بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله و الصلاة والسلام على رسوله و على آله و أصحابه
و بعد ,,,

هذه رسالة في بيان معنى الأدب شرعا و أمثلة عليه و مسألة السباب متى يكون من الفسوق ومتى يكون مشروعا


الجزء الأول: الأدب
==================
التعريف اللغوى:
الأدب يطلق على ما يليق بالشئ ، أو الشخص فيقال اداب الشخص وآداب القاضى ، والأدب الظرف وحسن التناول .
وأدبه فتأدب علمه (1)

تعريف الأدب فى الشرع:

مذهب الحنفية :
يقول العلامة الشرنبلالى الحنفى فى شرحه (مراقى الفلاح) نقلا عن (شرح الهداية):
"الأدب هو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه وحكمه الثواب بفعله وعدم اللوم على تركه، ويقول الطحاوى فى حاشيته تعليقا على ذلك: ويسمى بالنفل لأنه زائد عن الفرض وبالمستحب لأن الشارع يحبه وبالمندوب الآن الشارع بين ثوابه وبالتطوع لأن فاعله متبرع به قاله السيد، ثم عدد بعد ذلك آداب الوضوء كا الجلوس فى مكان مرتفع وعدم التكلم بكلام الناس" (2)

و فى (فتح القدير) ذكر صاحب (العناية) عند الكلام على الاستنجاء أن الغسل بالماء أفضل ثم- قال وهو أدب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يستنجى بالماء مرة ويتركه أخرى وهذا هو حد الأدب (3)

وفرق أبو بكر الكاساني صاحب (بدائع الصنائع) بين السنة والأدب فقال:
"إن السنة هى ما واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتركها صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين لمعنى من المعانى، أما الأدب فهو ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسم مرة أو مرتين ولم يواظب عليه" (4)

كذلك يستعمل الحنفية الأدب بمعنى الالتزام لما ندب إليه الشرح يقول صاحب (الفتاوى الهندية) تحت عنوان باب أدب القاضى:
"أدب القاضى هو التزامه لما ندب إليه الشرع من بسط العدل ودفع الظلم وترك الميل والمحافظة على حدود الشرع والجوى على سنن السنة" (5)

ومن هذا يتضح أن الحنفية يستعملون الأدب بمحنى المستحب والمندوب والنفل كما فى آداب الوضوء والاستنجاء، ويستعملونه أحيانا بالمعنى اللغوى

مذهب المالكية:
يذهب المالكية الى أن لفظ الأدب يطلق ويراد به عند بعضهم المستحب والمندوب والسنن فقط، ويراد به عند البعض الآخر ما يشمل المستحب والمندوب والسنة والواجب تسامحا
فقد جاء فى (الشرح الصغير) وحاشيته فى بيان شروط الجمعة وآدابها بعد أن ذكرت الشروط:
"وندب لمريد صلاة الجمعة تحسين هيئته من قص شارب وأظفار وحلق عمانة ونتف ابط، وقال الشيخ الصاوى فى حاشيته تعليقا على قول خليل " وآدابها " المراد من الآداب ما يشمل السنن" (6)

وفى باب بيان آداب قضاء حاجة الانسان قال الدردير:
"المراد بالآداب الأمور المطلوبة ندبا لمريد قضاء حاجته"
وقال:
"ندب لمريد قضاء الحاجة الجلوس وأن يكون بمحل طاهر وتسمية قبل الدخول الى أن قال ووجب استبراء الى آخر ما ذكره"
وذكر تحت عنوان الآداب أمورا مندوبة وأمورا واجبة ولذلك قال الصاوى فى حاشيته:
"الأدب هو الأمر المطلوب شرعاعند قضاء الحاجة وهو أعم من أن يكون الطلب واجبا أو مندوبا لأن بعض ما يأتى واجب"
وقال تعليقا على قول ا لدردير:
"المراد باالآداب الأمور المطلوبة ندبا أي بحسسب غالبها فلا ينافى أن بعضها واجب" (7)

