أولا : يجب أن يكون الحديث عن حكم المولد بعلم وعدل , وأن لا ننكر اختلاف العلماء فيه , وأن هناك بعض جلة العلماء حكى استحبابه بشروط .
بل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ، مع حكمه على المولد بأنه بدعة ؛ إلا أنه عذر مقيميه , بل اعتقد حصول الأجر العظيم لهم فيه ، فقال (رحمه الله) : ((فتعظيم المولد ، واتخاذه موسما ، قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم ؛ لحسن قصده ، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . كما قدمته لك : أنه قد يحسن من بعض الناس ، ما يستقبح من المؤمن المسدد)) .
ثانيا : أما لتفصيل حكمه :
فأقول : من استثمر يوم المولد للتذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم , أو لإذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين , من غير غلو (كاستغاثة) , ولا مصاحبة منكرات (كاختلاط) , ولا خرافات (كدعوى حضوره صلى الله عليه وسلم يقظة) , ومن غير اعتقاد فضل خاص لهذا التذكير في يوم محدد , وإنما هو من باب استثمار تاريخ الحدث الجليل في استحضاره في النفس , كما يستحضر الخطباء يوم بدر في السايع عشر من رمضان , ويوم الفتح في العشرين منه , ويوم الهجرة في بداية السنة الهجرية = فهو حلال ؛ لأنه لم يعد يرتبط به اعتقاد عبادة مبتدعة , وانتقل بهذه الشروط من البدعة المحرمة إلى المصلحة المرسلة المباحة , فهو بهذه الشروط لا يتضمن إلا مجرد اتباع للوسائل المبلغة لمصلحة شرعية وهي : التذكير بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم , أو لإذكاء عاطفة حبه في نفوس المسلمين .
وأجد أنه من الضروري لتصحيح الحكم بالإباحة : التأكيد دائما على من يحضرون الموالد ويقيمونها على أمور :
- أن إقامة تلك الدروس والاحتفالات (الخالية من المنكرات) ليس لأن إقامة المولد عبادة , وإنما لأنه مجرد استثمار لوقت الحدث من أجل تحقيق مصلحة شرعية منه .
- أنه ليس ليوم المولد السنوي خاصية ولا فضيلة ثابتة .
- بيان منكرات الاعتقادات والأقوال والأفعال المقطوع ببطلانها التي تنتشر في كثير من الموالد .
فمع هذه الشروط لا أجد في المولد بدعة , ولا ما يدعو فيه للإنكار عليه وعلى مقيميه .
كما أني لا أجد حرجا في قول من امتنع من إقامته امتناعا مطلقا , من باب مدافعة الخلل الكبير الذي يحصل فيه , وسدًّا لذرائع المنكرات المنتشرة فيه ؛ إذا كان صاحب هذا القول الممانع لا يبالغ في ممانعته , فلا ينكر على من أباحه بتلك الشروط , ويجيز اختلاف الاجتهاد فيه , ما دام ملتزما بتلك الشرائط . فهذا القول بهذا الشرط قول سائغ , له ما يجعل له حظا من النظر .
والواقع أن شبه هذا يحصل عندنا في السعودية دون نكير , فعامة خطب الجمعة وكثير من مواعظ المساجد عندنا تتحدث عن المولد بإنكاره قرب موعده السنوي (في آخر خطبة قبله , أو عشية ليلته) , وهي ربما بدأت بذكر فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته , ثم تختم بذكر منكرات الموالد . فهي أقامت المولد الذي أرى إباحته , لكنها لم تسمه بالمولد .
ونحوه : ما كتبه ويكتبه علماؤنا في مجالس شهر رمضان , ككتاب الشيخ ابن عثيمين (رحمه الله) , والذي فيه تذكير بغزوتي بدر والفتح في يوميهما من رمضان . وأراد الشيخ (رحمه الله) أن يقرأه الناس في المساجد كل سنة , ويرجو هو (رحمه الله) ومن يريد له استمرار الأجر به : أن لا تنقطع قراءة هذه المجالس في كل رمضان من كل سنة , وأن يعمّ وينتشر بين المسلمين , وكثيرا ما يحصل ذلك في مساجدنا , ويتكرر كل سنة . فتكرار قراءة خبر هاتين الغزوتين في يومين محددين من كل سنة , لم يجعل هذا الفعل بدعة ؛ لأن هذا التحديد لم يقع على وجه التعبّد به ؛ وإنما على وجه استثمار تاريخه في زيادة التأثير به , وفي ترسيخ تاريخه , وفي تذكّر نعمة الله تعالى علينا بهذين اليومين العظيمين في تاريخ الإسلام .
وكحل وسط : أصبح كثير من مقيمي الموالد لا يلتزمون بالموعد السنوي المحدّد , فيقيمون مجالس تذكير بفضائله صلى الله عليه وسلم في عرض العام , وعدة مرات فيه . وهذا المولد إذا خلا من بقية منكرات بعض الموالد فلا إشكال فيه البتة , بشرط عدم اعتقاد كونه عبادةً مقصودة لذاتها .
الخلاصة :
ومن هذا يتضح أنه يجب التفريق بين صورتين للمولد :
1- صورة يكون فيها المولد من المصالح المرسلة : وذلك إذا كان بقصد استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل للتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم , أو لإذكاء جذوة محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب , من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم , تجيز تخصيصه بعبادة , أو باعتقاد لا دليل عليه .
وهذه الصورة هي التي استحسنها كثير من العلماء كأبي شامة وابن ناصر الدين وغيرهما كثير من سادة الأمة .
2- وصورة يكون فيها بدعة , حتى لو خلا من الغلو والمنكرات , وهو فيما لو خُصَّ هذا اليوم باعتقاد فضل يخصه , وصار يُظن أنه ترتبط به عبادات يزداد أجرها فيه , أو أن مثل تلك الاحتفالات في هذا اليوم المخصوص مقصودة لذاتها , كما تُقصد العبادات المشروعة لذاتها .
وهذه الصورة هي التي استنكرها كثير من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من سادة الأمة .