الرحيم

( شذرات من السيرة النبوية المعطرة )

7


ذكرت في الحلقة السادسة لقاء ابي الوليد عتبة بن ربيعة العبشمي برسول الله صلى الله عليه وسلم ورده عليه بالا يات المباركة من سورة فصلت ورجوعه الى قريش ليخبرهم انه سيكون للحبيب المصطفى شأن كبير ومما قاله لهم انه ان يظهر على العرب فملكه ملكهم وعزه عزهم وكان اهل مكة اسعد الناس به فلم يرعووا لما قال وقالوا له :
- سحرك محمد ياابا الوليد.
فاجابهم- هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم
وكان كما قال .
وبعد هذه الحادثة بايام وبعد فشل المشركين في مساومته وترغيبه مرة وترهيبه اخرى عرضوا عليه امرا جديدا لم يسبق ان طرقوه من قبل فجاؤا اليه وهو في المسجد الحرام فقالوا له:
نعرض عليك خصلة واحدة فيها صلاح لك .
فقال لهم : ماهي؟؟
قالوا : تعبد آلهتنا عاما ونعبد الهك عاما فاذا كنا على الحق اخذت منه حظا وان كنت على الحق اخذنا منه حظا . فانزل الله تعالى عليه ( قل يا ايها الكافرون * لا اعبد ماتعبدون * ولا انتم عابدون ما اعبد * ولا انا عابد ما عبدتم * ولا انتم عابدون ما اعبد* لكم دينكم ولي دين *) فابلغهم بذلك بعدم موافقته و ان كل له دينه ( قل افغير الله تامروني اعبد ايها الجاهلون ) الزمر\ 64 فاستشاطوا غضبا اذ وصفهم بالجاهلين . وبعدها نزلت الاية ( قل اني نهيت ان اعبد الذين تدعون من دون الله ) فقد أبدوا تنا زلا بغية حسم الخلاف كما يرون الا ان النبي صلى الله عليه وسلم رفض ذلك لان الله تعالى نهاه عن القبول بما ارادوا .

ومرت الايام والحيرة تقتلهم فأرسلوا الى اليهود يستفهمون منهم و يسالونهم عن امر محمد صلى الله عليه وسلم فاقترح عليهم احبار اليهود ان يسالوه عن ثلاثة امور فان اجاب عليها فهو نبي مرسل وان لم يجب عليها فيعملون على قتله وهذه الامورهي:
الاول : فتية ذهبوا في الزمن الماضي فما مصيرهم وما حكايتهم ؟
الثاني : يسالونه عن الروح ما هي وما علمها ؟؟
الثالث: عن رجل طاف الا رض ووصل مشارقها ومغاربها فما هو خبره؟؟
فتجمع رؤساء قريش وزعماؤهم وعظماؤهم ليسألون النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاسئلة فانزل الله تعالى اجوبتها اليه : فاما الفتية فهو اصحاب الكهف قال تعالى ( ام حسبت ان اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا* اذ اوى الفتية الى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من امرنا رشدا* فضربنا على آذنهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين احصى لما لبثوا امدا* نحن نقص عليك نباهم بالبحق انهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى*)الكهف\9- 13 وفي عددهم يقول سبحانه وتعالى ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم . قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل )الكهف \22
وفي مدة بقائهم في الكهف يقول تعالى( ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا*) الكهف\25 والفارق تسع سنين جاءت باحتساب مدة بقائهم في الكهف بين التقويم الشمسي (الرومي) و التقويم القمري( الاسلامي الهجري) بحيث تكون المدة بين التقويمين بزياة سنة واحدة كل ثلاثة وثلاثين سنة تقريبا أي ثلاث سنوات كاملة لكل مائة سنة . وبتعبير اخر كل مائة سنة شمسية تساوي مائة وثلاث سنوات قمرية
واما الروح فجاء خبرها في سورة الاسراء ( يسالونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا * )اية \ 85
اما الرجل الطوّاف فهو ذو القرنين قال تعالى ( ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا * انا مكنا له في الارض واتيناه من كل شيئ سببا * فاتبع سببا * حتى اذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا ياذا القرنين اما ان تعذب واما ان تتخذ فيهم حسنا * قال اما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد الى ربه فيعذبه عذابا نكرا* واما من آمن وعمل صالحا فله جزاءا الحسنى وسنقول له من امرنا يسرى * ثم اتبع سببا * حتى اذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا * كذلك وقد احطنا بما لديه خبرا * ثم اتبع سببا * حتى بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا *) الكهف\82- 93

فلما علموا صحة الاجابة وتحققوا من نبوته وتبين لهم انها الحق من ربهم وانه صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا ابدوا بعض المرونة اولا واستعدادهم لسماع ما يقوله لهم ولكنهم اشترطوا ان يقيم لهم مجلسا لا يحضره ضعفاء المسلمين وهم فقراء قريش وعبيدهم وهم السابقون في الاسلام وهم اصحاب التقوى والايمان وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كاد يوافق على هذا الراي بغية حرصه اسلامهم لولا انزل الله عليه ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه . ما عليك من حسابهم وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين *) الانعام\52 وقال تعالى( ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلا*) الاسراء\74 فنهاه الله تعالى عن ذلك فلم يوافق على رغباتهم . فأبى الظالمون الا كفورا وطفقوا يتظاهرون بالوعيد والعناد والمكابرة ولم يبق عندهم الا السيف والقتال ومعناه التناحر والحرب والمقاتلة فاحتاروا فيما يفعلونه .