وفى متن العشماوية فى باب آداب الجمعة قال:
"آداب الجمعة ثمانية وعد منها تجنب ما يتولد منه الرائحة الكريهة"
وقال الشيخ الصفتى فى حاشيته أن المراد بالآداب هو
"ما يطلب من المكلف تحصيه سواء كان واجبا كتجنب الرائحة الكريهة أوسنة كالغسل أو مستحبا كالتطيب لها الا أنه نقل عن حاشية الأمير أن عد هذا - أى تجنب ما يتلد منه الرائحة الكريهة- من باب الآداب مسامحة لأنه واجب والمراد بالآداب ما يطلب لا على سبيل الوجوب" (8)

مذهب الشافعية:
جاء فى (منهج الطلاب) :
فصل فى آداب الخلاء وفى الاستنجاء :
"سن لقاضى الحاجة أن يقدم يساره لما كان قضاءها ويمينه لانصرافها وأن ينحى ما عليه معظم"
إلى أن قال : "ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها"
وقال فى حاشية البجرمى تعليقا على ذلك : "الآداب جمع أدب وهو المطلوب سواء كان مندوبا أم واجبا"
ثم قال: "واعلم أن جميع ما ذكر فى هذا الفصل من الآداب محمول على الاستحباب إلا ترك الاستقبال والاستكبار والاستنجاء" (9)

وفى نهاية المحتاج فى باب آداب الخلاء أيضا : ذكر الرملى آداب الخلاء وعد منها عدم استقبال القبلة واستكبارها بالصحراء ، وعلق الشبراملسى فى حاشيته على ذلك فقال : الآداب جمع أدب وهو المستحب (10)

وفى باب آداب القضاء جاء فى (نهاية المحتاج):
"ليكتب الامام ندبا لمن يوليه كتابا بالتولية"
ثم عد أمورا مندوبة ثم قال: "ويستحب كون مجلسه فسيحا"
ثم قال: "ويكره له أن يشترى ويبيع أو يعامل مع وجود من يوكله" (11)

ومما تقدم يتبين أن الشافعية يطلقون لفظ الأدب على ما يندب وعلى ما يستحب وعلى ما يجب وعلى ترك مما يكره.


مذهب الحنابلة:
قال صاحب (متن الاقناع) تحت عنوان آداب التخلى:
"يبين أن يقول عند دخوله الخلاء بسم الله اللهم انى أعوذ بك من الخبث والخبائث ويكره دخوله بما فيه ذكر الله بلا حاجة ويحرم دخول الخلاء بمصحف ويستحب أن ينتعل وأن يقدم رجه اليسرى"
وقال صاحب (كشاف القناع): "المراد بآداب التخلى ما ينبغى فعله حال الدخول وقضاء الحاجة والخروج وما يتعلق بذلك" (12)
وفى باب آداب المشى الى الصلاة قال: "يسن الخروج الى الصلاة متطهرا بخوف وخشوع"
ثم قال: "ويستحب أن يقول اذا خرج من بيته ولو لغير صلاة بسم الله آمنت بالله الى آخر ما ذكر".
ثم قال بعد ذلك: "ويسن أن يقول: اللهم انى أسألك بحق السائلين عليك أن تقذنى من النار" (13)

وفى باب آداب القاضى قال صاحب (كشاف القناع):
"الأدب هو الأخلاق التى ينبغى التخلق بها والمقصود من هذا الباب بيان ما يجب على القاضى أو يسن له أن يأخذ به نفسه وأعوانه من الآداب والقوانين التى ينضبط بها أمور القضاء وتحفظهم من الميل والزيغ" (14)

وبذلك يشمل لفظ الأدب عند الحنابلة السنة والمستحب والواجب وترك ما يكره أو يحرم فعله على أساس المعنى اللغوى

يتضح مما سبق أن أن المفهوم الشامل للأدب الشرعي هو مفهومه عند الحنابلة وهو
السنة والمستحب والواجب وترك ما يكره أو يحرم فعله على أساس المعنى اللغوى و هو "ما يليق بالشئ ، أو الشخص"
أمثلة أخرى:
- رد السلام لقوله تعالى "وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا" (النساء 86)
- غض الصوت لقوله تعالى " وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان 19)
- عدم السخرية من الغير من غير ذنب ارتكبه و عدم اللمز و التنابز بالألقاب لقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الحجرات 11)
- الحياء لما ورد في الحديث الصحيح أن "الحياء شعبة من الإيمان" (15)



