بسم الله الرحمن الرحيم .
أخي الكريم .
موضوع المجاز والحقيقة سهل ميسر ، لكن كثيرا ممن تعرَّضَ له يفعل ذلك إما تقليدا ، لأن فيه منعطفا رهيبا ألا وهو الجواب عن سؤال ما كان ليطرح وهو : ( هل في القرآن لفظ ليس حقيقة ) ؟ّّّّ
يسبق إلى الذهن المتسرع معنى ( هل في القرآن شيء باطل ) أو (كاذب) إذ الحقيقة هي الحق وضدها الباطل والكذب !!
وكي لا أطيل : فلعلك تقرأ هذا المقال :
الإشكال في هذا الموضوع دقيق جدا ، وسببه الخلط بين المصطلح الفني (الحقيقة) وبين اللفظ العربي (الحقيقة ) .
أرجو لمن يتابع كلامي من الإخوة - المنصفين - أن يتنبه إلى الفرق بين اللفظين .
قد يقول إنسان ما كلاما كذبا يأثم به ، وكلامه على الحقيقة .
وقد يقول إنسان ما كلاما حقا ، وليس كلامه على الحقيقة .
من فهم هذين الأمرين ، ولم يختلطا عليه فقد اهتدى إلى سر الإشكال في موضوع الحقيقة والمجاز .
والسر في ذلك أن يفهم لفظ (الحقيقة ) بما اصطلح عليه (أهل الفن ) من البلاغيين ، لا أن يفهم على فهْم اللسان العربي .
فلكل قوم مصطلحهم .
ف(الفاعل ) في اصطلاح النحاة ليس هو (زيد) في قولهم : زيد قام .
أما في اللغة العربية فكل الناس يعلمون أن زيدا هو فاعل القيام .
كذلك الإشكال هنا ، فلكل قوم مصطلحهم .
و مصطلح (الحقيقة) عند البلاغيين لا يراد به الحق الذي هو نقيض الباطل أو الكذب ! لا !
إنما المراد به الأصل الذي يستعمله فيه الناس مطلقا .
فإنه لا يكابر أحد أنه يتبادر إلى الذهن لفظ (بحر ) ولفظ (شجرة) ولفظ (حمار) ولفظ (كبش ) ولفظ (تفاحة) ولفظ (صاروخ ) ولفظ (رصاصة) في الأصل .
فهذه هي الحقيقة في هذه الألفاظ إنها أصل الاستعمال.
ثم أنه قد تستعمل هذه الألفاظ في كلام صادق حق مرادا بها غير الحقيقة .
إي على غير أصل الاستعمال .
فأقول - صادقا - أصف شخصا يجري بسرعة :
انطلق فلانٌ رصاصةً ، أو انطلق فلانٌ صاروخا .
و(رصاصة) هنا حال منصوب ، وكذلك (صاروخا ) .
وأنا صادق في هذا الكلام أقول الحق ، إلا أن الكلام ليس على الحقيقة .
والمقصود أنني استعملت في هذا الكلام لفظا أو ألفاظا على غير أصل استعمالها ، لا أنني كذبت أو قلت باطلا .
فإن العرب تقول : انطلق زيدٌ غزالا . وليس بغزال في حقيقته بل هو إنسان .
وقد أقول :
رأيت بحرا في المسجد يلقي الدر والجواهر .
فأين سعة المسجد من سعة البحر ؟! وأين من يلقي الدر والجواهر الثمينة كما يلقي النوى ؟!! وإنما المراد علم متبحر يلقي الفوائد على السامعين .
لذلك :
فالذين يقولون إن الكلام منه حقيقة ومجاز من أهل السنة : مرادهم : أن منه ألفاظا جاءت على أصل استعمالها ومنه كلام تجيء ألفاظه على غير أصل استعمالها ، وليس المراد بذلك الصدق أو الكذب .
والدليل كما قلت أنني قد أقول كلاما على غير الحقيقة وأكون صادقا ،
فأستعمل فيه اللفظ على غير أصله المتبادر إلى ذهن من يفقهون العربية ، أي إنه مجاز .
ومن أقوى الشواهد على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته :
(أسرعكن لحوقا بي أطولكنَّ يدا ) قالت عائشة رضي الله عنها ما معناه : فكنا نتطاول الأيدي إلى الجدار ننظر أيتنا أطول يدا ، فلما قبضت زينب رضي الله عنها ، وكانت قصيرة ، علموا أنه لم يرد الطول المتبادر إلى الذهن ولا اليد المتبادرة إلى الذهن ، وإنما مراده كثرة الصدقة ، والحديث صحيح لا غبار عليه ، ومن شك فليبحثْ .
