الباب الأول
الفرقان الاسلامي وانطلاقه الإحياء
ويشتمل علي أربعه فصول:
الفصل الأول : حتي يغيروا ما بأنفسهم
الفصل الثاني : الأفكار أساس التغيير
الفصل الثالث : تصحيح الأفكار والمفاهيم
الفصل الرابع : إقامة الفرقان الإسلامي
الفصل الأول
حتي يغيروا ما بأنفسهم
يخضع إحياء أمة من الأمم أو حماية مجتمع ما لسنن ربانية جارية تنطبق علي الأمة الإسلامية كما تنطبق علي غيرها من الأمم ، وكل من يريد بناء مجتمع وإحياء أمة إذا لم يسر وفق هذه السنن ولم يفقه عوامل الهدم والبناء فلن يتمكن من إحياء هذه الأمة أو بناء ذلك المجتمع ،وسيخر صنيع السنن الربانية الجارية التي لاتحابي أحدا!!
انه" لا شيء في هذا العالم يحدث اعتباطاً ، ولا يمكن أن يحدث شيء واحد في حياه البشر اعتباطاً ،إنما يجري كل شيء في حياه البشر حسب سنة الله التي لا تتخلف ولا تحابي أحداً من الخلق**فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }-فاطر 43"(1) وهيهات أن يجدي (تعجل) الأذكياء أو (أوهام) الأصفياء مع سنن الله الجارية ،فسنن الله غير قابله للتغيير ولا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباه.
"ومن سنن الله أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الرّقيّ والانحطاط ، فالتغيير يبدأ من النفس سواء بالارتقاء والارتفاع إلي أعلي أو بالانتكاس والهبوط إلي أسفل"(2) وقد طرح القرآن أن الحد الإيجابيّ لهذا التغيير بقول الله عز وجل : ** إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } الرعد11 وطرح حدّه السلبي بقوله سبحانه : **ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } الأنفال53
"لقد أنعم الله علي الأمة الإسلامية بالتمكين والاستخلاف والتأمين ، وفتح عليها بركات من السماء والأرض كما وعد المتقين **وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا } النور55 ، وقال سبحانه ** وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ } الأعراف96 ثم تغير الحال من الاستخلاف والتمكين والتأمين إلي الذل والضعف والهوان والتشريد والتنكيل والتقتيل حين صاروا إلي الصورة التي أنذرهم بها رسول الله صلي الله عليه وسلم وحذرهم منها " يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تداعي الأكلة إلي قصعتها " قالوا أمن قله نحن يومئذٍ يا رسول الله قال : " أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)أخرجه أحمد" (3)
إن رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث " يقرأ التاريخ قبل أن يقع ، ويحذّر من الوقوع فيه ، علي أساس أن الأمر علي نظام وسنن ، سواء في الوقوع في القصعة المستباحة أو الخروج منها " (4) وما كان تأخر الأمة الإسلامية حضارياً وعسكرياً وسياسياً واقتصاديا إلا بعد أن فسد تصورها ، وتبدّل سلوك أفرادها فاستحقت أن يغير الله ما بها مما أعطاها إياه من النعم التي لم تقدرها ولم تشكرها ، فما حدث لها هو انطباق لسنه الله عليها حين عرضت نفسها لها "والإنسان حين يعرض نفسه لسنه الله لابد أن تنطبق عليه مسلماً كان أو مشركاً،ولا نتخرق محاباة له" (5)
وإذن فسواء شئنا أم أبينا " فنحن ــ أولاً وأخيراً ــ مسؤولون عن هزائمنا ، وتخلفنا الحضاري ومرفوضة كل محاولة تسعي إلي اتخاذ ممارسات الأمم الأخرى مشجباً لتعليق هذه الهزائم وتبريرها" (6)**قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} ــآل عمران165 بل كل من يحاول أن يزحزح مسؤوليتنا عن عاتقنا ليضعها علي كاهل الغير ، هو في الحقيقة يلحق بنا الضرر ويؤخر خروجنا من مرحله (القصعة ) التي وصلنا اليها.
