بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد :


الأخلاق الإسلامية والحضارة الإنسانية



إنّ الحديث عن الأخلاق الفاضلة والقيم الرفيعة والسلوك القويم حديث رائق تطمئن له القلوب وتأنس له النفوس وتطرب منه الآذان وتهدئ به الخواطر فتترك للعقل فرصته لينطلق في رسم حدود العلاقة بين مفهوم العقيدة ودورها في بناء الحضارة



فليست العقائد والتصورات غير قوى كامنة تحفّز الإنسان على السير بمقتضاها لبناء مدنيته والرقي بحضارته



وليست الأخلاق والقيم والفضائل والمثل غير تجسيد واقعي لحقيقة العقائد والتصورات ودرجة تلاؤمها مع الفطرة البشرية



إنّ القيم الخلقية والمثل العليا في الإسلام ليست مسألة تنبيهات مجرّدة ولا توجيهات متفرقة بل هي منظومة شاملة تهدف إلى بناء حضارة إنسانية فريدة في مجموع أنساقها الإجتماعية والإقتصادية والسياسية وفي علاقاتها الدولية .. فريدة في فنونها وصناعاتها كما هي فريدة في أهدافها وغاياتها ..



فالاخلاق في الإسلام هي الترجمة الحقيقية لصحّة العقائد التي يبشّر بها المسلمون وأحقيّة الجيل الذي يتحلى بها في قيادة البشرية جميعها نحو غد أفضل ليس للمسلمين فقط بل لجميع بني الإنسان ..

يقول الشيخ حنبكة الميداني رحمه الله : (وحين نتدبّر في حقيقة الإيمان نجده يستلزم في درجاته المرتقية كلّ الفضائل الإنسانية)

فالوظيفة التي أناطها الإسلام بالأخلاق هي وظيفة مهمة وحساسة يتوقف على نجاحها أو فشلها الحكم بالنجاح أو الفشل على المشروع الإسلامي بكامله ولهذا كانت مرحلة التربية هي أهمّ وأطول مرحلة من مراحل الدعوة إلى الله ففي إطارها يتمّ تربية نوازع الخير وتنميتها ومحاصرة دواعي الشرّ وإزالتها وفي إطارها تتمّ عملية تشكيل العقل المسلم وصياغته وذلك بحمايته من الحيرة والإضطراب الذين تخلّفها تلك المعارك الشديدة التي تنشؤها المجتمعات الموبوءة بحمى الغريزة والصراع على البقاء فينشأ المسلم في بيئة من الهدوء والسلام والسكينة فتنطلق قواه العقلية المبدعة في وسط يعينها على ذلك ويحفظ على الإنسان قوة إدراكه وتركيزه ..

سوف لن أخوض كثيرا في تعريف الحضارة والتمييز بينها وبين المدنية فالمهمّ هو فهم دور الأخلاق كمؤشّر على بقاء أو زوال الحضارة الإنسانية فقد أجمع الباحثون في تاريخ العمران البشري أنّ فترة نشأة الحضارات والدول هي الفترة الأكثر إزدهارا للفضائل والقيم وسرعان ما يصاحب إنهيارها إنهيار هذه الحضارات وتلك الدول



يقول المستر (ج.ه.دينسون) : ( في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدن على شفا جرف هار من الفوضى لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ; ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى , التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة , مشرفة على التفكك والانحلال ; وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ماكانت عليه من الهمجية , إذ القبائل تتحارب وتتناحر , لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار , بدلاً من الاتحاد والنظام . وكانت المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله . واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم



ويقول روبرت بريفاولت عن الدولة الرومية :



( لم يكن سبب إنقراض الدولة الرومية وسقوطها الأساسي الفساد الزائد (كالرشوة وغيرها) بل كان الفساد والشر وعدم المطابقة بالواقع مما صحب نشوء هذه الدولة من أول يومها وتغلغل في أحشائها إنّ كلّ مؤسسة بشرية تقوم على أساس زائف منها ولا تستطيع أن تنقذ نفسها بذكاء أو نشاط ولما كان الفساد مما قامت عليه هذه الدولة فكان لا بد ان تبيد يوما وتنهار .. )



ولهذا فقد أعجبني تعريفلله للحضارة في قوله (الإسلام هو الحضارة) وقد كنت كنت إلى عهد قريب مقتنعا بأنّ الحضارة إنمّا هي مجموع القيم والمفاهيم الدافعة للنهضة ومجموع الأطر والمناهج الفكرية التي تحكم هذه المفاهيم وتحتكم إليها بينما يتجه مفهوم المدنية إلى مجموع المنجزات المادية التي ينشؤها مجتمع معين في زمن معين بينما ينحصر مفهوم الثقافة في تعيين مجموع الأوضاع والسلوكات والأشكال التي تربط بين الدافع والنتيجة وقد بحثت كثيرا عمّا يجلي الحدود الفاصلة بين هذه المصطلحات إلاّ أنّي لم أجد كلمة أشمل من هذه فالإسلام هو الحضارة والحضارة هي الإسلام فإذا كان المسلم هو إنسان متحرّر من سلطان العبودية لغير الله فإنّ الحضارة كذلك ستكون وضعا يتحرّر فيه المجتمع الإنساني من سلطان العبودية لغير الله فالمسلم تخضع فيه قواه الغريزية لقوة إدراكه فتكون إختياراته وسلوكياته منسجمة مع تصوره لحقيقة الحياة والكون ولشعوره بالزمان والمكان والمجتمع المسلم هو الذي تتشكّل فيه الاخلاق والقيم كمجموعة من الأنساق في السياسة والإقتصاد وفي الفنون والآداب وأنواع المعارف



لقد عرف أعداؤنا هذه الحقيقة فعملوا على إخفائها وطمس معالمها وآثارها وعلى زرع نقيضها والتبشير بما يقطع على المسلمين خط الرجعة ويبقيهم مفتونين بما تثيره قيم الغرب ومدنيته من بهارج تسلب العقول وتغري النفوس بمواقعة ما تعرضه من فواحش وآثام تمزّق النفس البشرية وترهن مستقبل الإنسان وفي هذا يقول الدكتور صموئيل زويمر في جزء من خطاب له في مؤتمر في القدس عام 1935 موضحاً اهداف التبشير :



( .. ولكن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن في هذا هداية لهم وتكريماً ،وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه، وتهنئكم عليه دول المسيحية والمسيحيون كل التهنئة. لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع حتى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية ... )


.............................. ...