فقد تبيَّن أن العرب ، وهذه عائشة الصديقة بنت الصديق ، الفصيحة التي تحفظ من الأشعار ما الله به عليم ، ومع ذلك تبادر إلى ذهنها اللفظ على أصله ، وتبيَّن لها بعض قبض زينب رضي الله عنها أنه لم يرد ذلك .
فيقول البلاغيون وبعض أهل السنة القائلين بالحقيقة والمجاز ، إن كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ليس على ( الحقيقة ) وإنما المراد به المجاز ومرادهم ليس على أصل الاستعمال ، أو ليس على الظاهر كما يقول البعض .
وبعض الناس يُخيَّلُ إليه أن القول في كلام الله أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم (ليس على الحقيقة ) يلزم منه القول بأنه (كذب) أو بأنه (باطل ) وهذا مردود كما تقدَّم بيانه في مقصودهم بلفظ (الحقيقة) فليس مرادفا للحق في استعمال البلاغيين .
بقي أن يقال إن منكري المجاز يقولون (إن المجاز يصحُّ نفيه) وهذا ليس صحيحا . لأن الذي ينفيه منكر المجاز ليس هو الذي يثبته المثبت .
فلو قلتُ - صادقا -عن شخص ما : زيد أسد .
فجاء منكر المجاز وقال هذا الكلام أنفيه أكون صادقا كذلك : زيد ليس أسدا .
فالجواب : أنني أثبت معنى شجاعة زيد بقولي أسد ، ولم أرد أنه أسد في الصورة ، وإنما أردت الشجاعة والبأس وقد صدقت ُ أنا في ذلك ، وأنت نفيتَ شيئا آخر : نفيْت الأسدية بمعنى الحيوان المعروف ، وأنت صادق أيضا !! و لا ضير إذ التناقض والذدية لم تقع على أمر بعينه .
فأين ما تدعيه من أن المجاز يصحُّ نفيه ؟!
أما من اعتذر بقوله إن إثبات المجاز ذريعة إلى نفي الصفات ، فلا علاقة لنفي الصفات بالمجاز ، فإن من علماء أهل السنة من يثبت الصفات على طريقة أهل السنة ويقول بالمجاز ، فالصفات لها قواعدها المعروفة المتوارثة عن الصلف الصالح من لدن الصحابة إلى اليوم .
وكذلك لا يضر قول القائل من هو أول من قال بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ؟
لأن هذا التقسيم إنما هو فني اصطلاحي مستنبط من مذاهب العرب في الكلام اقتضته ضرورة التعليم والتدريس والبيان ، وهذا مثل مصطلحات النحو على أقل تقدير .
والسيف الذي يصلته بعض الناس لنفي المجاز كما قدمت لك إنما هو أمران :
أولهما نفي الصفات وقد سبق حديث عائشة رضي الله عنها نفاة الصفات زمنا وقدْراً ، فقد علمت أن المراد فيه ب(طول اليد) إنما هي الصدقة وكانت اعترفت بأن اللفظ على ظاهره ! وثاني الأمرين وهو خشية أن يقال : هل في القرآن كلام على غير الحقيقة !!! ويحسبه من لم يفهم أنه يراد به الباطل كما تقدَّم .
بقي أن يقال :
إني أحسب أهل البلاغة أخطأوا في استعمال مصطلح (الحقيقة ) وربما تلقفوا ذلك عن بعض ضعاف الدين من المشتغلين بالأدب ، لأن التعامل مع كلام الله تعالى وكلام رسوله لا ينبغي أن يكون بمثل هذه المصطلحات التي يختلط على الناس فيها الفهم ، وتسبب الشقاق وتزداد به الخلافات .
وقد أدبنا الله تعالى بقوله :
(( لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا )) فغيَّر اللفظ - مع صحته وسلامة نيات الصحابة - خشية أن يؤدي إلى ما فيه إهدار لحق النبي صلى الله عليه وسلم .
ومع هذا ، فموضوع الحقيقة والمجاز عقيم لا ثمرة له كما قال بعض الأفاضل وصدق فيه ، فأي شيء يفيد المثبتين أو النفاة في عمل ؟!!!
والله أعلم .