في هذه الظروف الصعبة كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتخذ من منزل الارقم بن ابي الارقم المخزومي موقعا ثابتا لتعليم المسلمين العبادة فكان يجتمع مع اصحابه كل يوم سرا فيه فيتلوا عليهم القران الكريم ويعلمهم الايات التي تنزل عليه تباعا وآنا جهرا فكان يعبد الله تعالى على مرأى ومسمع من المشركين لا يهاب . فكان الكفار يمتعضون من ذلك ويعملون على ايذاء المسلمين مما جعل الحبيب المصطفى يشير على المسلمين بالهجرة الى الحبشة حيث يوجد النجاشي وهو ملك اشتهر بالعدالة فلا يظلم عنده احدا . فهاجر جماعة من المسلمين اليها وفي الحقيقة هي هجرتان تمت الى الحبشة الاولى في رجب من السنة الخامسة للنبوة هاجر جماعة من المسلمين وعددهم اثنا عشر رجلا واربع نساء يتراسهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويعتبر عثمان بن عثمان الرجل الثالث الذي هاجر مع عائلته في سبيل الله . اذ كان اول من هاجر سيدنا ابراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث هاجر من بابل في العراق الى فلسطين وثانيهما لوط عليه السلام .
هاجر هؤلاء سرا في جنح الظلام قاصدين مدينة جدة حيث وجدوا سفننا على وجه الانطلاق فركبوا الى الحبشة وكان ممن هاجر الزبير بن العوام و عبد\ الرحمن بن عوف وابن مسعود و ابو سلمة وزوجته . بينما قريش لما علمت بهم هاجوا وماجوا واسرعوا في اثرهم كي يمنعونهم من السفر ويعيدونهم الى مكة فيصرفونهم عن الاسلام او يعذبونهم ويتكلون بهم فلما وصل القرشيون الى جدة كان المسلمون قد سافروا . فرجعوا خائبين .
الا انه حدث امر عظيم الشأن حيث نزلت على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم سورة النجم في رمضان أي بعد شهرين من هجرة المسلمين الى الحبشة فخرج عليه الصلاة والسلام الى المسجد الحرام فوجد جمعا كبيرا من قريش يطوفون حول الكعبة ومنهم رؤساؤهم وعظماؤهم فقام بهم يتلو عليهم هذه السورة المباركة وقريش تسمع لهذا الكلام الرائع والذي ما سمعوا بمثله ابدا فاخذتهم الدهشة من روعة هذا الكلام فبقوا يستمعون اليه مبهورين ومبهوتين حتى الايات التالية ( وان الى ربك المنتهى* وانه اضحك وابكى * وانه امات واحيا * وانه خلق الزوجين الذكر والانثى* من نطفة اذا تمنى* وان عليه النشأة الاخرى * وانه اغنى واقنى * وانه هو رب الشعرى * وانه اهلك عادا الاولى * وثمود فما ابقى * وقوم نوح من قبل انهم كانوا اظلم واطغى * والمؤتفكة اهوى * فغشاها ما غشى* فباي الا ء ربك تتمارى * هذا مذير من النذر الاولى * ازفت الازفة * ليس لها من دون الله كاشفة * افمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون * وانتم سامدون *) النجم\42- 61
( راجع كتابي - يوم القيامة في القران الكريم – الجزء الثاني)
وهي خواتيم هذه السورة المباركة وما فيها ردع وزجر وقوارع خشعت لها الانفس والقلوب فلما وصل الى الاية ( فاسجد واقترب *) النجم \ 62 خر الحبيب المصطفى ساجدا لله تعالى فلم يتمالك القرشيون انفسهم فسجدوا جميعا الا رجل واحد هو امية بن خلف اذ اخذ حفنة من تراب بيده ورفعها الى وجهه وجاء عن ابن مسعود رحمه الله انه ( ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي احد من القوم الا سجد فاخذ رجل من القوم كفا من حصى او تراب فرفعه الى وجهه وقال: يكفيني هذا . فلقد رايته قتل كافرا – وهو امية بن خلف قتل يوم بدر) فلما شاع الخبر ووصل الى الحبشة ظن المسلمون ان قريشا اسلمت فعادوا من الهجرة فرحين الا انهم قبل ان يصلوا مكة بمسيرة يوم واحد وقيل ساعة من نهار عرفوا حقيقة الامر فرجع قسم منهم والقسم الاخر دخل مكة سرا .

