بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون

إن الله تعالى بعث الرسل مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و الرسالة التي جاءوا بها جميعا على اختلاف شرائع بعضهم هي رسالة التوحيد , الدعوة لنبذ الشرك و .عبادة الله وحده لا شريك له


و كان كل رسول يبعث في قومه خاصة ثم بعد أن يتوفاه الله تضعف رسالته شيئا فشيئا و منهم من يُحَرَّف كتابه و يأتي من بعده أحبار و رهبان يكتمون هذا الكتاب و يحرفون كثيرا منه ليوافق أهوائهم و يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ثم ختم الله النبيين و المرسلين بنبيينا محمد صلى الله عليه على آله و أصحابه وسلم و نزل إليه أفضل كتاب و بعثه رحمة للعالمين منقذا للبشرية من براثن الشرك و الجهل الذي وقعوا فيه ببعدهم عن ملة إبراهيم و اسحق و يعقوب و النبيين جميعا و بانسلاخهم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها و بإعراضهم عن التعلم و التدبر



فقد روى مسلم في صحيحه حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه

"وإن الله نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان"

ولأن نبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء و المرسلين و كتابه آخر الكتب فإن الله تعالى شاء وقدر بفضله و رحمته أن يحفظ هذا الكتاب بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم من التحريف و التبديل و يظهره على الدين كله فلا يُحرفه محرف ولا يكتمه عن الناس بشرا كائنا من كان حتى و سخر الله له من جمعه و كتبه و حفظه كما سخر من كتب و حفظ كثيرا من السنة النبوية منها ما حُفظ و انتقل بالتواتر العملي كالصلوات الخمس و منها ما انتقل مشافهة و منها ما حفظ في الكتب يتفاوت بعد ذلك الناس في علمهم بها على قدر ما المطلوب

و القرآن كله قطعي الثبوت بحفظ الله له لكن دلالته النص فيه تتفاوت
بين الواضح الدلالة و هو المحــكم الذي إما نص لا يمكن أن يحتمل إلا معنى واحد ولا يحتاج لغيره ولا يحتمل نسخا أو تخصيصا و الظاهر الذي يتبادر معناه إلى الذهن عند سماعه ولا يحتاج غالبا إلى نص آخر

و بين الخفي الدلالة الذي يُشكل معناه فقد يكون مجملا وهو ما احتمل معنيين أو أكثر دون رجحان أحدهما عند السامع

قال صاحب مراقي السعود::
وذو وضوح محكم، والمجمل**** هو الذي المراد منه يجهل

والمجمل أنواع منها: اللفظ المشترك وهو ما وضع لأكثر من معنى كالقرء للطهر والحيض، وكالعين للباصرة والجارية.... ومنها مرجع الضمير إذا احتمل رجوعه إلى أكثر من معنى كما في قول الله تعالى: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ. فيحتمل رجوعه إلى الأهل والأولياء، ويحتمل رجوعه إلى الأزواج السابقين، ومن الإجمال ما هو مطلق بطبيعة بعض الكلام مثل الصلاة والزكاة... قبل بيانها، ومنه ما هو نسبي فيكون مجملاً بالنسبة للبعض دون البعض لذلك أمر أهل العلم ببيان ما يعلمونه لمن لا يعلمون، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين ما أجمل ويوضح ما أشكل بأقواله وأفعاله.... كما أمره الله تعالى بقوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.

وحكم المجمل التوقف عن الاستدلال به حتى يتبين المراد منه أو يترجح أحد معانيه بدليل، وقد يبين المجمل بما يساويه في القوة والدلالة كما يبين بما هو أضعف منه،
كما قال صاحب المراقي:
وبين القاصر من حيث السند**** أو الدلالة على ما يعتمد.