الجزء الثاني: السباب
==================

إن الأصل في المسلم الصلاح و طاعة الله ورسوله و حب الإيمان و الحق و بغض الكفر والباطل و لذا كان الأصل في تعامل المسلم مع المسلمين هو حسن الظن و سلامة اللسان و قد جاء هذا المعنى واضحا في كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات 12)
و عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (16)

لكن إذا ظهر من مسلم خلاف هذا الأصل شرع تغير التابع لهذا الأصل تبعا لذلك
فليس معنى حسن الظن أن الشخص يأتي بأنواع المنكرات الظاهرة أو الأقوال الباطلة المعلوم بطلانها و يبين له فلا ينزجر ثم يكون مطلوبا حسن الظن به , فلو كان الأمر كذلك لما كان هناك محل لإقامة الحدود ولا رد الشهادة و لا النهي عن المنكر ولا اتهام أحد وهذا باطل فما أدى إليه فهو باطل لأن هذا معناه ضياع الدين أو جزء كبير منه و ضياع حقوق العباد و ترك المنكرات من القول و العمل تنتشر بين الناس و ترك الباطل على حساب الحق بزعم حسن الظن وسلامة اللسان فمثل هذا لا يكون ظنا حسنا ولكن ظنا كاذبا و عمى عن رؤية الحق و لا السكوت عن هذا أو تزيينه يكون أدبا بل يكون نفاقا

يقول الشوكاني في (فتح القدير) في تفسير قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن":
الظن هنا : هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظن يظنه حتى يعلم وجهه ؛ لأن من الظن ما يجب اتباعه ، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظن ، كالقياس وخبر الواحد ، ودلالة العموم ، ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به فارتفع عن الشك والتهمة . اهــ (17)

يتضح هذا أيضا في مسألة القتال
فالأصل أن قتال المسلم من أغلظ الكبائر حتى أن الشارع سماها كفرا
لكن هل هذا على إطلاقه؟ الإجابة لا لأن هذا الأصل إنما هو في المسلم الغير مستحق للقتال فهو تابع للأصل في المسلم بترك الكبائر التي تستحق القتال أو القتل فإن أتى بكبيرة منهم شرع قتاله
و من ذلك قتال أهل البغي
قال تعالى " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الحجرات 9)
فسمى الله كلا الطائفتين "مؤمنين" و مع ذلك أوجب قتال الطائفة الباغية منهما حتى تفيء إلى أمر الله

و قتل قاتل النفس قصاصا
و قتل الثيب الزاني

فقتل أهل البغي ليس كفرا و لا قتل قاتل النفس قصاصا كفرا ولا قتل الثيب الزاني كفرا فهذا القتال و هذا القتل مشروعا لأن الواقع عليه مستحقــا لذلك

كذلك الحال بالنسبة للسب
فالأصل عدم تجريح المسلم بشئ ينتقص منه طالما لم يظهر منه ما يستوجب ذلك , شخص يصدر منه خطأ غير مقصود فتقول له يا أعمى أو يا حمار فهذا سباب من الفسوق حتى لو كان ذلك مزاحا فليس هذا مشروعا ولا من هدى النبي صلى الله عليه وسلم بل كان عندما يداعب أحدا لا يقول إلا حقا مثل ما روي عنه في قصة أكله التمر مع أبي بكر و قصة العجوز التي سألته دخول الجنة و مثل أنه دعى على بن أبي طالب أبا التراب

لكن الحال مثل الظن و مثل القتال إذا صدر من مسلم ما يستحق به السباب لا يكون سبابه فسوق حينئذ بل يكون سبابه مشروعا وقد يكون واجبا أيضا

و من أهم الحالات التي يشرع فيها السب (أو الشتيمة):
- الرد على من بدأ بالسباب تصريحا أو تلميحا واضحا
فهذا من باب القصاص و العقوبة بالمثل الذي أجازه الشرع
- زجر المجاهر بالمعصية أو الداعي لبدعة بعد تنبيهه أو مظنة علمه
- زجر من يفتن الناس في دينهم بتحسين باطل و أهله أو تقبيح الحق و أهله

و الأدلة على ذلك من نصوص الكتاب و السنة و أقوال السلف كثيرة

قال تعالى " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ" (البقرة 194)
وقال تعالى "وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" (النحل 129)
و قال تعالى "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا" (الشورى 40)
و قال تعالى "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ" (الشورى 41)

قال البغوى في تفسير قوله تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها":
[ سمى الجزاء سيئة ] وإن لم تكن سيئة لتشابههما في الصورة . قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحات والدماء .
قال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح ، إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله ، وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي اهــ (18)

و قال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم":
قوله تعالى : فمن اعتدى الاعتداء هو التجاوز ، قال الله تعالى : ومن يتعد حدود الله أي يتجاوزها ، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك ، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله ، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه ، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه ، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك ، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية ، فلو قال لك مثلا : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر ، وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول له : يا كذاب يا شاهد زور ، ولو قلت له يا زان ، كنت كاذبا وأثمت في الكذب ، وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته اهــ (19)

فهل يقال أن من يسب من سبه أن به فسوق؟!
بالطبع لا لأنه من القصاص المشروع

و مما ورد في السنة و أقوال السلف في سب المجاهر بالمعصية و المزين لأهل الباطل

1- عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية ، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" (20)

و لذا روي عن أَبِي بْن كعب ، إنه سمع رجلا ينادي : يا لفلان ، فقال له أعضض بهن أبيك ولم يكن ، فقال له : يا أَبَا المنذر ، ما كنت فحاشا ، فقال : إني سمعت النَّبِيّ صلي اللَّه عليه وسلم ، يقول : " من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أَبِيهِ ولا تكنوا " . قال الكسائي : يعني : انتسب وانتمى ، كقولهم ، يا لفلان ، ويا لبنى فلان ، فقوله : عزاء الجاهلية ، الدعوى للقبائل أن يقال : يا لتميم ، ويا لعامر ، وأشباه ذلك .

فهل أبي بن كعب كان به فسوق عندما قال ذلك؟
لا لأن هذا مشروع في حق من تعزى بعزاء الجاهلية

2- عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها"
قال فقال بلال بن عبد الله والله لنمنعهن
قال فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط وقال أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن (21)

فهنا لما بدا من بلال مجاهرة و جراءة في عصيان النبي صلى الله عليه وسلم في أمره رأى ابن عمر أنه مستحقا للسب فسبه
فهل كان ابن عمر به فسوق؟ حاشا و كلا بل الغيرة على محارم الله و ما كان من بلال من المجاهرة برفض الأمر بغير أي تأويل سائغ أعطاه الحق في زجره رغم أن بلالا ربما كان له عذر في ذلك من خشية الفتنة و علمه بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل
فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : " لو رأى رسول الله صلى الله عليه ، ما أحدث النساء لمنعهن الخروج إلى المساجد كما منع نساء بني إسرائيل " .
لكنه لما أبى الأمر بدون أي مسوغ شرعي استحق الزجر (22)

3- جاء في قصة حادثة الإفك في الحديث الطويل الذي رواه البخاري و غيره عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت
"فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر فقال يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي قالت فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج قالت وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية
فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد
فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين"
و إن كان سعد بن عبادة ليس من المنافقين بالطبع فهو صحابي أنصاري ذو مناقب و لا يشك مؤمن في حبه لله و رسوله و استعداده للدفاع عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الحمية التي ظهرت منه لم تكن في محلها في ذاك الوقت فلم يُلام أسيد بن حضير على قوله ذلك له لأن الأمر كان دفاعا عن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

و من أقوال السلف:
- عبارات الجرح و التعديل
فيقال هذا كذاب هذا مدلس هذا ليس بشيء هذا الخ
ولا يعتبر هذا السب من الفسوق ولا من الغيبة و النميمة أيضا
فالذي عليه جمهور الفقهاء أن هناك ستة حالات من القدح أو الذم لا تدخل في الغيبة و النميمة المحرمة شرعا و هي في هذين البيتين:
والقدح ليس بغيبة في ستة *** متظلم و معرف و محذر
و لمظهر فسقا و مستفت و من *** طلب الإعانة في إزالة منكر

قال الإمام النووي في التحذير:
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.

ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك، أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.

ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.

ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به. اهــ (23)
و لمزيد من تفصيل هذه الحالات و أمثلة عليها يراجع (رياض الصالحين)

- قال ابن مفلح في (الآداب الشرعية والمنح المرعية):
كان الإمام أحمد رحمه الله لا يأتي الخلفاء ولا الولاة والأمراء ويمتنع من الكتابة إليهم ، وينهى أصحابه عن ذلك مطلقا نقله عنه جماعة ، وكلامه فيه مشهور وقال مهنا : سألت أحمد عن إبراهيم بن الهروي فقال : رجل وسخ ، فقلت ما قولك إنه وسخ قال : من يتبع الولاة والقضاة فهو وسخ وكان هذا رأي جماعة من السلف اهــ (24)

فالامام أحمد يقول عن رجل مسلم و هو إبراهيم الهروي أنه رجل (وسخ) مع أن الولاة و القضاة الذي كان يتردد عليهم زمن الامام أحمد كانوا ولاة أمر مسلمين و يحكمون بشرع الله
فماذا يا ترى كان سيقول الامام الأحمد لو كان بيننا عن من يتردد على الطواغيت المبدلين لشرع الله القتلة المظاهرين للمشركين على المسلمين بل و يزين صورتهم و يرقع لهم ؟!!

نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا و نسأله الإخلاص و العمل الصالح
و من طعننا و اتهمنا بالبذاءة و الفسوق لا أقول له إلا حسبي الله ونعم الوكيل



============================== ===========

1- لسان العرب لابن منظور ج 2 ص 206 و 207 طبع دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر الطبعة الثانية سنة 1374 هـ .

2- حاشية الطحاوى على مراقى الفلاح شرح نور الإيضاح ج 1 ص 44 الطبعة الثانية طبع المطبعة الزهرية المصرية سنة 1328 هـ .

3- فتح القدير وبهامشه شرح العناية على الهداية ج 1 ص 149 الطبعة الأولى طبع المطبعة الكبرى الأميرية بمصر سنة 1315 هـ .

4- بدائع الصنائع للكاسانى ج 1 ص 24 الطبعة الأولى طبع مطبعة الجالية بمصر سنة 1328 هـ .

5- الفتاوى الهندية ج 3 ص 306 الطبعة الثانية طبع المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق سنة 1310 هـ .

6- الشرح الصغير ج 1 ص 32 و 33 .

7- حاشية الصفطى لابن تركى المالكى ج 1 ص 296 طبع مطبعة محمد على صبيح سنة 1383 هـ .

8- الشرح الصغير ج 2 ص 487 – 490 .

9- حاشية البجرمى ج 1 ص 51 طبع مطبعة مصطفى البابى الحلبى سنة 1345 هـ .

10- نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسى عليه ج 1 ص 115 طبع مطبعة مصطفى البابى الحلبى سنة 1357 هـ .

11- حاشية البجرمى ج 1 ص 316 .

12- كشاف القناع وبهامشه شرح منتهى الأرادات ج 1 ص 40 الطبعة الأولى طبع المطبعة العامرة الشرفية بمصر سنة 1319 هـ .

13- المرجع السابق ج 1 ص 217 .

14- المرجع السابق ج 4 ص 182 والروض المربع ج 2 ص 267 الطبعة السادسة طبع المطبعة السلفية بمصر سنة 1380 هـ .

15- متفق عليه

16- رواه الجماعة إلا أبا داود

17- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية ج 1 ص 1393 ط دار المعرفة سنة النشر: 1423هـ .

18- تفسير البغوي ج 7 ص 198 ط دار طيبة .

19- تفسير القرطبي ج 2 ص 335, 336 ط دار الفكر .

20- رواه النسائي في السنن الكبرى و أحمد في مسنده و البغوي في شرح السنة و ابن أبي شيبة في مصنفه وصححه الألباني وحسنه الأرناؤوط.
و رواه البخاري في الأدب المفرد بلفظ "من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوه" .
21- متفق عليه

22- رواه الإمام أحمد في مسنده و أبو داود في سننه و الطبراني في الأوسط و مسند الشاميين

23- رياض الصالحين ص 254

24- الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح ج 3 ص 476