القرشيون ندموا على سجودهم مع المسلمين فشددوا العذاب عليهم والتنكيل بهم فاشار النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة الى الحبشة خاصة وقد عرفوا بحسن جوار النجاشي للمهاجرين من اخوانهم الذين هاجروا من قبل . فشد الرحال ثلاثة وثمانون رجلا و ثماني عشرة امراة استطاعوا السفر رغم تيقظ قريش وحرصهم على منعهم منه . فلما علموا بهجرتهم شق الامر عليهم فارسلوا في اثرهم اثنين من اشد رجالهم حنكة ودهاءا: عمرو بن العاص و عبد الله بن ربيعة .
نزل الرجلان الحبشة فاتصلا بالبطارقة وقدما اليهم الهدايا وشرحوا الامر الذي جاؤوا من اجله اليهم فقدموهم الى النجاشي وقدما له الهدايا التي ارسلها له عظماء قريش وقالا له :
( ايها الملك انه ضوى الى بلدك غلمان سفهاء فارقوا دينهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن والا انت وقد بعثنا اليك اشراف قومهم من آبائهم واعمامهم وعشائرهم لتردهم اليهم فهم اعلى بهم عينا واعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه ) فايدهم البطارقة.
الا ان النجاشي قرر سماع قول المهاجرين فاحضرهم وسألهم عن هذا الدين الجديد الذي جاؤوا به ومن اجله فارقوا قومهم واهلهم . فتقدم جعفر بن ابي طالب فقال قولته المشهورة:
( ايها الملك كنا قوما اهل جاهلية نعبد الاصنام وناكل الميتة وناتي الفواحش ونقطع الارحام ونسئ الجوار وياكل منا القوي الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وامانته وعفافه فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن وآباؤنا من دونه الحجارة والاوثان وامرنا بصدق الحديث واداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور واكل مال اليتيم وقذف المحصنات وامرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به من دين الله وعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم الله علينا واحللنا ما احل لنا فعدا علينا قومنا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الاوثان عن عبادة الله تعالى وان نستحل ما كنا نستحل من الخبائث فلما قهرونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ان لا نظلم عندك ايها الملك )
وتحاور جعفر مع عمرو بن العاص في حضرة النجاشي :
فقال عمرو لجعفر :تكلم
فقال جعفر موجها كلامه الى النجاشي: سله اعبيد نحن ام احرار ؟
فقال عمرو بن العاص: بل احرار كرام
فقال جعفر: هل اهرقنا دما بغير حق فيقتص منا ؟
مقال عمرو: ولا قطرة دم
قال جعفر: هل اخذنا اموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟
قال عمرو: ولا قيراط
فقال النجاشي : فماذا تطلبون منهم ؟
قال عمرو : كنا نحن وهم على امر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره.
قال جعفر: كنا نعبد دين الشيطان ونكفر بالله ونعبد الحجارة . اما الان فنعبد الله وحده ولا نشرك به احدا فنحن على دين الاسلام جاءنا به رسول من الله وكتاب مبين .
فقال له النجاشي: تكلمت في امر عظيم فعلى رسلك.
ثم امر بضرب الناقوس فاجتمع اليه كل قس وراهب .
فقال لهم : اخبروني هل تجدون من بعد عيسى الى يوم القيامة نبيا؟
فقالوا: اللهم نعم فقد بشرنا به عيسى فقال من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي .
فالتفت النجاشي الى جعفر وقال له: ماذا يقول لكم نبيكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟
فقال جعفر: يقرا علينا كتاب الله ويامرنا بعبادة الله وحده ويامرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويامرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر الوالدين واليتيم
فقال النجالشي له : اقرا ما عندك منه .
- فقرا عليهم جعفر بن ابي طالب سورتي العنكبوت والروم فاستزادوه فقرا عليهم سورة الكهف .
ثم التفت الى عمرو بن العاص وصاحبه فقال لهما :
- انطلقا فلا والله لا اسلمهم اليكما .
الا ان عمروا بن العاص احتال حيلة اخرى على الملك فقال له :
- ان المسلمين يقولون في عيسى قولا عظيما.
فسأل النجاشي جعفرا ماذا يقولون بعيسى ؟
فقال له جعفر:
- نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته القاها الى مريم العذراء البتول .
فاخذ النجاشي من الارض عودا ثم قال :
والله ماعدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود اذهبوا فانتم سيوم- آمنون- في ارضي –
ثم امر النجاشي برد الهدايا على عمرو بن العاص وصاحبه فرجعا الى قريش خائبين .


يتبع


فالح نصيف الحجية
الكيلاني
يوم الاحد
12 ربيع الاول 1433
الموافق 5\2\2012

***********************