قال تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات"

و لما كان التوحيد هو أصل الأصول الذي بعث الله جميع الرسل للدعوة إليه ثم مكارم الأخلاق و تحريم الفواحش مما لم تختلف فيه الشرائع بل هو مما فطر الله عليه النفوس فصاحب الفطرة السليمة يدرك هذا بفطرته
كما أن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كان موحدا لله من غير أن ينزل عليه كتاب

و النبي محمد صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل عليه الكتاب كان يتعبد لله في غار حراء و كان في قومه الصادق الأمين كانت بذلك نصوص الدعوة للتوحيد و نبذ الشرك و الدعوة لمكارم الأخلاق من النصوص الواضحة الدلالة المحكمة التي يدرك معناها كل من يتكلم العربية ولا تشكل بحيث تحتاج نص آخر أو قرينة لبيان المراد منها

فقد جاء في التحرير و التنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات":

فعن ابن عباس : أن المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كتوحيد الله تعالى ، وتحريم الفواحش ، وذلك ما تضمنته الآيات الثلاث من أواخر سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم والآيات من سورة الإسراء وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وأن المتشابه المجملات التي لم تبين كحروف أوائل السور .

ثم قال:
وقد دلت هذه الآية على أن من القرآن محكما ومتشابها ، ودلت آيات أخر على أن القرآن كله محكم ، قال تعالى كتاب أحكمت آياته وقال تلك آيات الكتاب الحكيم والمراد أنه أحكم وأتقن في بلاغته ، كما دلت آيات على أن القرآن كله متشابه ، قال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها والمعنى أنه تشابه في الحسن والبلاغة والحقية ، وهو معنى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فلا تعارض بين هذه الآيات : لاختلاف المراد بالإحكام والتشابه في مواضعها ، بحسب ما تقتضيه المقامات . اهــ

وقال ابن كثير في تفسيره:
وأحسن ما قيل فيه الذي قدمناه ، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله ، حيث قال : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه اهــ

قال ابن جرير الطبري:
يعني بقوله - جل ثناؤه - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن .

وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات . يعني ب " الآيات " آيات القرآن .
وأما " المحكمات " فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعبر ، وما أشبه ذلك . اهــ

و لا يمنع هذا الأصل أن النصوص الواضحة الدلالة يتفاوت الناس في مقدار العلم المتعلق بها

فقوله تعالى "الحمد لله رب العالمين" يعلم الشخص البسيط منها إجمالا أن الله له الحمد و الشكر و هو رب كل شئ و يتعبد الله بقولها

و الشخص الأكثر علما يكون عنده علم أكثر بمعنى الحمد فالف لام التعريف هي للجنس و معناها أن جنس الحمد كله لله و أن الحمد هو ذكر الله بصفات كماله مع محبته و الرضا به و أن الحمد و الشكر بينهما عموم و خصوص الحمد عام في الصفات الذاتية اللازمة و المتعدية للغير و خاص بالقول فقط و الشكر العكس عام في القول و القلب و الجوارح خاص بالصفات المتعدية
لكن هذا العلم الزائد ليس بالضرورة أن يكون عند كل الناس فيكفي المسلم أن يؤمن بأن الله مستحق الحمد و الثناء و يكثر من حمده
فبهذا يكون الأصل المفروض علمه قد بلغ كل من سمع قوله تعالى "الحمد لله رب العالمين" ثم بعد ذلك يتفاضل الناس في علمهم بالتفاصيل

أما النصوص الأخرى التي تكون مجملة أو يٌشكل فهمها من لفظها فلابد للشخص أن يبحث فيها أكثر من كتب التفسير أو السنة أو يسأل أهل العلماء ليبينوا له مثل لفظ الكلالة و القروء هل المقصود به الحيضات أو الطهر و هكذا

و لأن نصوص العقيدة و على رأسها نصوص الدعوة للتوحيد نصوص محكمة كان بلوغ حجتها يحصل بسماعها

و على هذا يكون للعلماء مهمتين أساسيتين:

المهمة الأولى:
=========
التذكير بما هو معلوم بالضرورة من القرآن المتلو و المسموع و السنة المتواترة و التنبيه على أهميته و دعوة المنحرفين عن الحق للإنابة و التوبة و من أهمها العقيدة و على رأسها توحيد الله و التحذير من الشرك به
فدورهم هنا ليس إقامة الحجة إذ الحجة قائمة بمحكم كتاب الله الذي حفظه و لا يكاد يخلو بيت منه و مسموع في المساجد و الاعلام و غيره و بكونه في متناول الناس
لكن دورهم أن يخرجوا من ضل السبيل و حاد عن طلب العلم و اتبع هواه من ظلمات الجهل و الشرك إلى نور الايمان
منقذين هؤلاء من الضلال في الدنيا و العذاب في الآخرة إلى الهدى و التقى و النجاة
أما من يدعي أن الحجة لم تكن قائمة فقوله هذا يلزم منه أن وجود العلماء نقمة على الناس إذ أن الناس كانوا معذورون بجهلهم ينعمون بهذا الجهل مغفور لهم كل ما هم عليه من شرك و لهم جنات النعيم يوم القيامة فجاء العلماء بعلمهم فأقاموا عليهم الحجة فأدخلوهم جهنم فكان جهلهم نعمة و علمهم نقمة ولا يقول ذلك إلا جاهل أو مكابر

المهمة الثانية:
=========
تعليم الناس الأحكام المختلفة و إصدار الفتاوى في الأمور التي تحتاج لعلم تفصيلي و علوم الآلة لاستنباط الأحكام الشرعية و القيام بالامامة في الصلاة و غيرها التي يكون فيها ضمنيا تعليم بعض الأحكام العملية

كما أن عموم الناس عليهم:
التفقه فيما يلزمهم من أمور الدين بقراءة القرآن و سماعه و الحرص على طلب العلم و تزكية النفس
و عليهم أيضا السؤال فيما يُشكل و يحتاج لتفصيل و اطمئنان القلب للإجابة كما جاء في الحديث الذي رواه الامام أحمد في مسنده عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له
"استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك"
وهو من أحاديث الأربعين النووية ، وقد حسنه النووي والمنذري والشوكاني ، وحسنه الألباني لغيره في "صحيح الترغيب" 1734

وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْبِرُّ مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَلَمْ يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ) رواه أحمد (29/278-279) طبعة مؤسسة الرسالة ، وصححه المحققون بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط . وقال المنذري : "إسناده جيد" انتهى . "الترغيب والترهيب" (3/23) ، وكذلك قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (1/251) ، والشيخ الألباني في "صحيح الترغيب" (2/151)

قال ابن القيم رحمه الله:
"لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه ، وحاك في صدره من قبوله ، وتردد فيها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (استفت نفسك وإن أفتاك الناس وأفتوك)
(إعلام الموقعين عن رب العالمين - 4/195)
فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولا ، ولا تخلصه فتوى المفتي من الله إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه ، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من نار)
والمفتي والقاضي في هذا سواء ، ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن ، سواء تردد أو حاك في صدره ، لعلمه بالحال في الباطن ، أو لشكه فيه ، أو لجهله به ، أو لعلمه جهل المفتي ، أو محاباته في فتواه ، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة ، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه ، وسكون النفس إليها"
انتهى
"إعلام الموقعين" (4/254)


و يقول ابن القيم كلاما نفيسا في "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان - الباب الخامس"
لما كان في القلب قوتان:
قوة العلم والتمييز
وقوة الإرادة والحب
كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته
فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل
وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه

وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا كان النصاري أخص بالضلال لأنهم أمة جهل واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد وهذه الأمة هم المنعم عليهم ولهذا قال سفيان ابن عيينة

من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصاري ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود لأن النصاري عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه

وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم عن النبي قال: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون

وقد جمع الله سبحانه بين الأصلين في غير موضع من كتابه فمنها قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون. فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسوله فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. وقال تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. وقال الله تعالى في وسط السورة: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيعين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة إلى آخر الآية، وقال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالعمل بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو فكر الناس في سورة والعصر لكفتهم

وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة: يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره
اهــ

فالقصد أن الانسان عليه أن يسعى في طلب العلم بسماع القرآن و تلاوته سماع المتدبر له الحريص على أن يزداد إيمانه و يعمل به و ليس سماع اللاهي عنه يسمعه وهو يتحدث أو يلهو أو مشغول عنه و الحرص على معرفة السنة و كل ذلك قراءة و سماعا و لو تعذر يكون بسؤال العلماء

و الذي يعنينا هنا باب العقيدة و بالأخص التوحيد و نبذ الشرك

و كما سبق بيانه فإن نصوص الكتاب جاءت محكمة واضحة الدلالة في الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له نصوص توحيد الله في ربوبيته و ألوهيته و أسماءه و صفاته و نبذ الشرك و من توحيد الألوهية عدم صرف أي عبادة إلا لله من سجود و دعاء و استغاثة و خضوع كامل لأوامره و نواهيه و منه توحيد الحاكمية بالحكم بما أنزل الله من تشريع لا مشرع سواه

و الأمثلة على ذلك كثيرة

قال تعالى "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون"

فهنا واضح جدا أن البلاغ في أمر التوحيد يحصل بمجرد السماع

يقول القرطبي في تفسيره للآية:
قوله تعالى : وإن أحد من المشركين أي من الذين أمرتك بقتالهم . استجارك أي سأل جوارك ، أي أمانك وذمامك ، فأعطه إياه ليسمع القرآن ...

ثم يقول:
قال العلماء : في قوله تعالى : حتى يسمع كلام الله دليل على أن كلام الله عز وجل مسموع عند قراءة القارئ ، قاله الشيخ أبو الحسن والقاضي أبو بكر وأبو العباس القلانسي وابن مجاهد وأبو إسحاق الإسفراييني وغيرهم ، لقوله تعالى : حتى يسمع كلام الله فنص على أن كلامه مسموع عند قراءة القارئ لكلامه .

ويدل عليه إجماع المسلمين على أن القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا : سمعنا كلام الله
اهــ

قال بن جرير الطبري:
يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن استأمنك ، يا محمد ، من المشركين ، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، أحد ليسمع كلام الله منك وهو القرآن الذي أنزله الله عليه ( فأجره ) ، يقول : فأمنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه ( ثم أبلغه مأمنه ) ، يقول : ثم رده بعد سماعه كلام الله إن هو أبى أن يسلم ، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن "إلى مأمنه اهــ

فلاحظ قوله (يتلوه) فقط و لم يقل (يشرحه) أو (يفسره)
لأن الكلام هنا عن الدعوة للتوحيد و نصوص التوحيد ظاهرة المعنى فلهذا مجرد تلاوتها كافية في بلوغ الحجة و يستوي في هذا المشرك الأصلي و المشرك الذي ينتسب للاسلام بل إن المنتسب للإسلام مفترض أن يستمع بتدبر أكثر لأنه يؤمن إبتداء بأن هذا كلام الله

قال تعالى "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون"

قال تعالى "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه"

قال الخافظ بن كثير:
وقوله تعالى : ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) أي : تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن ، ولا ينقادوا لأوامره ، ( والغوا فيه ) أي : إذا تلي لا تسمعوا له اهــ

قال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"

قال ابن جرير الطبري:
يقول - تعالى ذكره - : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي يعظهم بها في آي القرآن الذي أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام ، ويتفكرون في حججه التي بينها لهم في تنزيله فيعلموا بها خطأ ما هم عليه مقيمون ( أم على قلوب أقفالها ) يقول : أم أقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله ، لو تدبره القوم فعقلوه ، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك . اهــ

قال الشوكاني في فتح القدير:
والاستفهام في قوله : أفلا يتدبرون القرآن للإنكار ، والمعنى : أفلا يتفهمونه فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة ، والحجج الظاهرة ، والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم ، وعقل ، وتزجره عن الكفر بالله ، والإشراك به ، والعمل بمعاصيه أم على قلوب أقفالها ( أم ) هي المنقطعة : أي : بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون . اهــ

فلو لم يكن سماعه و تلاوته حجة لما كان هناك فائدة عملية في الإنصات أو التدبر

قال تعالى "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"

فتلاوته يزيد بها الايمان و لولا أنها تحمل معنى مفهوم مؤثر في السماع لما حصل بذلك زيادة للإيمان

و نصوص السنة تؤكد هذا المعنى و للإختصار سأكتفي ببثلاث أمثلة منها:

الأول:
روى ابن أبي شيبة في مصنفه و الحافظ أبو يعلى في مسنده
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه ؟ فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة . فقالوا : أنت يا أبا الوليد . فأتاه عتبة فقال : يا محمد ، أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك ، فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ; فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا . والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف ، حتى نتفانى - أيها الرجل - إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فرغت ؟ " قال : نعم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- : ( بسم الله الرحمن الرحيم . حم تنزيل من الرحمن الرحيم )
حتى بلغ : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)
فقال عتبة : حسبك ! حسبك !

و رواها ابن هشام أيضا في السيرة و جاء فيها:
فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال : " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك"

فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : أقسم - يحلف بالله - لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة . يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ! قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم . اهــــ
ذكر القصة الحافظ بن كثير في تفسيررأول سورة فصلت

و الدلالة واضحة ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على أن قرأ له آيات من سورة فصلت

الثاني:
روى الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"

يقول الشيخ محمد سالم بن محمد الأمين المجلسي تعليقا على الحديث:
فهؤلاء قوم أفتوا بجهل فضلوا وأضلوا مقلديهم الجاهلين فلم يُعذروا بجهلهم ولم يمنعهم جهلهم من أن يوصفوا بالضالين، وهذا في قوم الأصل فيهم الإسلام حتى لا يقال إن ما مضى في قوم الأصل فيهم الشرك. اهــ

فلو كانت الحجة لا تقوم على الناس إلا بتلقين العلماء لهم فكيف يوصف الناس بأنهم ضالين بعد ما سألوا العلماء و أفتوهم

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى: 7/166):
ولفظ الضلال إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى، سواء كان عن علم أو جهل ولزم أن يكون معذبا، لقوله: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون}

وقوله: {ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنا كبيراً}

الثالث:
و على العكس من حال القوم المذكورين في الحديث الأول الذين ضلوا و فيهم مفتين يفتونهم نجد في الحديث التالي قوم ناجون و لم تقم عليهم الحجة لماذا؟ لارتفاع القرآن في هذا الزمن من الأرض

فقد روى الحاكم في مستدركه و ابن ماجه بسند صحيح
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن عبد الجبار ، ثنا أبو معاوية ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن ربعي ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ، لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ، ويسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، ويبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير ، والعجوز الكبيرة ، يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها " . فقال صلة : فما تغني عنهم لا إله إلا الله لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك ؟ فأعرض عنه حذيفة رضي الله عنه فردد عليه ثلاثا ، كل ذلك يعرض عنه ، ثم أقبل عليه في الثالثة ، فقال : " يا صلة ، تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار ، تنجيهم من النار.
قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه. و وافقه الامام الذهبي
و زاد ابن ماجه "لا صلاة"

فهنا العذر بالجهل واضح سببه و هو ارتفاع القرآن حتى أنه لا يبقى منه في هذا الزمن آية و ليس لأنه لم يوجد عالم يقيم الحجة و لذلك كانوا معذورين بالجهل في عدم إقامة باقي أركان الإسلام لكنهم في ذات الوقت لم يشركوا بالله فإن لا إله إلا الله التي بقيت معهم منعتهم من الشرك و نجوا بها من النار

وفي هذا الحديث؛ دلالة ظاهرة على أن أظهر شرائع الإسلام قد تخفى على كثير من الناس، وأنه من كان متمسكا بلا إله إلا الله؛ تنجيه من النار في أزمنة الفترات ما اجتنب الشرك


فصــل: حقيقة الإسلام و الشرك و وصف المعين بأحدهما
============================= ========

حقيقة الإسلام : هو الإستسلام لله بالتوحيد والخلوص من الشرك بعلم وبيقين وبصدق وبمحبة وبقبول وبإنقياد وبترك للشرك قائلاً ذلك بلسانه كافراً بالطاغوت , ومن أتى بهذه الأمور فقد قامت فيه حقيقة الإسلام.

قال الله تعالى :{ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} الآية .

وفي الحديث (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله)

قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : "إن النطق بها من غير معرفة معناها ولا عمل بمقتضاها من التزام التوحيد وترك الشرك والكفر بالطاغوت فإن ذلك غير نافع بالإجماع" اهـ

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : "أجمع العلماء سلفا وخلفا من الصحابة والتابعين والأئمة وجميع أهل السنة أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر والبراءة منه" اهـ

حقيقة الشرك : أن تجعل لله نداً وهو خلقك (وهو تعريف نبوي)

قال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه مرفوعا (أي الذنب أعظم قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك)

المقصود بأسماء الدين:
المراد بأسماء الدين مثل مسلم ومشرك ومؤمن وكافر ومنافق وفاسق وعاصي وملحد ومبتدع وضال ومخطئ ومجتهد ومقلد وجاهل ويهودي ونصراني ومجوسي وطاغي ومفسد وكاذب وأمثال ذلك

