الحمد لله الذي جعل الصلاة راحة لقلوب الصالحين وجعلها سبيلا للسعادة في الدارين أحمده تعالى وأشكره شكر العارفين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخير من وقف بين يدي رب العالمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
ذكرت في الرسالة الأولى نماذج من صلاة الغافلين وقلت " لا تكن مثل هؤلاء " ثم ذكرت في الرسالة الثانية نماذج من صلاة الخاشعين وقلت " فلتكن مثل هؤلاء "وفي هذه الرسالة أبين وصفة للصلاة الخاشعة وأقول " هكذا فلتصلي "
إخواني : ما أشد خوفي أن ينطبق علينا ما قاله عمار بن ياسر سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا))المسند وسنن النسائي الكبرى وصححه الألباني فالعبد ليس له من صلاته إلَّا ما عقل منها عن حذيفة رضي الله عنه قال " إنَّ العبد إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم قام إلى الصلاة استقبله الله بوجهه يناجيه فلم يصرفه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف أو يلتفت يمينا أو شمالا " المصنف 3272 وذلك بأن ينصرف قلبه أو يدير عينيه فينشغل بما أمامه ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على المنبر إنَّ الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة قيل وكيف ذلك قال لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله عز وجل فيها " فرحم الله من أقبل على صلاته خاشعا خاضعا متذللا لله خائفا راغبا وجلا مشفقا قد جعل أكبر همه في الصلاة ومناجاة الله عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ِ يقول (( خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ الله تَعَالَى من أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لِوَقْتِهِنَّ وَأَتَمَّ رُكُوعَهُنَّ وَخُشُوعَهُنَّ كان له على اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ له )) المسند 22756وسنن أبي داود425 وصححه الألباني وقد ابتدأ الله أوصاف المؤمنين بالخشوع في الصلاة فقال تعالى (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ )) عن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ رضي الله عنه قال أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا يحدث الناس فَأَدْرَكْتُ من قَوْلِهِ (( ما من مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إلا وَجَبَتْ له الْجَنَّةُ )) مسلم 234 والخشوع هو روح الصلاة ولبها وهو حالة في القلب تنبع من أعماقه مهابةً لله وتذللاً يُورِثُ انكسارا بين يدي الرب وحرقة من المعاصي والسيئات ، بالخشوع يزداد المصلي قربا من ربه عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه يقول قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (( لاَ يَزَالُ الله عز وجل مُقْبِلاً على العَبْدِ في صَلاَتِهِ ما لم يَلْتَفِتْ فإذا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عنه )) أحمد21547 والنسائي1195 وأبو داود909 وصححه الحاكم862وابن خزيمة482 .
الخشوع في الصلاة ليس بإطالة الركوع والسجود وخضوع المنكبين وحني الظهر ولكنه خضوع الجوارح بين يدي الله وخروج القلب من التعلق بغير الله واستحضار عظمة الله الذي سيقف بين يديه واستحضار عظمة الصلاة والتعقل والتفهم لكل حركة وسكنة في الصلاة ، وإن كانت إطالة الركوع والسجود من صفات الخاشعين ولكنها وحدها لا تكفي ما لم تصاحب بخضوع القلب وطمأنينة النفس .
إخواني : أين الخشوع ممن ينقر صلاته نقر الغراب ؟ وأين الخشوع ممن يرفع بصره إلى السماء ؟ وأين الخشوع ممن يلتفت ببصره في جميع أطراف المسجد ؟ وأين الخشوع ممن يقطع صلاته بالتفكر في أمور الدنيا ؟ وأين الخشوع ممن لا يطمئن في صلاته بل ربما وصل الركوع بالسجود لا يفصل بينهما إلَّا بهزة الرأس ؟ وأين الخشوع ممن يجعل صلاته حركةً كلَّها فلا يثبت بل من كثرة حركته تشك هل هو في صلاة أم لا ؟ مرة يصلح العقال وأخرى يعدل الشماغ وثالثة ينظر للساعة وهكذا حتى تنتهي الصلاة . الخشوع مطلب عزيز وحتى نخشع في صلاتنا إليكم بعض الأمور التي تعين على الخشوع في الصلاة :
أولاً: الحرص على ما يجلب الخشوع ويقويه خاصة الاستعداد المبكر للصلاة والتبكير في الذهاب للمسجد بسكينة ووقار .
ثانياً: تدبر الآيات المقروءة في الصلاة كما كان حال السلف رحمهم الله فقد كان الواحد منهم يقوم بآية واحدة يرددها حتى الفجر .
ثالثا: الاستعاذة في الصلاة بالله من الشيطان الرجيم أتى عُثْمَانُ بن أبي الْعَاصِ النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ " إِنَّ الشَّيْطَانَ قد حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ له خَنْزَبٌ فإذا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ منه وَاتْفِلْ على يَسَارِكَ ثَلَاثًا قال فَفَعَلْتُ ذلك فَأَذْهَبَهُ الله عَنِّي " مسلم 2203.
رابعاً: البعد عن الشواغل والموانع التي تصرف العبد عن الخشوع فلا يصلي في مكان مزعج أو أمام نقوش وتصاوير ولا يصلي بحضرة طعام يشتهيه ولا يصلي وهو حاقن أو يدافع الأخبثان أو حال غلبة نعاس إذ كلُّها صوارف وشواغل تحول بين المصلي والخشوع في صلاته .
خامساً: تذكر الموت وما بعده من منازل الآخرة واستشعاره أنَّ صلاته هي آخر صلاة يصليها عن أبي أَيُّوب رضي الله عنه قال جاء رَجُلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي وَأَوْجِزْ قال " إذا قُمْتَ في صَلَاتِكَ فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ " المسند 23545وابن ماجه 4171وصححه الألباني في صحيح الجامع 744. وعن أنس رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اعمل لله رأي العين كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك وأسبغ طهورك إذا دخلت المسجد واذكر الموت في صلاتك فإن الرجل يذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته وصل صلاة رجل لا يظن أن يصلي صلاة غيرها " حسنه ابن حجر والألباني في صحيح الجامع851 . خامساً: النظر إلى موضع السجود كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .
سادساً: الاجتهاد في الدعاء من العبد أن يرزقه الله الخشوع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول (( اللهم إني أَعُوذُ بِكَ من عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لها )) مسلم عن زيد بن أرقم2722. ومما لا شك فيه أن مناجاة الله والتذلل له والطلب منه الإلحاح عليه في السؤال وخاصة في السجود مما يزيد العبد صلة بربه فيعظم خشوعه .
سابعاً: أن يستشعر أنَّ الله يخاطبه ويجيبه في صلاته عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال الْعَبْدُ ) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( قال الله تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي ) وإذا قال الرحمن الرَّحِيمِ ( قال الله تَعَالَى أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وإذا قال ) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( قال مَجَّدَنِي عَبْدِي وقال مَرَّةً فَوَّضَ إلي عَبْدِي فإذا قال ) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( قال هذا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ فإذا قال ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم ولا الضَّالِّينَ ) قال هذا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سَأَلَ " مسلم 395 . فلواستحضر كل مصل هذا الحديث لحصل له الخشوع ولوجد للفاتحة أثراً عظيما ، كيف لا وهو يستشعر أن ربه يخاطبه ثم يعطيه ما سأله ، فعلى المصلي إجلال هذه المخاطبة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن أحدكم إذا قام يصلي إنَّما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه )) المستدرك 861وأصله في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه (397-551 ). اللهم اجعل الصلاة قرة أعيننا وارزقنا الخشوع فيها يارب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين .