شعرت أني افتقدتك . ولأني افتقدتك بكيت !
وحدي في غرفة النزل . يطرق المطر ملحاحا زجاج نافذتي اليتيمة الصدئ . أرتجف . أتدثر بغطائي المهترئ . تنفذ إلى أنفي رائحة لحم متعفن ، وأشعر أن الغرفة تنز رطوبة وصديدا .
أتكور . أنفخ في يدي المتجمدتين . ويتعالى قرع المطر بقسوة بلهاء .
أبعد الغطاء القذر . أضعه حول خاصرتي ، محاولا النوم . لكن صورتك _ أبي _ لا تفارقني ، كأنها والوحدة والليل والهمُ أسداء .
المدينة _ دير الزور_ عتمة ، وغربة، وبرد ، .. ولا أمل !
أتقلب في فراشي . أتذكر ذا القروح وزيادا ,وابا ذؤيب ، فيتشكى السرير من حركتي اللائبة .
أغمض عيني المنهكتين ثانية . أحبس دمعي ، والدمع جمر جذل يتقد . والمطر لا يكف عن الصراخ والعويل .ينهل بغزارة وطيش !
أبي .. أين أنت ؟!
ديرالزور عاصفة ، بل مطر ، بل برد ، بل جنون مستمر . وأصرخ : آه ، لقد تعبت !
ولأول مرة , ربما منذ سنين عدة ، أشعر بمعنى أن يكون لي أب وأسرة وحنان وصلة رحم . ولأعترف ، أيضا
لأول مرة ، أنني قد جهلتك ، ولأنني جهلتك ، ابتعدت عنك لأعوام خلت .
أبقيتك في دوامة العاصفة ورحلت . وبسخف وضعت آثامي في جعبتك واكتفيت بالنظر الصامت والعتاب بلا كلام !
بل لأقل إنني عققتك ظالما !
فقل لي : هل أنت أيوب ؟ بل هل أيوب جزء منك ؟
كيف صبرت علي ، ولم تحملت قسوتي وجفائي وجفاف تربتي ؟ ثم كم آسيت لضياع بذارك في ؟
أخاب حرثك ؟ أبار جهدك ؟ أضاع أملك ؟
إن المستقبل ابن نراه ، وحلم نكوِِِِِِِِِِِِ ِِِِِِِِنه في طفلنا ، وبذرة نغرسها في رحم الزمن ، فتنبت ولدا آتيا ، وشوقا تكمله الأيام . لكني كنت لك مستقبل ألم ، وفكرة مشوشة ، وبذرة أنبتت أسئلة وحيرة وفراغا ! بل بذرة ولدت الصمت!
أنت قدمت لي الكثير . شققت بأظفارك الدامية طريقا لاحبا لي ، لكني لم أر من الطريق إلا أحجاره ، ولم أشاهد من سهولته إلا سواد اسفلته . وعندما قدمت لي قلبك الرطب _ ذات مساء _ رفضتُه بحمق غريب !
فهل أعتذر ؟ أحبو على ركبتي وأقبل قدميك ؟ أمرغ جبهتي الصلدة ؟ ألطم وجهي الآسي ؟ أدق رأسي بجدار سميك ؟ أناطح الصخر؟
لقد كان ألمك هادئا . وعيناك تحدثتا بالكثير ، وتمنيتا بصدق لو ضجَ فيَ صخب الحياة وفرحها وتفاؤلها . فتحت لي ذراعيك ، وبذلت وقتك ومالك وساعات بالك ، وانتظرت مني كلمة ، ولم تدر أن الكلمة وأخواتها شلَت مني !
أنا جاحد يا أبي ، جاحد ! وعقابي حيرة ، وجنون ، ومزيد آلام !
فان كنت رمزي ، فأنا أسأت لرمزي وشوَهت معالمه . وان كنت ركني ، فأنا غفلت عن البيت والرزق والرؤية الواضحة والحنان والبيئة الصالحة. فصار عطاؤك منََََا ، وحنانك شوكا داميا ، وقلبك عدم ثقة . فكبرت الهوة بيني
وبينك ، وطالت المسافات ، وخلقت بيننا كما الجدر ، فكبر الجفاء .
لقد صار الحنان عادة ، والرحب عادة ، والشك عادة ، فابتعدت عنك كما ابتعدت عن الله ، لأن الله صار عادة !
كنت أتساءل عن معنى الأسرة ، ومفهوم الأبوة ، وديمومة الصفاء .. وكنت أذهب إلى غرفتي وأدفن أسئلتي وحيرتي في كتاب ، ولم أظن أنك كنت تعرف كل ذلك ، وتشير إلي أنني عطش والماء زلال أحمله ! ومجهد والراحة في زاوية نفسي مخبأة !
وكانت عيناي تتساءلان ، وتبحثان ، وتتكلمان.. وكانت عيناك تجيبان وتبكيان وتتكلمان !
ثم مرَ الزمن .. قاسيا مرَ الزمن ! أخذ معه الكثير ، وأعطى منه الكثير ، وغيَر ، وطوَر ، وزاد ، وقلَل .
وأتأوه .. كفى ! كفى ! أريد أن أتغير وأمحو الماضي بطريقة جديدة !
الجو في الخارج لايزال محتدما . أتخيل وقع المطر أصوات استغاثة , والبرد زائرا ثقيلا ، أطفاله يتسلقون الجدر
والسرير والنافذة ، ويلتحم هو مع عظامي ويطرد النوم ! وأنا أريد أن أتثاءب ! أما آن للصبح أن يأتي ؟
أنهض نصف نهوض . يصرخ السرير باستياء . أريح رأسي على عتبة السرير ، فينفذ تيار ثلجي إلى جسمي المتوفز.
أرجع إلى هيئتي الأولى ، فيواصل السرير استياءه !
غدا ، عندما سأرجع إلى دمشق ، لن أعتذر إليك ، لأنني سأعاهد نفسي أن أتغير بصمت كما انقلبت عليك بصمت .. وسأحاول أن تتلمس تبدلي دونما ضجيج ، كما تبدلت عنك دونما ضجيج ! وسألمس منك رضى هادئا ،كما لمست منك عتابا هادئا !
ودون انفعال ، سأنكب على يديك الطاهرتين وأغسل خطأي بدموعي وقبلات ندمي !
لك حبي ياوالدي ، والى لقاء.
28/ 11/ 1987م