نص الحديث :
عن أمير المؤمنين أبي حفص ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسولِهِ فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ . ومن كانت هجرتُه لدنيا يُصيبُها أو امرأَةٍ يَنكحُهَا فهجرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إليه ] رواه البخاري ومسلم .
نبذة عن راو الحديث :
هو: أمير المؤمنين، أبو حفص عمر بن الخطاب العدوي القرشي .
كناه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ ( أبي حفص ) والحفص في اللغة: الأسد . واتفق العلماء على تسميته بالفاروق، قيل: لظهور الفرق بين الحق والباطل بإسلامه .
وقيل : أن رجلاً من المنافقين ويهودياً اختصما فقال اليهود: ننطلق إلى محمد بن عبد الله ، وقال المنافق: إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، وأتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي ، فلما خرجا قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه فقصا عليه القصة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما فدخل البيت واشتمل على السيف، ثم خرج وضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فقال: إن عمر بن الخطاب فاروق الحق والباطل، فسمي الفاروق .
وهو أول من سمي أمير المؤمنين، وكان يقال : لأبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله .
سيرته معروفة وفضائله مبثوثة ، ومات مطعوناً رضي الله عنه ، طعنة أبو لؤلوة طعنة ، وأبو لؤلؤة هو : عبد المغيرة بن شعبة نصراني، وقيل: مجوسي .
شرح الحديث :
قال المؤلف رحمه الله : عن أمير المؤمنين أبي حفص ، عمر بن الخطاب .
ليُعلم أن أجر هذا الحديث حازه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ! لماذا ؟ .
لأنه هو الذي حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يروه غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
ثم تفرد برويته عن عمر بن الخطاب التابعي " علقمة بن وقاص ألليثي " رحمه الله .
وتفرد بروايته عن علقمة ألليثي تابعي ثاني اسمه " محمد بن إبراهيم التيمي " .
وتفرد بروايته عن محمد التيمي تابعي ثالث اسمه " يحيى بن سعيد الأنصاري " .
فالحديث كما قال عنه أهل العلم رحمهم الله تعالى في أوله غريب ، وفي آخره مشهور .
فقد رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري الخلقُ الكثيرُ ، والجمُّ الغفير . فقيل : رواه عنه أكثرُ من مئتي راوٍ .
وقيل : رواه عنه سبعمائة راوٍ .
* مسألة : لماذا بدأ المؤلف رحمه الله كتابه بهذا الحديث ؟ .
الجواب : أراد بهذا إخلاص القصد وتصحيح النية وأشار به إلى أنه قصد بتأليفه وجه الله تعالى .
وقال ابن مهدي : من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث ، وقال : لو صنفت كتابا لبدأت في كل باب منه بهذا الحديث [عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1 / 57] .
* منزلة الحديث :
هذا حديث صحيح مشهور، متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب . وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، فقال بعضهم : ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع ولا أكثر فائدة منه .
والحديث يتعلق بالنية التي هي لازمة لكل عمل . ولذلك كثرة عبارات السلف رحمهم الله في الثناء على هذا الحديث ، فبعضهم جعله ثلث العلم، وبعضهم ربع العلم، وبعضهم خمس العلم .
وهذا الكلام يدل بمجموعه على أن هذا الحديث له منزلة عند السلف .
* مسألة : هل لإيراد هذا الحديث سبب ؟ .
الجواب : لا علاقة لورود هذا الحديث بحديث مهاجر أم قيس .
وحديث أم قيس قال عنه الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح .
وقال الذهبي بعد أن ذكر رواية الطبراني: إسناده صحيح .
وقال ابن حجر بعد أن ذكر رواية الطبراني : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سِيق بسبب ذلك ، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك .
قوله رحمه الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ إنما الأعمال بالنيات ] .
قوله [ الأعمال ] تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
- القسم الأول : أعمال اللسان .
- القسم الثاني : أعمال البدن .
- القسم الثالث : أعمال القلب .
فأعمال اللسان : النطق من ذكر، وتلاوة ، وكلام ، وغير ذلك .
وأعمال البدن – الجوارح - : الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية .
وعمل القلب : ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء .
هذه الجملة جملة حصر .
قوله [ النيات ] جمع النيّة : وهي القصد والإرادة .
