قال ابن القيم رحمه الله في كتابه (مفتاح دار السعادة):
" وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم, بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم, فان استقاموا استقامت ملوكهم, وان عدلوا عدلت عليهم, وان جاروا جارت ملوكهم وولاتهم, وان ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك, وان منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم مالهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم, وان أخذوا ممن يستضعفونه ما لايستحقونه في معاملاتهم أخذت منهم الملوك ما لايستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف, وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة, فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم, وليس في الحكمة الالهية أن يولى على الأشرار الا من يكون من جنسهم, ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك, فلما شابوا شابت لهم الولاة1, فحكمة الله تأبى أن يولى علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر, بل ولاتنا على قدرنا, وولاة من قبلنا على قدرهم, وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها, ومن له فطنة اذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الالهية سائرة في القضاء والقدر ظاهرة وباطنة فيه, كما في الخلق والأمر سواء, فاياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئا من أقضيته وأقداره عار عن الحكمة البالغة, بل جميع أقضيته تعاى وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب, ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن ادراكها كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس, وهذه العقول الضعاف اذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت, كما أن الخفاش اذا صادفه ظلام الليل طار وسار.
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولازمها قطع من الليل مظلم
ولذلك كان من الغلط البين أن يعالج ظلم السلطان المسلم بالخروج عليه,بل كان من حكمة الشريعة البالغة أن جاءت بطاعته ما لم يأمر بمعصية, فاذا أمر بمعصية لم تشرع طاعته فيها, كما لم يشرع الخروج عليه, بل ولو كان في نفسه من أهل الفجور, روى مسلم عن حذيفة ررر أن رسول الله قال "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي, ولا يستنون بسنتي, وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان انس, قال:
قلت: قلت كيف أصنع - يارسول الله- ان ادركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وان ضرب ظهرك واخذ مالك فاسمع وأطع"اه.
1: من الشوب, وهو الخلط, ويطلق على الخديعة كما في (القاموس).