في كُتيِّب صغير بعنوان "القصة في الشعر العربي" يقول ثروت أباظة:
"ويَروي التاريخ ... أنَّ جميلاً كان وسيمًا قسيمًا، طويل القامة عريض المنكبين، متأنِّق الملبس.
أمَّا بُثينة، فيقول عنها العقاد: وصفها جميل بعين المحب ووصفها غيره كما يراها كلُّ من رآها... ".
ثُمَّ حكى الأستاذ ثروت أباظة أوَّل لقاءٍ بين جَميل وبثينة من خلال بيتَي جميلٍ المشهوريْنِ:
وأوَّلُ ما قاد المودَّةَ بيننا * * * بوادي بغيضٍ يا بُثَينُ سِبابُ
وقلتُ لها قولاً فجاءتْ بمثلِه * * * لكلِّ كلامٍ يا بثينُ جوابُ
- - -
وحكى أحدُ أساتذتنا في دار العلوم هذه القصَّة، فذكر أنَّ جميلا كان بينه وبين أُختٍ لبُثينة شيءٌ من المحبَّة، وما كاد يتركُها حتَّى وقع له هذا اللقاءُ مع بُثينة، فهامَ بها سريعًا.
وعلَّق على القصَّة بأنَّ جميلاً هو الذي رمى نفسه في حُبِّ بثينة، أو هو الذي سعى إلى ذلك الحبِّ بقدمَيه!
- - -
كان وقْع هذا التعليقِ عليَّ غريبًا، مَن هذا الذي يَرمي بنفسِه في الحبِّ ليظلَّ بعد ذلك يشكو ويئنّ، ويتوجَّع ويتألَّم!
وأيُّ نائلٍ ناله جميلٌ من حبِّه بُثينة سوى الشكوى والألم، وأن شُهِر بها وعُرفتْ به!
كما قيل:
وما نِلتُ منها نائلاً غيرَ أنَّني * * * بشجْو المحبِّين الأُلى سلَفوا قبْلي
بلى ربما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ * * * إليْها تَزيدُ القلبَ خبْلا على خَبْلِ
- - -
ولم أفقْ من دهشتي لهذا التعليق من أستاذي بدار العلوم إلاَّ على تعليقٍ آخر، أكثرَ صراحةً وأكثرَ مَرارةً، يقول صاحبه:
الشاعر لا يُحبُّ سوى القصيدة، وولاؤه للقصيدة أكبر من ولائه لأيِّ شيءٍ، وأكبر من تلك التي يُسمِّيها مَحبوبة.
بل الشَّاعِرُ لا يُحبُّ من النِّساءِ إلا تلك التي تُلْهِمُه قصيدة.
بل الشَّاعرُ لا يُحبُّ تلك المرأةَ - المَحبوبة - إلا لأنَّها ألهمتْه تلك القصيدة - المحبوبة الأكبر.
وبعض النساء مُلهِماتٌ بالشِّعر بأصْل خِلقتهنَّ.
جُبِلْن على ذلك، لم يكتسبْنَه.
كأنما ينبعث الشِّعر من كلماتهنَّ .. أو من نظراتهنَّ .. لا تَدرِي.
- - -
لم أعُد أعرف في الحقيقة، هل يُحب الرجُل - الشاعرُ - المرأةَ أو القصيدة؟!
وهل يُحبُّ المرأةَ من أجل القصيدةِ أو يُحبُّ القصيدةَ من أجل المرأة؟!
لكنَّ الذي أعرفُه، أنَّ الإلهامَ بالقصائدِ قلَّ انبعاثُه، فقلَّ تبعًا لذلك الحبُّ.