وفائدة النيّة : ( تمييز العبادات بعضها عن بعض ، وتمييز العبادات عن العادات ) .
فالأول : مثل تمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر ، وتمييز صلاة النافلة عن صلاة الفريضة . وكتمييز صوم رمضان عن صوم النافلة .
والثاني : مثل تمييز غُسل الجنابة عن غُسل التطهّر والتّبرّد .
قوله : [ وإنا لكل امرئ ما نوى ] .
فالذي ينوي الخير له الخير ، والذي ينوي الشر فعليه الشر .
وفي هذا الحديث التحذير من أن ينوي الإنسان أمراً خلاف ما أراد الله عز وجل ، أو أراده رسوله صلى الله عليه وسلم . لأنه سيقال له : ( إنما لك ما نويت ) فانظر ماذا تنوي ؟ .
* وهذه النية لا بد فيها من الانتباه لأمرين :
1- نية العمل : ← وهذا يذكره ويهتم به أهل الفقه في كتبهم .
بمعنى أنك تنوي أن هذه : " فريضة ، أو نافلة ، أو أمراً مباحاً ، أو سنة " .
ونستفيد من هذه النية التمييز بين الأعمال .
مثال ذلك : ( إنسان دخل المسجد وصلى ركعتين ) .
فيحتمل أن هذه الركعتان تحية المسجد ، ويحتمل أن تكون راتبة ، ويحتمل أن تكون نذراً إن نذر ذلك ، ويحتمل أن تكون صلاة الفجر إن كان في وقت الفجر ، أو مقضية إن كان في غير وقت الفجر .
2- نية المعمول له : ← وهذا يذكره ويهتم به أهل العقيدة في كتبهم .
وعلى المثال السابق : فهذه الركعتان التي صلاها الإنسان هل هي لله ؟ . أو هي للناس ؟ . أو هو يصلي على العادة . ونستفيد من هذه النية صحة العمل ( الإخلاص ) .
قوله : [ فمن كانت هجرته إلى الله ورسولِهِ فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ . ومن كانت هجرتُه لدنيا يُصيبُها أو امرأَةٍ يَنكحُهَا فهجرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إليه ] .
لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات ، مثل لهذا . فذكر بعض الأمثلة لتوضيح الأحكام التي سبقت فقال :
- المثال الأول : [ فمن كانت هجرته ... إلخ ] .
فمن هاجر وخرج من بلد الشرك إلى بلد الإسلام لله ولرسوله ، فهجرته تكون لله ولرسوله . يعني : هجرته وقعت لهذا الغرض والقصد العظيم ، أنها لله ولرسوله .
- المثال الثاني : [ ومن كانت هجرته لدنيا ... إلخ ] .
أي : أن هجرته لهذه الأغراض الدنية والرخيصة ، فقد فاته فيها حضٌ كبير .
* مثال ذلك : رجلان خرجا من بلد الشرك إلى بلد الإسلام .
الرجل الأول :
رجل تاجر . وسمع أن التجارة في بلد الإسلام أكثر ربحاً ونفعاً ، والناس هناك يشترون بأغلى الأثمان فهاجر لهذا الغرض ... فهذا هاجر لأجل دينا يريد أن يصيبها .
الرجل الثاني :
رجل هاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام لأنه سمع عن إمراة غنية أو جميلة في بلاد المسلمين فأحب أن يتزوجها ... فهذا هاجر لأجل امرأة يريد أن يتزوجها .
هذان الرجلان حط النبي صلى الله عليه وسلم من شأنهما ، وقلل من همتهما وقدر هجرتهما ، فقال : [ فهجرته إلى ما هاجر إليه ] .. هكذا اختصر الكلام اختصاراً لأن غرضهما قليل وحقير ووضيع في جنب الله تعالى .
ضرب أمثلة أخرى لزيادة التوضيح :
1- ( الصلاة ) :
من كانت صلاته (لله ولرسوله) أي : طلباً للثواب من الله عز وجل ، واقتداء بفعل النبي عليه الصلاة والسلام فصلاته صحيحة مقبولة وله أجر عظيم من رب كريم .
أما من كانت صلاته لغير ذلك من ولي أو قبر يعتقد نفعهما من دون الله ، أو مع الله فصلاته لما نواه .