قال ابن تيمية:
"قد فرق الله بين ما قبل الرسالة وما بعدها في أسماء وأحكام وجمع بينهما في أسماء وأحكام"
وقال أيضا : "إن اسم مسلم ويهودي ونصراني ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لاعتقاده وإرادته وقوله وعمله
إلى أن قال:
"كل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو من أهل الكتاب هو من هذا الباب"
و قال أيضا : "اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدنيا وذكر أن دخول الجنة والتحريم للنار من الأحكام الكلية" اهـ
(مجموع الفتاوى: 20/37)

فانظر قوله:
(كل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك)
وهو كلام صريح من ابن تيمية على أن اسم الشرك يلحق من اتصف به

قال الشيخ عبد اللطيف في (المنهاج: ص 316)
فيمن يظن ويعتقد أن كلام أهل العلم وتقييدهم بقيام الحجة وبلوغ الدعوة ينفي اسم الكفر والشرك والفجور ونحو ذلك من الأفعال والأقوال التي سماها الشارع بتلك الأسماء

وقال:
(إن عدم قيام الحجة لا يغير الأسماء الشرعية بل يُسمى ما سماه الشارع كفرا أو شركا أو فسقا باسمه الشرعي ولا ينفيه عنه وإن لم يعاقب فاعلها إذا لم تقم عليه الحجة وفرق بين كون الذنب كفرا وبين تكفير فاعله)

وقال ابن القيم رحمه الله عند كلامه في أقسام الكفر:
(كفر صادر عن جهل وضلال وتقليد الأسلاف، وهو كفر أكثر الأتباع والعوام)
"مفتاح دار السعادة: 1/331"

قال شيخ الإسلام رحمه الله في (مجموع الفتاوى: 16/ 8)
(فصل في السماع: أصل السماع الذي أمر الله به، هو سماع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، سماع فقه وقبول، ولهذا انقسم الناس فيه أربعة أصناف: صنف معرض ممتنع عن سماعه، وصنف سمع الصوت ولم يفقه المعنى، وصنف فقهه لكنه لم يقبله، والرابع الذي سمعه سماع فقه وقبول،

فالأول: كالذين قال فيهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون")

و يقول في (مجموع الفتاوى: 16/9 - 10 ):
الصنف الثاني: من سمع بذلك لكن لم يفقه المعنى وذكر آيات في هذا الصنف
إلى أن قال:
(قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا}، وقوله: {أن يفقهوه}؛ يتناول من لم يفهم منه تفسير اللفظ كما يفهم بمجرد العربية، ومن فهم ذلك لكن لم يعلم نفس المراد في الخارج، وهو الأعيان والأفعال والصفات المقصودة بالأمر والخبر بحيث يراها ولا يعلم بها أنها مدلول الخطاب، مثل من يعلم وصفا مذموما ويكون هو متصفا به أو بعضا من جنسه، ولا يعلم أنه هو داخل فيه، قال تعالى: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}، فقوله تعالى: {لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم}، لم يرد به مجرد إسماع الصوت، لوجهين، أحدهما؛ أن هذا السماع لا بد منه ولا تقوم الحجة على المدعوين إلا به، كما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }
إلى أن قال:
(... والثاني؛ أنه وحده لا ينفع، فإنه قد حصل لجميع الكفار الذين استمعوا القرآن وكفروا به - كما تقدم - بخلاف إسماع الفقه، فإنّ ذلك هو الذي يعطيه لمن فيه خير)

و قال شيخ الإسلام أيضا في (مجموع الفتاوى 20/ 59):
(والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به) اهـــ

و هذا موافق لما تقرر أن الحجة في التوحيد يكفي فيها السماع بل يكفي فيها وجود القرآن في متناول الناس

أما الأمور التي تحتاج لشرح و تفصيل أو فتوى فهي الأمور الخفية و الأحكام التي تُعرف بالاستنباط

أما العقيدة و على رأسها التوحيد و نبذ الشرك الأكبر تكفي فيها نصوص القرآن المحكمة بل تكفي فيها شهادة لا إله إلا الله

قال تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم"


و لله الحمد و المنة