إن بداية الخروج مما نحن فيه ، هو أن نخرج من نطاق التعميمات والشعارات والاقتصار علي التوجه صوب (الآخر) ، والإلقاء بالتبعة عليه ، لنضع أيدينا علي الأسباب الحقيقية التي هيأت الأمة ( للإصابة) فإذا فعلنا ذلك كانت هذه هي الخطوة الأولي والحاسمة التي توقفنا علي الأرض التي تسمح برؤيه الأشياء علي حقيقتها ، ومواجهة مشاكل الواقع من خلال سنه الله الربانية في تغيير النفس والمجتمع ، والتي تقرر أن التغيير إلي الأفضل أو الأسوأ لا يحدث إلا إذا سبقه تغيير جماعي يقوم به ( القوم ) لما بالأنفس من أفكار ومفاهيم واتجاهات " فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم وتنفذ فيهم سنته بناء علي تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم "(7)
إن سنه الله وشرعة السماء (غيّر نفسك تُغَيّر واقعك) ولكنها ليست سنه (فرد) وإنما سنة (مجتمع) و( أمة) ، بمعني أنه وإن كان التغيير ينصب علي الذات في إطارها الفردي بالدرجة الأولي ، لكنه لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا انسحب علي الأمة والقوم ، فالله عز وجل يقول : ** إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ }ـــ الرعد11 فالآية تربط التغيير بتغيير ما (بقوم )و (أمة) وليس فرداً واحداً(8)
وهذا هو مافعله الإسلام يوم جاء من عند الله فإنه " لكي ينشئ الإسلام الواقع الجديد – الذي ارتضاه الله للبشر ــ ولكي يغير الواقع الجاهلي الذي يعبد الناس فيه بعضهم بعضا، ثم لكي يقيم الضمانات دون ارتداد البشرية في طور من أطوارها إلي الجاهليه لم يكن بد أن يغيّر تصوراتها الجاهلية ،وينشئ لها تصوراً آخر ربانياً ،يقوم عليه واقعها –أو بتعبير أصح وأدق ينبثق منه واقعها "(9)
لقد كانت خطوة هذا الدين الأولي في سبيل إحياء الأمة الإسلامية هي تغيير لما بالأنفس غايته هجر الأفكار والثقافات والقيم الخاطئة بكل موروثاتها الصنمية ، إلي الإسلام بقيمته التوحيدية ،ولم يكتف صحابه رسول الله صلي الله عليه وسلم بالالتفاف حول صاحب الدعوة" بل جاهدوا أنفسهم حتي تتغير وتتلاءم وطبيعة هذه الدعوه وكان نطق الواحد منهم بالشهادتين بمثابة ولادة جديدة له ، فكان علي أعتاب الدخول في الإسلام ، يخلع عنه كل ماضيه ليرتدي حله الإسلام ، التي تصوغ نفسه صياغة ربانيه وبمثل هذا التغيير الذي حدث في نفوس السلمين الأوائل ، حصل التغيير الحضاري ، الذي لم تشهد البشرية مثيلاً له ، لا قبله ولا بعده والسبب أن هذا التغيير يساير السنة التي فطر الله عليه أمور خلقه ، والتي بينتها الآية الكريمة في قول الله تعالي : ** إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ــالرعد11 ـــ فعندما تغيرت تلك النفوس بالإيمان ، غيّر الله مابها من جاهليه ، وخلّصها من ربقة القبلية الضيقة الشقية إلي آفاق الأمة الموحدة المتكاملة" (10)
