وابا رافع الى مكة فقدما اليه بابنتيه فاطمة وام كلثوم وزوجته سودة بنت زمعة واسامة بن زيد وام ايمن . وكذلك خرج معهم عبد الله بن ابي بكر وفيهم عائشة ايضا .
اما علي بن ابي طالب رضي الله عنه فبقي بمكة ثلاثة ايام بعد هجرة النبي ادى الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل مكة ثم هاجر ماشيا على قدميه فلحق بركب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فنزل على كلثوم بن الهدم . ثم هاجر صهيب فحجزه مشركو مكة فتنازل عن امواله لهم على كثرتها فسمحوا له بالهجرة فلما وصل المدينة واخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال :
- ربح البيع ابا يحيى . حيث كانت كنية صهيب ( ابو يحيى )

يتبع
فالح نصيف الحجية
العراق- ديالى – بلدروز
9\3\2012