2- ( طلب العلم ) :
من كان طلبه للعلم (لله ولرسوله) أي : يرفع الجهل عن نفسه أولاً ، ثم يفيد من حوله من الناس ابتغاء الأجر من الله فطلبه للعلم صحيح وموفق وله ما نواه من الخير .
أما من كان طلبه للعلم لغير ذلك كحب الظهور والتباهي على الأقران ، فطلبه للعلم قاصر وأجره ضائع إن لم يتدارك نفسه ويصحح نيته .
ولاحظ قوله في الحديث : [ فمن كانت هجرته إلى دنيا ] .
قال العلماء: « دنيا » بضم الدال على المشهور، من الدنو، وهو القرب سميت بذلك لدنوها إلى الزوال .
ولا يخفى أن أمر النية أمرٌ عظيم ويحتاج إلى مجاهدة .
فالمسألة ليست سهلة ،، ومن صدق مع الله في إصلاح نفسه فإن الله وعده بالتأييد والإعانة قال الله تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } (العنكبوت : 69 ) .
والخلاصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال ، كمن قصد بعمله وجه الله ، أو تحصيل موعوده ، أو الاتقاء لوعيده (فتح الباري 1/12) .
* مسألة : حكم التلفظ بالنية ؟ .
النية معتبرة في ثلاث طهارات: معتبرة في الوضوء، ومعتبرة في الاغتسال من الحدث الأكبر، ومعتبرة في التيمم، فلابد فيها كلها من نية .
والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها لا في الصلاة ولا في الطهارة ، لأن الله تعالى هو العالم بما في القلب، وليس للإنسان أن يخبر الله تعالى بما يدور في خلده وبما في قلبه، فالله عالم بما في قلبك، فلا حاجة إلى أن تخبر الله وتقول: نويت كذا وكذا، والله سبحانه وتعالى يقول { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [ آل عمران :154 ] .
* ذكر بعض ما يستفاد من الحديث :
هذا الحديث فوائده لا حصر لها ، ولكن نذكر بعضها من باب الاختصار ليفهم المقصد من الحديث ...
1- في الحديث دليل على أن الإمام الأعظم يستحب له أن يخطب عند الأمور المهمة وتعليم الحكم المهمة، لأنه أبلغ في الإشاعة والإشتهار .
2- في الحديث دليل وحث على الإخلاص في النية، والإخلاص من أعمال القلب والفرق بينه وبين النية أن النية تتعلق بفعل العبادة، والإخلاص يتعلق بإضافه العبادة إلى الله تعالى فالنية لابد منها في صحة العمل، وأما الإخلاص فليس يتعين .
مثال ذلك : من صلى ونوى ولم يضف الصلاة إلى الله تعالى صحت صلاته، لأن العبادة لا تكون إلا لله سواء أضافها إليه أم لا، نعم الإخلاص مع النية أكمل من النية وحدها.
3- في الحديث دليل على التفريق بين النية الفاسدة والنية الصحيحة .
4- في الحديث دليل على أن ( الأمور بمقاصدها ) . والمراد بذلك أن المكلف فيه جانبان : الجانب الأول : " باطن " . والجانب الثاني : " ظاهر " . فأما باطنه فهو نيته في العمل ، وأما ظاهره فهو صورة العمل .
5- في الحديث دليل على وجوب إخلاص النية لله ، لأنه ليس للعبد من عمله إلا ما كان خالصاً لله، قال الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } ( البينة : 5 )
6- في الحديث الحثّ على الإخلاص لله عز وجل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس إلى قسمين : الأول : أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة . والثاني : بالعكس .
7- في الحديث دليل على حقارة الدنيا ودنو منزلتها ، ولا ينبغى للعبد ان يجعلها هي المقصد الأسمى ، وقد وصفها الله تعالى بأنها متاع ، وأن هذا المتاع قليل ، فقال { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } ( النساء : 77 ) أي : سريع الفناء لا يدوم لصاحبه ، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل لمن اتقى منكم ، ورغب في الثواب الدائم { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : شيئاً حقيراً يسيراً .
وعليه : ينبغي للعاقل أن يخلص نيته لله وحده في جميع أقواله وأفعاله لله جل جلاله .
والله أعلم .
الخميس : 20 / 1 / 1433هـ