إن التغيير ليس هديه تُعطي ، ولا غنيمة تُغْتصب ، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بتغيير ما بالأنفس ، فهما متلازمان ولا يتغيّر واقع الأمة إلا تغير ما بأنفس أفرادها " تغييراً يمتد إلي كافه المساحات وسائر المكونات النفسية الأساسية : العقلية والروحية والجسدية ، وكل العلاقات والبني الداخلية مع الذات ومع الآخرين ، والتي تمكن الجماعة المسلمة من مواجهه حركة التاريخ " (11) فإذا أردنا تغيير واقعنا الذي نشكو منه ، وإذا أردنا إحياء الأمة الإسلامية فإن السبيل إلي ذلك هو تصفيه أفكارنا وإطارنا الخلقي مما فيه من عوامل ( قتّالة) و ( ورمم ) لا فائدة منها حتي يصفو جو الأمة للعوامل ( الحيّة) والداعية للحياة ، والتي بها يتم إحياء الأمة
وإذا كنا نرغب في تطبيق الإسلام في دنيا الواقع ، وتحكيم الشريعة الربانية في ظل دوله الإسلام ن فإن هذه الدولة يرتبط وجودها بسنن الكون وأسبابه ، ولابد من جمع أسباب تلائم طبيعة هذه الدولة المنشودة "فإذا تجمعت هذه العوامل ولأسباب وتفاعل بعضها مع بعض وعلا شأنها وقوي أمرها بعد مراس وصبر عظيم ، حتي لتكاد تندفع اندفاع السيل ، لم يبق في مُكنة نظام آخر أن يقوم في وجه المجتمع الذي تولّد من تفاعلات تلك الأسباب والعوامل،فحينذا ك يحل محله النظام المنشود الذي سعت في إيجاده وتكوينه تلك الأسباب القوية والعوامل المؤثرة النافذة ،فمثله كمثل بذره تعيش إلي ما شاء الله في باطن الأرض ثم تخرج علي وجه الأرض شجره تنمو وتكبر حتي تصير باسقة وتثمر من الثمار ما تنزع إليه بنيتها الفطرية" (12)
إن من الأهمية بمكان أن نقوم بعمليه تغيير ما بالأنفس وفق منهج واضح يحيط بما ينبغي تغييره ،والزمن الذي يحتاج إليه التغيير إذا استخدمت الإمكانيات بكفاءة ،فإذا فعلنا ذلك تغيّر ما بنا من أزمات سياسيه واجتماعيه واقتصاديه ،وخرجت أمتنا من التبعية إلي الرياده ومن الاستضعاف إلي التمكين ومن الفرقة والضعف إلي الائتلاف والقوة.
وبكلمة :
إن تغيير ما بأنفس الأفراد هو الشرط الجوهري لكل تغيير للمجتمع ولأمه ،ولن يكون هناك سحر يمحو ضعف أمتنا وتخلفها في لحظات ويبدلهما تقدماً وقوه ،إنما هناك سنن ربانيه تقوم عليه حياه الناس في الأرض وليس من السنن الربانية أن نفسد ديننا ثم نقول :يارب يارب إنما لابد من تغيير ما بالأنفس من أفكار ومفاهيم واتجاهات ،ولن تنجو أمتنا من التبعية والاستضعاف والفرقه ،إلا إذا نجت نفوس أفرادها من أن تتسع للتبعية ،وتخلصت من تلك الروح التي تؤهلها للاستضعاف
ولكي لانكون مستعبدين ومستضعفين ،يجب أن نتخلص من القابلية للاستعباد والاستضعاف ، وهذا هو المنهج الصحيح للتغيير،والذي أضاءته بنورها تلك الآية الكريمة:
** إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
ثبت المراجع
(2) منهج كتابه التاريخ الإسلامي-محمد السلمي ص64
(4) حتي يغيروا ما بأنفسهم – جودت سعيد ص 101
(6) العقل المسلم والرؤية الحضارية عماد الدين خليل ص 52
(8) كتب الأستاذ جودت سعيد رسالة بعنوان"حتي يغيروا ما بأنفسهم" ركّز فيها بحث تغيير المجتمعات فراجعها إن شئت
(10) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق-د أحمد كنعان ص 157
(11) العقل السليم والرؤية الحضارية- د عماد الدين خليل ص 43
(12) العقل السليم والرؤية الحضارية- د عماد الدين خليل ص 43 .