سأل عنترة قديما : هل غادر الشعراء من متردم؟ فتبرعت بإجابته قائلا :


نعم يا عنترة ، لقد غادر الشعراء ، بل وغلبت عليهم توهُّماتهم ، ولم تبق من كلماتهم إلا طلول من معانيَ ، يحاولون جهدهم أن يجعلوها تتراقص في أخيلة العشاق ، لكنها تبقى كئيبة شاحبة لا روح فيها ، لأن عيونهم ليست كتلك العينين اللتين كنت تنظر بهما إلى عبلاك ، فهي عيون رؤوس لا عيون فؤاد يرى محبوبه في كل شيء : في دموع الأدهم وفي لمعان السيوف وفي نجوم السماء ، أما عيون شعراء اليوم فقد أصابها ازورار وغبش ، فلم تعد ترى في عبلة أو ليلى أو لبنى إلا نهدا أو كَفلا ، ولم تعرف الوصل إلا بين أربعة جدران وخلف أبواب مؤصدة ، تفوح فيها روائح الدخان وتدار فيها كؤوس الشراب ، لم يسمعوا يوما ببني عذرة ولا بقيس ولا حتى بجميل ، حتى روميو لم يسمعوا عنه.


شعراؤنا اليوم ، يا عنترة ، لا يعرفون لوعة الفراق ، ولا دموع الاشتياق ، بل يعرفون لذة العناق ، وأخيلة الفساق ، لذلك ، يا عنترة ، لا تقطع عليهم لذاذتهم تلك ، فهم لن يستطيعوا إجابتك عن سؤالك ، لأنهم لم يعرفوا الأطلال والمتردمات ، ولم يهيموا على وجوههم في البراري والفلوات ، ولم يعرفوا قنص الظباء ، ولا تلَوُّع العشاق والأحباء .


شعراؤنا اليوم ، يا عنترة ، لا يعرفون كيف يغضون الطرف إن بدت لهم جارة ، فعيونهم لا تكاد تعرف لون التراب ، فقد أصابهم عمى الألوان فلا يعرفون منها إلا الأحمر والأخضر ولا أعني أحمر العروق ولا أخضر المغاني ، لكنه أحمر مصبوغ بعتمة الليل ، وأخضر يأتي من خلف البحار.



أولئك هم شعراؤنا اليوم ، يا عنترة ، فرجائي إليك اخرج من دنياهم ، ولا تعكر عليهم صفو أفكارهم ، أو تثقل عليهم بأسئلتك ، واجمع جيشك من العشاق والمحبين ، وامتط صهوة أدهمك واستل سيفك واقتل به من انتزعك من بطون الكتب ، وإياك إياك أن تخرج منها ثانية ، فثم مكانك بين الأطلال والمتردمات .