بسم الله الرحمن الرحيم
من كتاب الموافقات للشاطبي (بتصرف)

المسألة الثالثة
الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعمّ منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المُبْهَم والمُجْمَل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غيرُ مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرا، فالأول غيرُ معمول به والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جارٍ في تقييد المطلق، فإن المطلق متروكُ الظاهر مع مُقيِّده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المُعْمَل هو المقيّد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيِّده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص؛ إذْ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يُهمل مدلوله جملة، وإنما أُهمل منه ما دلّ الخاص على إهماله، وبقي السائر على الحكم الأول. والمُبيَّن مع المُبْهَم كالمقيَّد مع المُطلق. فلما كان كذلك استُسْهِل إطلاقُ لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد.
ولنذكر أمثلة تبيّن المراد: فقد روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى:(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) (الشعراء: ٢٢٤ – ٢٢٦) هو منسوخ بقوله:(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)(الشعرا ء: ٢٢٧) الآية. وهو في الحقيقة تخصيص للعموم، ولكن أطلق عليه لفظ النسخ مجازا.
وقال في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا)(النور: ٢٧) إنه منسوخ بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ)(النور: ٢٩) الآية، وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)(النور: ٢٩) يُثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يُراد بها المسكونة.
والأمثلة هنا كثيرة توضح لك أن مقصود المتقدمين بإطلاق لفظ النسخ بيان ما يكون في الأدلة التي يكون تلقّي الأحكام من مجرَّد ظاهرها إشكالٌ وإيهامٌ لمعنى غير مقصود للشارع، فهو أعمّ من إطلاق الأصوليين، فليُفْهَم هذا.